على مدار أكثر من عقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدمين الاستفادة من المنصات بطرق متنوّعة، وتحولت خاصية المتابعة إلى أداة كسب قوة (وإن اختلفنا على تقييم تأثيرها وتبعاتها)، فكلما حصلت على عدد متابعين حقيقيين أكثر ازداد احتمال تأثيرك على مجموعة أكبر، فتسوّق لهم فكرة أو منتجاً أو تدعوهم إلى فعلٍ ما.
تراقب الدولة هذه القوة الآخذة بالتعاظم بعين القلق، لتمنع المؤثر من أن يصبح مؤثراً “أكثر من اللازم”، وتتخذ أساليب متعددة لضبط أي تحرك خارج السرب، مثل إصدار أنظمة وقوانين ضريبية تجعل من “التأثير” عملاً مكلفاً ومراقباً، أو تنظيم لقاءات تجمع المؤثرين بممثلين عن مؤسسات الدولة لمحاولة ضمّهم تحت عباءتها، أو قصّ جناح المؤثرين سواء المغردين أو غيرهم عبر قانون العقوبات الجنائية باستخدام صياغات فضفاضة وغير معرّفة بدقّة، تعرّض المغرّد/ المؤثر لعقوبات قاسية وغرامات باهظة نتيجة لتغريده خارج السرب. وأمام هذه الإجراءات تتقلص مساحة الحرية التي منحتها منصات التواصل، وتترك المستخدم المؤثر أمام خيارين اثنين، إما أن يصبح “بوقاً” للدولة، أو “مجرماً” يستحق العقاب.
إخضاع المؤثرين
مع دخول الشركات والمشاريع الربحية بكاف أحجامها إلى منصات التواصل، أصبح المستخدم هو ذاته هدف الإعلانات وجهة تسويقها. ولأجل تحقيق أقصى الأرباح، وتفاعلاً مع المنصات كمساحة للتسويق والدعاية، تستقطب الشركات المستخدمين الذين حصلوا على عدد كبير من المتابعين لتتعامل معهم كوجوه دعائية، وهو ما يطلق عليه “تسويق المؤثرين” (Influencer marketing). ومع ارتفاع الطلب أصبحت الدعاية غير المباشرة للمنتجات على وسائل التواصل الاجتماعي تشكّل مصدر دخل حيوي للمؤثرين. دخلٌ غير مسجّل في السجلّ الضريبي وغير خاضع لرقابة الدولة.
دفع انتشار هذه الظاهرة وإدراك السلطات لتدفق مئات آلاف الدولارات إلى جيوب المواطنين دون الخضوع لقوانين ضريبة الدخل؛ الدول لتنظيم وضبط هذا النشاط عبر لوائح وأنظمة قانونية عدة، ويمكن التدليل على ذلك بعدة أمثلة منها ألمانيا والإمارات.
في الإمارات أصدر المجلس الوطني للإعلام في مارس الماضي قانوناً يلزم المؤثرين على وسائل التواصل باستخراج ترخيص من المجلس لممارسة النشاط الترويجي عبر المنصات، ومن أجل تنظيم تلقي الدفعات
عام 2017 أصدرت المحكمة الألمانية حكماً يقضي بمنع “دعايات الطرف الثالث” على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تظهر وكأنها منشورات شخصية. برّرت المحكمة القرار بأن هذا النوع من الإعلام ينتهك القانون الألماني للمنافسة العادلة بين الشركات، وبناء على ذلك قد يتعرض كل من ينشر محتوى دعائي على حسابه الشخصي في منصات التواصل للمحاسبة والغرامات، يشمل الحظر وضع الوسوم للمنتجات أو الإشارة إليها أو إضافة روابط إحاله.
وفي الإمارات أصدر المجلس الوطني للإعلام في مارس الماضي قانوناً يلزم المؤثرين على وسائل التواصل باستخراج ترخيص من المجلس لممارسة النشاط الترويجي عبر المنصات، ومن أجل تنظيم تلقي الدفعات. الرخصة المذكورة صالحة لمدة عام فقط وتبلغ كلفة استصدارها 15 ألف درهم إماراتي. ولاحقاً في مايو أعلن المجلس الوطني للإعلام أن كل من يقدم لترخيص الإعلام الإلكتروني يجب أن يستصدر أولاً رخصة تجارية، التي تفوق تكلفتها كذلك 14 ألف درهم.
إن فرض قيود اقتصادية على نشاط المؤثرين وإخضاع النشاط الإلكتروني عبر المنصات لمسار بيروقراطي رسمي، وإن كان يحمل ظاهرياً سبباً اقتصادياً، إلا أنه يثير تساؤلاً حول ما إذا كانت هذه بوابة للمزيد من القوانين التي تقيّد بشكل مباشر حرية التعبير عبر الشبكة وتنتهك الحقوق الرقمية للمستخدمين في الإمارات، خاصة في ظل واقع الحريات المتردّي في المنطقة العربية عموماً، ومع استمرار رصد المنظمات الحقوقية الدولية لتقييد الإمارات للحريّات الإعلامية وانتهاك حق المواطنين والمقيمين بالتعبير بحرية.
لاحقاً للإمارات اتخذت المملكة العربية السعودية خطوة شبيهة، إلا أنها اعتمدت صيغة أكثر شمولاً ولم تقتصر على استخدام المبرر الاقتصادي، مما يترك سؤال الحريات الرقمية مفتوحاً ومثيراً للقلق. ضمن الخطوة المذكورة، أعلنت وزارة الإعلام السعودية في يوليو الماضي عن سعيها لوضع ما أطلقت عليه “ضوابط” لاستخدام المؤثرين والمشاهير لمواقع التواصل الاجتماعي، ومن بين الضوابط منع ظهور المؤثرين من دون رخصة تجدد سنوياً. الرخصة، بحسب تصريح صدر حينها عن المتحدث باسم وزارة الإعلام السعودية، عبدالله المغلوث، ستعمل على تقنين كل ما يتعلق بالمحتوى الذي يشاركه المؤثرون على مواقع التواصل، مشيراً إلى أن بعضهم “يسيء” إلى المجتمع و”لا يراعي حساسية بعض المواضيع”. كما أفادت التقارير حينها أن وزارة الإعلام ستعدّ وثيقة تنصّ على “الالتزام بالمعايير الأخلاقية والقيم الدينية والعادات الاجتماعية” في النشاط عبر منصات التواصل.
كيف يصبح القانون أداة تقيّد الحريات؟
لا تقتصر محاولات السلطات الحاكمة بالمنطقة العربية في إعادة العصافير إلى السرب أو قص أجنحتها على حياكة قوانين وأنظمة تعنى بشكل مباشر بمأسسة النشاط الرقمي وضبط حرية التعبير على وقع الأجندات السياسية الرسمية، فقانون العقوبات هو أداة فعالة كذلك، إذ لا تتوقف السلطة عن استخدام مفردات طال عليها الزمن أو عن تعديله بإضافة بنود جديدة أو مصطلحات توسع رقعة العقاب، أو وضع تشريعات جديدة لاستهداف النشطاء وتقييد الحريات الإعلامية عبر إحكام القبضة على النشر.
سنّت بعض الدول العربية قانون و/أو قوانين “جرائم إلكترونية” تعنى بالأنشطة المنفذة على شبكة الإنترنت
بالنظر إلى التشريعات في بعض الدول العربية نجد أن هناك عدد من المواد القانونية التي تستند إليها الدول لتوجيه الاتهامات، وإدانة الناشرين على المنصات الإلكترونية، مثل “السب والقذف”، تهمة “المس بالمقدسات” أو “إهانة الحاكم”، “إهانة هيئة نظامية”، “نشر أخبار كاذبة” بالإضافة لتهم متعلقة بالإرهاب والتمويل الأجنبي. استخدمت مثل هذه المواد القانونية في دول عدة منها المغرب والبحرين ومصر وفلسطين والسعودية وتونس ولبنان.
بالإضافة لذلك، سنّت بعض الدول العربية قانون و/أو قوانين “جرائم إلكترونية” تعنى بالأنشطة المنفذة على شبكة الإنترنت. هذه القوانين، وإن سنّت في إطار قانوني نظرياً، إلا أنها على مستوى التطبيق تشكّل مظلة للمس بالحريات الإعلامية وذريعة انتهاك الحقوق الرقمية.
في الإمارات على سبيل المثال، سنّت وأصدرت 9 من القوانين والقرارات الحكومية تحت عنوان “الجرائم الإلكترونية”، والتي تهدف – بحسب موقع دائرة القضاء الإماراتية– إلى التعريف بالاستخدامات “غير المشروعة” للتكنولوجيا في الإمارات. وبالنظر إلى النصوص المكتوبة، تندرج جميع المواد القانونية الشائع استخدامها في قضايا النشر الإلكتروني تحت بند “الجرائم الإلكترونية ضد أمن الدولة”، وهي صياغات فضفاضة وغير مفصّلة، مما يجعل استخدامها لتجريم أي رأي منشور، أمراً ممكناً. فيما يلي بعض الأمثلة على النصوص المذكورة:
– تعريض أمن الدولة ومصالحها للخطر، أو مساعدة منظمات غير قانونية.
– إثارة العنصرية والطائفية، أو الإضرار بالوحدة الوطنية.
– نشر معلومات أو إشاعات أو رسوم تمس بهيبة الدولة أو رئيسها أو مصالحها.
وفي فلسطين صادق مجلس الوزراء في نيسان الماضي على مشروع قرار بقانون المعدّل لقرار قانون الجرائم الإلكترونية (رقم (16) للعام 2017)، والذي تعرّض سابقاً لانتقادات مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوقية دولية، مثل هيومان رايتس ووتش، والتي استطاعت الضغط على السلطة الفلسطينية لتعديل بعض البنود أو التعريفات الفضفاضة التي تشكل تهديداً لحرية التعبير والرأي ولا تمتثل إلى القوانين والمعايير الدولية. وبعض المصطلحات المقصودة هي “تهديد أمن الدولة وسلامتها، المساس بالآداب العامة، الإضرار بالوحدة الوطنية، زعزعة السلم الأهلي”. برغم ذلك، لا زالت بعض البنود بصياغتها الجديدة تشكّل ذات التهديد وإن كانت بنسخة أفضل من سابقتها، وفقاً لـ “حملة”. ومن الجدير بالذكر أن السلطة استندت إلى القانون المذكور بتوجيه تهم إلى عدة صحفيين ونشطاء من بينهم الناشط الحقوقي عيسى عمرو بسبب منشور فيسبوك.
تعمل الأردن كذلك هذه الأيام على إصدار تشريع يعنى بالجرائم الإلكترونية، إذ قرر مجلس النواب أواخر سبتمبر 2018، إحالة مشروع القانون للجنة القضائية. وادعى نواب أن القانون “لا يمس حرية الرأي” فيما يحمي المواطنين والشخصيات العامة من “الإساءة”، بينما اعترض نواب آخرون على صياغته معتبرين أنه يشكل تهديداً لحرية الصحافة في المملكة.
محاولة السلطات الحاكمة باستمرار استخدام القوانين وتعديلاتها لضبط مسارات النشر والأدوات والقنوات التي يمكن للفرد التعبير عن رأيه من خلالها، تنبع من قيام الفضاء الإلكتروني بتوسيع حدود الممكن فيما يخص حرية التعبير، وكسر احتكار الدولة للرسالة الإعلامية
وفي مصر صادق الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً على قانون الجرائم الإلكترونية، وبذلك دخل حيز التنفيذ. بصياغته النهائية، يسهل القانون إدانة الناشطين والمؤثرين على منصات التواصل بـ “الإخلال بالنظام العام أو الأمن القومي أو الاقتصاد الوطني”، كما يفتح المجال للسلطات لحظر وسائل تواصل بعينها وتجريم استخدامها.
ويعرّف القانون “الأمن القومي” أنه “كل ما يتصل باستقلال واستقرار وأمن الوطن ووحدته وسلامة أراضيه، وما يتعلق بشؤون رئاسة الجمهورية ومجلس الدفاع الوطني ومجلس الأمن القومي، ووزارة الدفاع والإنتاج الحربي، ووزارة الداخلية، والمخابرات العامة، وهيئة الرقابة الإدارية، والأجهزة التابعة لتلك الجهات”. بناء على هذا التعريف الواسع، يمكن تفسير كل منشور ناقد للأجهزة الأمنية والسياسية في مصر على أنه مسّ بالأمن القومي، ما يعرّض صاحبه لعقوبات قاسية.
ليست الدول المذكورة هي الوحيدة التي أصدرت أو تسعى لإصدار تشريعات تضع الحريات الرقمية تحت التهديد، وتحوّل النشر عبر الشبكة من نشاط عفوي إلى قرار مكلف، ثمنه الحرية أو المال أو كلاهما، والأمثلة التي يمكن إضافتها كثيرة خاصة من المنطقة العربية.
إن محاولة السلطات الحاكمة باستمرار استخدام القوانين وتعديلاتها لضبط مسارات النشر والأدوات والقنوات التي يمكن للفرد التعبير عن رأيه من خلالها، تنبع من قيام الفضاء الإلكتروني بتوسيع حدود الممكن فيما يخص حرية التعبير، وكسر احتكار الدولة للرسالة الإعلامية، وهو ما يعتبر مقلقاً بالنسبة لها. وعليه؛ من المنتظر أن نشهد المزيد من الأنظمة والتشريعات التي ترفع ثمن الكلمة والصورة حتى تحوّل كل مستخدم إلى رقيب ذاته.