تدخل مظاهرات العراق يومها السادس على التوالي، إذ بدأت الموجة الثانية للتظاهرات في الـ25 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ ولا تزال مستمرة، في موجة احتجاجات شعبية لم يشهد العراق لها مثيلاً منذ عام 2003.
يصر المتظاهرون على عدم العودة إلى منازلهم ما لم تتحقق جميع مطالبهم وإنهاء النظام الحاليّ برئاساته الثلاثة وإحالة الفاسدين إلى القضاء، مطالب جوبهت بتعنت حكومي تارة وتنازلات برلمانية وحكومية تارة أخرى. لكن أبرز الأحداث خلال الساعات الماضية هي استقالة عدد من نواب البرلمان ثم إقرار البرلمان عدة قرارات تتضمن إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاثة وجميع الدرجات الخاصة والوزراء والوظائف العليا.
تسارع الأحداث
في خضم الضغط الشعبي المتصاعد، أعلن أربعة نواب في البرلمان العراقي استقالاتهم من البرلمان رفضًا لأداء الكتل السياسية وعدم مقدرتها على تلبية مطالب المتظاهرين والعنف المستخدم ضدهم، بعد أن أدى قمع المظاهرات إلى سقوط 229 قتيلاً وآلاف الجرحى خلال الأيام الـ5 الماضية فقط. إذ استقال النائبان رائد فهمي وهيفاء الأمين عن الحزب الشيوعي المنضوي ضمن كتلة سائرون التي يتزعمها مقتدى الصدر، فيما استقال النائبان عن كتلة النصر: طه الدفاعي ومزاحم التميمي لأسباب مشابهة لاستقالة فهمي والأمين.
وفي هذا الصدد، كتب النائب فائق الشيخ علي تغريدة على تويتر يشرح فيها الخطوات الحقيقية لاستقالة أي نائب حتى يعد مستقيلاً قانونًا، وتتلخص بالتقدم بطلب الاستقالة إلى رئاسة البرلمان تحريريًا ثم قبول الطلب والموافقة عليها بواقع نصف عدد النواب زائد واحد أي (166) نائبًا بشرط حضور ثلثي أعضاء البرلمان (220) نائبًا، لافتًا إلى أن ذلك لم ولن يحدث.
لكل مَنْ يصدق باستقالة النواب:
جوابي:
الاستقالة يجب أن:
1- تقدّم تحريرياً.. لا شفوياً.
2- توافق عليها الرئاسة.
3- تُعرض على مجلس النواب للتصويت.
4- حضور ثلثي أعضاء المجلس.
5- يصوّت عليها النصف+ 1
وما تقدم لن يحصل لا ورب الكعبة!
لا تُخدَعوا!#شني_هاي
لن أضحك على شعبي.. لا والله.— فائق الشيخ علي/كلمتي للتاريخ (@faigalsheakh) October 27, 2019
محاولات برلمانية
في محاولة منه لامتصاص نقمة المتظاهرين، شرع البرلمان العراقي أمس بعقد جلسات استثنائية وأقر عددًا من القرارات التي رأى العديد من الخبراء وفقهاء القانون أنها وقتية. إذ اقر البرلمان حل مجالس المحافظات في المحافظات العراقية غير المنتظمة في إقليم، كما قرر المجلس بموجب المادة 142 من الدستور تشكيل لجنة نيابية خاصة لغرض إجراء تعديلات دستورية وتسليمها إلى مجلس النواب خلال مدة لا تتجاوز 4 أشهر فقط.
وجاء من ضمن القرارات السريعة لمجلس النواب العراقي أيضًا التصويت على قرار إلغاء المخصصات المالية وامتيازات المسؤولين والرئاسات الثلاثة وأعضاء مجلس النواب والهيئات المستقلة والقضائية والدرجات الخاصة والمحافظين، على أن يكون موعد تنفيذ قرار الإلغاء فوريًا.
إن تشريع أي قانون تسبقه خطوات عدة تتمثل بإعداد نص القانون ثم قراءته مرة أولى والتصويت عليه، ثم يطرح للقراءة الثانية ويصوت عليه في جلسة ثانية في يوم آخر غير يوم التصويت على القراءة الأولى، ثم يشرع ثم يصادق عليه من رئاسة الجمهورية ثم ينشر في جريدة الوقائع الحكومية ثم يصبح ساري المفعول بعد نشره
وفي هذا الصدد، يقول الخبير القانوني علي مظفر في حديثه لـ”نون بوست” إن جميع ما أقره البرلمان لا يعدو أن يكون مخدرًا للمتظاهرين لا أكثر، إذ إنها قرارات وليست قوانين، وفيها تناقض كبير مع قوانين سارية المفعول، والقانون لا يُلغى بقرار بل بتشريع قانون آخر يلغي الأول، ويضيف مظفر أن أولى المخالفات هي قرار حل مجالس المحافظات، فهذا القرار باطل دستوريًا وقانونيًا، وذلك بناء على قانون الانتخابات الذي أقر قبل 4 أشهر، ونص على استمرار عمل مجالس المحافظات الحاليّة حتى موعد الانتخابات المحلية القادمة في الأول من أبريل/نيسان القادم.
وعن بقية القرارات التي صوت عليها البرلمان العراقي اليوم، كشف مظفر أن إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاثة لا يكون إلا بتشريع قانون بذلك، فمخصصات الرئاسات الثلاثة منصوص عليها في قانون خاص بالدرجات الخاصة والمناصب العليا، ولا تلغى بقرار برلماني بل بقانون يتبع السياقات القانونية المتبعة في ذلك.
وحتى لو أراد البرلمان تشريع قانون في هذا الشأن، فإن تشريع أي قانون تسبقه خطوات عدة، وتتمثل بإعداد نص القانون ثم قراءته مرة أولى والتصويت عليه، ثم يطرح للقراءة الثانية ويصوت عليه في جلسة ثانية في يوم آخر غير يوم التصويت على القراءة الأولى، ثم يشرع ثم يصادق عليه من رئاسة الجمهورية ثم ينشر في جريدة الوقائع الحكومية ثم يصبح ساري المفعول بعد نشره، لافتًا إلى أن جميع ما أقره البرلمان لم يتبع هذه السياقات، بمعنى أن جميع ما صوت عليه البرلمان خلال الجلستين السابقتين سيكون مصيره الإلغاء بعد الطعن به أمام المحكمة الاتحادية.
وفي السياق، يرى المحلل السياسي رياض الزبيدي أن بعض الكتل السياسية تتلاعب بالمصطلحات السياسية، إذ إن التيار الصدري (سائرون) يعد من أكثر الكتل السياسية التي تتلاعب بالمتظاهرين وتحاول ركوب الموجة، ويضيف الزبيدي أن كتلة سائرون التي أعلنت تحولها إلى المعارضة لديها تمثيل في الحكومة بـ4 وزارء و25 مديرًا عامًا ووكلاء وزارات ومحافظين وسفراء، وبالتالي فإن التحول إلى المعارضة يكون من خلال استقالة هؤلاء جميعهم والتحول إلى معارضة برلمانية تعمل على جمع تواقيع النواب من أجل التصويت على إقالة الحكومة، وهذا ما لم تقدم عليه كتلة سائرون ولن تقدم عليه.
صمود المتظاهرين
“صمود أسطوري” بهذه الكلمات يصف أحد متظاهري بغداد “محسن جعفر” وضع المظاهرات في العاصمة العراقية، إذ وبعد 5 أيام من الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الأمن، استطاع المتظاهرون فرض إرادتهم في ساحة التحرير رغم كم الوعيد والترهيب الذي يلاقونه، ويضيف جعفر في حديثه لـ”نون بوست” أن أكثر ما يثير الدهشة في الشباب المتظاهرين، أنهم تخلوا عن جميع التخندقات الطائفية والسياسية التي عملت على تعزيزها أحزاب السلطة وميليشياتها.
ويصف جعفر التكاتف بين المتظاهرين بغير المسبوق، خاصة أولئك الذين جاؤوا من المناطق شديدة الفقر في العاصمة وتحديدًا من مدينة الصدر، إذ إن أصحاب عربات “التكتك” كان ولا يزال لهم الدور الأكبر في إنقاذ المصابين وإيصال التعزيزات والمواد الغذائية للمتظاهرين، ولولاهم لما استمرت التظاهرات حتى الآن، كاشفًا عن تغير نوعي في الوعي الاجتماعي العراقي، فبعد أن كان جل أهل بغداد يضيقون ذرعًا بأصحاب عربات التكتك على اعتبار أنها ظاهرة دخيلة على العراقيين، انقلبت الآية إلى بذل كل الاحترام والتقدير لهم.
ويختتم جعفر حديثه لـ”نون بوست” بالقول: “يعجز المتظاهرون عن وصف الحالة التي يعيشونها في ميادين التظاهرات، قصص ووقائع بطولية لم يشهد العراق لها مثيلاً على مر تاريخه، وأحزاب السلطة بفسادها ساهمت في صنع هذه القصص”.
أما الصحفي حسين الشمري الموجود في ساحة التحرير بقلب العاصمة بغداد، فيؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن المتظاهرين مصرون على الاحتجاجات حتى تنفيذ المطالب، فليس لديهم ما يخسرونه، ويضيف الشمري أنه ومن خلال حضوره في الميدان، لم يلحظ أي مطالبات فئوية أو سلبية، فهذه المظاهرات تعد الأولى من نوعها كعرس شعبي توحد فيه الشعب العراقي بعد 16 عامًا من التفرقة الحزبية والمذهبية.
الصحفي حسين الشمري: “من الصعوبة بمكان التنبؤ بدقة بمسار الأحداث القادمة، فالمظاهرات كبيرة وليس هناك قيادة واضحة لها أو تنسيقية يمكن للحكومة التفاوض معها”
ويكشف الشمري أن البغداديين تحدوا فرض حظر التجوال وأصروا على الخروج مع عوائلهم إلى الشوارع مع علو أصوات الأغاني الوطنية والأهازيج التي لا تنتهي، لافتًا إلى أن جميع الاستفزازت الأمنية لم تفلح في إخراج التظاهرات عن سلميتها.
وعما ستفضي إليه الأوضاع حال استقالة حكومة عادل عبد المهدي، يعتقد الشمري أن الأمور قد تتجه في مسارين اثنين: الأول تراجع حدة التظاهرات على اعتبار أن جميع القوى السياسية ألقت باللوم على الحكومة الحاليّة في كم الفساد المتراكم منذ عام 2003، إلا أن المسار الثاني بحسب الشمري قد يكون أشد وطأة، ويتمثل برفض المتظاهرين استقالة الحكومة فقط، وعندئذ قد تتجه الأجهزة الأمنية نحو مزيد من القمع، لافتًا إلى أن هناك معلومات متواترة تفيد بأن الحكومة الحاليّة تلعب على عامل الوقت وإتاحة الفرصة للمتظاهرين حتى يصابوا بالملل وتتراجع حدة المظاهرات.
ويختتم الشمري حديثه بالإشارة إلى أنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بدقة بمسار الأحداث القادمة، فالمظاهرات كبيرة وليس هناك قيادة واضحة لها أو تنسيقية يمكن للحكومة التفاوض معها.
تستمر مظاهرات العراق وتتسع يومًا بعد الآخر، وسط عناد حكومي وإصرار شعبي، فإلام ستؤول أحداث الأيام القادمة؟ لا أحد يعلم.