ترجم وتحرير: نون بوست
في فجر يوم 30 أيلول/ سبتمبر 1980، حلّقت أربع طائرات أمريكية من طراز “إف-4 إي فانتوم” على ارتفاع منخفض وسط العراق محمّلة بصواريخ جو – جو وثلاثة آلاف رطل من القنابل. قبيل دخولها المجال الجوي العراقي، التقت بناقلة من طراز “بوينغ 707” للتزوّد بالوقود جوا، وكانت ترافقها مقاتلتان متقدمتان من طراز “إف-14 توم كات” – هذا النوع الذي وقع تخليده بعد ست سنوات في فيلم “توب غان”. ولاستكمال أجواء فيلم الحركة الذي ظهر في ثمانينيات القرن الماضي، خاضت المقاتلة مهمة كانت تحمل اسم “عملية السيف المحروق”.
صعدت طائرات الفانتوم التي كانت تنطلق بسرعة لفترة وجيزة إلى ارتفاع أعلى حتى تلتقطها الرادارات العراقية، قبل الانخفاض مجددا بسرعة والتراجع إلى الخلف. لكن في الوقت الذي حافظت فيه طائرتان على مسارهما نحو بغداد، انحرفت الطائرتان المتبقيتان لضرب الهدف الحقيقي: مفاعل أوزيراك النووي للماء الخفيف في العراق. ويذكر أن عملية أوبرا الإسرائيلية الشهيرة التي نجحت في تدمير مفاعل أوزيراك وقعت بعد تسعة أشهر من هذه الأحداث.
في سنة 1975، نجح العراق في التفاوض مع فرنسا وإبرام صفقة بقيمة 300 مليون دولار (أي ما يعادل 1.3 مليار دولار في سنة 2019) لبناء مفاعل من طراز أوزيريس لأبحاث المياه الخفيفة بقدرة 40 ميغاوات في العراق، والذي يُعرف في الوقت الراهن باسم “مفاعل أوزيراك”
كانت طائرات الفانتوم، التي حلّقت في اتجاه المفاعل النووي في سنة 1980 تابعة لسلاح الجو الإيراني. وقد وثّق كل من توم كوبر وفارزاد بيشوب بشكل معمق هذه الغارة الغامضة والمشؤومة والسياق الذي حدثت فيه في تقرير مذهل نشرته مجلة “أير إنثوسياست” سنة 2004. في الواقع، كانت إيران و”إسرائيل” حليفتين قبل الثورة الإيرانية، وواصلت تل أبيب نقل الأسلحة الحيوية وأشكال أخرى من المساعدات الأمنية إلى طهران خلال ثمانينات القرن الماضي على الرغم من خطاب آية الله المناهض لـ”إسرائيل” بشكل متزايد. ويعود ذلك أساسا إلى قلقهما المشترك من الحشد العسكري في العراق خلال حكم صدام حسين.
في سنة 1975، نجح العراق في التفاوض مع فرنسا وإبرام صفقة بقيمة 300 مليون دولار (أي ما يعادل 1.3 مليار دولار في سنة 2019) لبناء مفاعل من طراز أوزيريس لأبحاث المياه الخفيفة بقدرة 40 ميغاوات في العراق، والذي يُعرف في الوقت الراهن باسم “مفاعل أوزيراك”. وشملت الصفقة بناء مفاعلين يحملان اسم “تموز 1″ و”تموز 2” في مركز التويثة النووي الواقع جنوب بغداد.
صُمّم مفاعل أوزيريس لأغراض مدنية، ولكن كان يملك القدرة على أن يكون نقطة انطلاق للتمتع بخصائص الأسلحة النووية، على الرغم من أن الخبراء يختلفون حتى يومنا هذا حول مدى قرب القفزة إلى الأسلحة النووية. نجح صدام حسين في الضغط على الفرنسيين لتسليم عشرات الكيلوغرامات من الوقود النووي المخصب بنسبة 93 بالمئة، في حين حصل على كيلوغرامات من اليورانيوم من أمريكا الجنوبية ومصادر أخرى.
لهذا السبب، أثار المفاعل النووي قلق كل من “إسرائيل” التي لا تزال إلى الآن الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية، وإيران، التي تمكنت من إحباط عملية غزو فاشلة لدبابات عراقية في سنة 1975. وفي محاولة لإحباط هذا البرنامج، فجّرعملاء إسرائيليون قلب مفاعل نووي منجز بالقرب من تولون الفرنسية، كما اغتالت فرنسا أحد قادة البرنامج النووي، العالم المصري يحيى المشد، خلال إقامته في فندق في باريس في 14 حزيران/ يونيو 1980. ساهمت هذه الإجراءات في تأجيل بناء مفاعل أوزيراك، ولكنها لم توقف العملية بشكل كامل، حيث وقع بناؤه لاحقا في منشأة قبة مكشوفة بدلًا من مجمع صلب تحت الأرض، لكنها لم توقفه.
في 22 أيلول/ سبتمبر 1980، شنّ صدام حسين غزوا واسع النطاق في جنوب غرب إيران على أمل الاستفادة من الفوضى السائدة في الجمهورية الإسلامية التي تأسست حديثًا. استمرت الحرب الناتجة عن الغزو العراقي لمدة ثماني سنوات دامية.
أثبت الأسطول الإيراني الكبير من مقاتلات إف – 4 وإف – 14 الأمريكية المتقدمة أنه مفيد للغاية في حربه ضد القوات العراقية خلال السنوات الأولى من الحرب العراقية الإيرانية
في هذا السياق، بدأ سلاح الجو الإيراني بالتخطيط لشن هجوم على مفاعل أوزيراك في وقت مبكر من شهر حزيران/ يونيو من تلك السنة، وتفيد التقارير بأنه كان بناء على طلب رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية. كانت “إسرائيل” تعتبر إحدى الدول القليلة المستعدة لتزويد إيران بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية لقتال العراقيين، وبالتالي كانت هذه الغارة مفيدة للطرفين.
أثبت الأسطول الإيراني الكبير من مقاتلات إف – 4 وإف – 14 الأمريكية المتقدمة أنه مفيد للغاية في حربه ضد القوات العراقية خلال السنوات الأولى من الحرب العراقية الإيرانية. وتنتمي طائرات الفانتوم التي نشرتها إيران في الغارة إلى سرب المقاتلات الثالث والثلاثين المتمركز بالقرب من همدان في إيران.
كان ينبغي على الطيارين الإيرانيين الذين كانوا يحلقون بقنابل إيرانية غير موجهة يبلغ وزنها 82.500 رطل، الانقضاض على الدفاعات الجوية العراقية الهائلة، على الأقل من الناحية النظرية. وكانت منشأة التويثة تخضع للحماية بفضل عشرات مدافع الدفاع الجوي سريعة الإطلاق من عيار 23 و57 ميليمتر، ونظام سام 6 سوفيتي الصنع، وثلاثة أنظمة فرنسية من طراز رولان 2 قصيرة المدى والموجهة بالرادار.
مع ذلك، يبدو أن الدفاعات العراقية قد أخذت على حين غرة، حيث أسقطت مقاتلات من طراز فانتوم قنابلها على محطة كهرباء عراقية مما أدى إلى انقطاع الكهرباء في بغداد لمدة يومين وفقا لكوبر. في هذه الأثناء، قام العنصر الرئيسي بالتوجه إلى منشأة التويثة للأبحاث النووية وأطلق جميع القنابل الاثني عشر خلال ثوانٍ قبل أن يعود سريعا.
لا توجد تقارير عن نيران دفاعية عراقية. كما أفاد بعض الشهود العيان بأنهم رأوا قنبلتين إيرانيتين ترتدان على قبة المفاعل النووي. ويذكر أن الهجوم تسبب في اندلاع حريق هائل (كما يمكن ملاحظته في الصورة الفرنسة) وأتلف الأنابيب ومضخات التبريد والمختبرات، كما انسحب المئات من الأخصائيين التقنيين الفرنسيين والإيطاليين من المنشأة إثر الغارة رغم عودة بعضهم بعد ذلك.
لم يرغب صدام في الانتقام من “إسرائيل” مباشرة لكنه أغلق بدلاً من ذلك منشأة الأبحاث النووية الإيرانية في بوشهر.
أشار تقرير وكالة المخابرات المركزية إلى أن مصدرا غير مصرح به أكد أن “المباني الثانوية فقط تضررت”. بالإضافة إلى ذلك، تم الخوض في الموضوع على نطاق واسع في الغرب (لكن على نحو خاطئ بما يفيد بأن الطيارين الإسرائيليين هم من شنوا الغارة باستخدام طائرات إيرانية).
حلقت طائرة استطلاع إيرانية من طراز “فانتوم إف-4” في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر فوق المنشأة بسرعة مذهلة لالتقاط صور لتقييم آثار الغارة. وقد أفاد كل من كوبر وبيشوب بأن هذه المعلومات الاستخباراتية نُقلت إلى “إسرائيل” في حقيبة معدنية عبر طائرة 707 تُستخدم في تسليم الأسلحة الإسرائيلية لطهران.
ساعدت هذه المعلومات الاستخباراتية مدعومة ببعثة التصوير التي نفذتها طائرات فانتوم الإسرائيلية جيش الدفاع الإسرائيلي في إعداد نسخة كاملة مطابقة للأصل للمنشأة استخدمت للتخطيط للغارة وتنفيذها في السابع من حزيران/ يونيو 1981. حلقت ثماني طائرات إسرائيلية من طراز “جنرال دايناميكس إف-16 فايتينغ فالكون”، بالإضافة إلى ست مقاتلات من طراز “إف-15 إيغل” في المجال الجوي السعودي مستغلة الفجوة في تغطية الرادار العراقي، ودمرت خلال أقل من دقيقة مفاعل أوزيراك باستخدام قنابل مارك 84 الضخمة التي يبلغ وزنها ألفي رطل مما تتسبب في سقوط تسعة عراقيين ومهندس فرنسي. لم يرغب صدام في الانتقام من “إسرائيل” مباشرة لكنه أغلق بدلاً من ذلك منشأة الأبحاث النووية الإيرانية في بوشهر.
بين عامي 1984 و1987، قامت الطائرات العراقية من نوع سوبر إتينارد و سو-17 بقصف المنشأة خمس مرات مما ألحق بها أضرارًا كبيرة، علما بأنه هذه المنشأة لم تكن في الواقع تستخدم كثيرًا نظرا للقيود المالية التي فرضتها الحرب. وفي حين أنه أعيد الاستشهاد بغارة أوزيراك في سياق الحجج المؤيدة للضربات الاستباقية المناهضة للأسلحة النووية، فإن نجاحها أمر لا لبس فيه. فبينما تمت عرقلة الجهود العراقية للحصول على الأسلحة النووية لمدة عقد من الزمان، يزعم بعض الخبراء أن المفاعل لا يتسم بقدرة عالية على التكيف مع هذه الأغراض.
بدأ صدام عقب الغارة برنامجًا نوويًا واسع النطاق يهدف صراحة إلى إنتاج أسلحة في منشآت محصنة تحت الأرض. ولو لم يدخل في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة عبر غزو الكويت عام 1990، ربما حصل الديكتاتور العراقي على المدى الطويل على أسلحة نووية أكثر متانة.
ما يثير السخرية هو أن إيران التي كانت رائدة في الضربة الاستباقية التي استهدفت منشآت الأبحاث النووية لدولة أخرى بمعية “إسرائيل”، أصبح برنامجها النووي الشامل مهددًا اليوم بضربات جوية استباقية من قبل “إسرائيل” والولايات المتحدة
لكن أدت هزيمة صدام عام 1991، إلى جانب انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى إنهاء التحالف السري بين “إسرائيل” وإيران. في حين وجهت طهران دعمها بشكل متزايد للجماعات المعادية لـ”إسرائيل” من أجل كسب النفوذ والتحالفات داخل العالم العربي، اكتشفت “إسرائيل” أن إيران على الأرجح هي الدولة الأكثر عدائية التي تمتلك أسلحة نووية في المنطقة.
ما يثير السخرية هو أن إيران التي كانت رائدة في الضربة الاستباقية التي استهدفت منشآت الأبحاث النووية لدولة أخرى بمعية “إسرائيل”، أصبح برنامجها النووي الشامل مهددًا اليوم بضربات جوية استباقية من قبل “إسرائيل” والولايات المتحدة. مع ذلك، تهمل إيران دروس غارة أوزيراك، وقامت بنشر برنامجها للبحث النووي في العديد من المنشآت تحت الأرض ولم تجمعها في منشأة واحدة فوق الأرض لأن ذلك من شأنه أن يعرضها للهجوم.
المصدر: ناشيونال إنترست