حالة من الجدل أثارها الإعلان عن مسلسل “بابا العرب” الذي يتناول قصة حياة شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل، حيث يعد العمل الدرامي الأول الذي يجسد بصورة كاملة حياة شخصية مسيحية.
العمل الذي ينتجه دير القديس الأنبا بيشوي برئاسة الأنبا صرابومون يعد واحدًا من الأعمال الضخمة في مجال الإنتاج الدرامي المصري، إذ تتراوح تكلفته تقريبًا ما بين 50-80 مليون جنيه مصري، ومن المقرر أن يُذاع على قنوات التليفزيون المصري كافة وبعض الفضائيات العربية.
جدير بالذكر أن هناك عملاً سينمائيًا آخر يحمل نفس الاسم “بابا العرب” يتناول حياة شنودة الثالث، وصُورت بعض مشاهده، ومن المقرر استئناف التصوير خلال الأيام الأولى من شهر نوفمبر المقبل، ويشارك فيه نخبة من الفنانيين منهم أحمد السقا وأحمد عز وهاني رمزي وسامح حسين وأحمد شاكر عبد اللطيف وسيد رجب.
البابا شنودة الثالث
الإعلان في هذا التوقيت عن عملين يحملان نفس الاسم ويجسدان حياة البابا الراحل، أحدهما درامي والآخر سينمائي، أثار موجة من علامات الاستفهام عن الرسائل والدلالات، فضلاً عن طرح ملف الدارما القبطية على ساحة النقاش الفني مرة أخرى، الذي يُعد من الملفات الحساسة في هذا المضمار لعقود طويلة مضت.
بابا العرب
الإرهاصات الأولى لكتابة هذا العمل بدأت في أكتوبر 2016 وفق ما ذكر المؤرخ الكنسي نشأت زقلمة المشرف على الكتابة التاريخية للمسلسل، الذي أشار إلى أنه انتهى من كتابته بصورة كاملة في نوفمبر 2018، وراجعته تاريخيًا لجنة المصنفات الكنسية.
زقلمة كشف أن المسلسل حصل على كل الموافقات من الجهات المعنية المختلفة، حيث تمت الموافقة بالترخيص للمسلسل من الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية يوم 13 من مارس 2019، كما حصل على إثبات تاريخي من الشهر العقاري تحت رقم 939 لسنة 2012، وعلى شهادة إيداع من المجلس الأعلى للثقافة، بجانب ترخيص من نقابة المهن السينمائية.
وقُسم العمل – بحسب مؤلفه – إلى 4 مراحل تاريخية: المرحلة الأولى عبارة عن حياة البابا شنودة قبل الرهبنة منذ أن كان اسمه “نظير جيد روفائيل”، هذه المرحلة عبارة عن 30 سنة و11 شهرًا و15 يومًا، منذ ميلاده يوم 3 من أغسطس 1923 حتى رهبنته يوم 18 من يوليو 1954.
العمل يتطرق إلى علاقات البابا المتشعبة، من بينها علاقاته مع رؤساء مصر السابقين، وشيوخ الأزهر وخاصة علاقته بشيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوى، وإلقاء الضوء على بعض جنبات حياته كمعلم وكاتب وشاعر
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الرهبنة وتستعرض فيها حياة البابا شنودة الذي كان اسمه وقتها الراهب “أنطونيوس السرياني”، وهذه المرحلة عبارة عن 8 سنوات و20 شهرًا و12 يومًا، منذ سيامته راهبًا حتى سيامته أسقفًا للتعليم يوم 30 من سبتمبر 1962، أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الأنبا شنودة أسقف التعليم ومدتها 9 سنوات وشهر و14 يومًا، منذ سيامته أسقفًا للتعليم وحتى تتويجه بطريرك للكرازة المرقسية في 14 من نوفمبر 1971.
فيما تتناول المرحلة الرابعة والأخيرة، الأربعين عامًا الأخيرة من عمر الراحل، التي تبدأ منذ سيامته “بطريرك” حتى يوم نياحته “وفاته” في 17 من مارس 2012، التي قسمت هي الأخرى لمراحل تفصيلية أخرى تتناولها أحداث العمل الذي ينتظر أن ينال رضا المجتمع المصري بحسب المؤرخ الكنسي.
العمل يتطرق كذلك إلى علاقات البابا المتشعبة، من بينها علاقاته مع رؤساء مصر السابقين، وشيوخ الأزهر وخاصة علاقته بشيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي، وإلقاء الضوء على بعض جنبات حياته كمعلم وكاتب وشاعر، معرجًا على رحلاته العلمية ورسائل الدكتوراة التي حصل عليها.
عنوان مثير للجدل
رغم إعجاب الأقباط بفكرة المسلسل وتجسيده لحياة واحدة من أكثر الشخصيات القبطية التي أثرت في المجتمع المصري خلال العقود الخمس الأخيرة على وجه التحديد، فإن العديد من التساؤلات فرضت نفسها منذ الوهلة الأولى، على رأسها اسم العمل، إذ تساءل بعض الأقباط: لماذا بابا العرب؟
العديد من نشطاء الأقباط على منصات التواصل الاجتماعي أشاروا إلى أن “البابا ليس عربيًا ولا العرب الحاليّين لهم بابا ولا يعترفون بالبابا ولا يقرون حتى عقيدته”، مضيفين “البابا مصري وليس عربيًا، قبطي وليس بدويًا، فالبابا مهما تعددت الألقاب وكثرت الصفات فهو بابا الأقباط المصري، مصري ابن مصري من جذور مصرية”.
آخرون أبدوا تخوفهم مما يحمله اسم المسلسل من تهديد للهوية القبطية، إذ كتب أحدهم على صفحة “صالون التنويريين” على موقع “فيسبوك” قائلًا: “أخشى أن يكون اختيار اسم المسلسل (بابا العرب) طمرًا وطمسًا للهوية القبطية خاصة أن الكنيسة هذه الأيام يتسلل إليها شيطان الاستعراب، والاستعراب ليس ضيفًا جديدًا!”.
الناشطة القبطية نسرين عزيز أشارت إلى أن “بابا العرب” لا يعدو كونه لقبًا أجوف مثل “إمام الدعاة” و”أسد السُنة” و”وحش الشاشة” و”أمير الطرب” و”سلطان الطرب”، يُطلقه الناطقون باللغة العربية على من يروق لهم من المشاهير دون أن يحمل أي دلالة أو معنى ودون أن يكون مبني على أي معايير موضوعية تجعل حامل اللقب مستحقًا له.
وتساءلت في تصريحاتها لـ”نون بوست”: “هل هو أحد أسلحة الشنوديين في مواجهة التواضروسيين؟ هل هو تعبيرعن التوجهات السياسية العروبية للكنيسة المصرية؟ هل يمكن أن يكون للكنيسة توجه أيديولوجي، خاصة توجه هو الوجه الآخر للإسلاموية؟ هل هو فراغة عقل ممن اختار الاسم باعتباره اسمًا فخمًا يفيد في التسويق دون أن يدرك البُعد الأيديولوجي له؟”، وتابعت: “هل يوجد عرب أصلاً حتى يكون لهم بابا؟ فما العروبة؟ وهل يقبل العرب المسلمون أن يكون لهم بابا؟”.
علامات استفهام
التفاصيل التي كُشفت مع الإعلان عن المسلسل دفعت الناشط القبطي كمال سدرة إلى توضيح بعض النقاط التي يراها غاية في الأهمية لا سيما أنها تمس المنظومة الكنسية بأكملها، بما فيها أموال الأقباط التي من المفترض أنها الممول الأساسي للعمل، والبعد السياسي والأمني وراء هذا العمل.
سدرة على حسابه على “فيسبوك” كشف أن الميزانية المعلنة للمسلسل تتراوح بين (50-80 مليون جنيه مصري)، لافتًا إلى أن هذا المبلغ ضخم للغاية، ليس بالنسبة لإنتاج مسلسل، لكن بالنسبة لمؤسسة دينية، المفترض أنها تعيش في ظل ظروف اقتصادية صعبة على الغالبية العظمي من المصريين والكنيسة نفسها عندها دائمًا عجز في التمويل للأنشطة الرئيسية.
وعن توقيت إنتاج هذا العمل قال: “توقيت المسلسل في ظل حرب شرسة بين أبناء الكنيسة سواء المؤيدين للمتنيح البابا شنودة أم معارضيه”، كاشفًا أن هذه الحرب الداخلية قسمت الكنيسة برعاية قيادات كبرى من المجمع المقدس، “وبالطبع ميزانية الفيلم سواء مساهمة الكنيسة أم تبرعات الأقباط، هي في النهاية أموال الكنيسة – مال يخص عموم أعضاء الكنيسة – سواء مؤيدي البابا أوم معارضيه”.
كما أوضح أن الإعلان الكنسي عن المسلسل أشار إلى أنهم حصلوا بالفعل على الموافقات والتراخيص اللازمة، ما يعني – على حد تعبيره – “تدخل الأمن والسياسية في كل تفاصيل العمل، فمصداقية هذا العمل لا ترتقي ليصبح تأريخًا حقيقيًا، بل بعد عرضه سوف تنقسم الكنيسة أكثر وأكثر على كل حدث وتفصيلة”.
وفي الإطار ذاته وجه رسالة لمنتجي العمل قال فيها إنه ليس من مهام الكنيسة الإنتاج الإعلامي، كما أن العمل ليس من أهدافه الربح، وتابع: “ظروف إنتاج المسلسل في ظل حبرية البابا تواضروس، والذي بتدخله السافر في السياسة جر الكنيسة لمستنقع، خلى الشعب معندوش ثقة في قرارات الكنيسة ولا بنزاهة قيادتها”.
تساؤلات عن الدراما القبطية
في مقاله المعنون بـ”حساسية الأقباط في الدراما من “بحب السينما” إلى “دوران شبرا”” استعرض الناقد الفني طارق الشناوي أبرز سمات الدراما القبطية في مصر خلال السنوات الأخيرة، موضحًا أنه بات من المعتاد في الدراما “أن توضع أوراق ”السوليفان” على الشخصية المسيحية وكأننا نرفع راية مكتوبًا عليها ممنوع اللمس أو الاقتراب”، وأضاف الناقد الفني أن الإحساس العام الذي يسيطر غالبًا على صناع العمل الفني الذي يجسد شخصيات قبطية أن المتفرج لا يريد أن يرى شخصية من لحم ودم وأنه فقط يقرأ عنوانها لكنه لا يتعمق في تفاصيلها، كان يبدو وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا على ذلك بين صناع العمل الفني والجمهور، الجميع ارتاحوا إلى استبعاد الشخصية القبطية!”.
علاوة على ذلك فإن موجة من الانتقادات المباشرة وجهت الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، للعديد من المعالجات الفنية التي اقتربت من العائلة المصرية القبطية، رغم أن تلك المعالجة لم يكن الهدف منها الحديث عن الديانة بقدر ما هو تناول عائلة مصرية مسلمة أو مسيحية!!
المأزق الحقيقي للدراما القبطية في مصر بحسب الناقد الفني الشهير يتمثل في أن “المتفرج لم يألف رؤية شخصيات قبطية تمارس أي قدر من الانحراف طوال تاريخ الدراما”
وخلال السنوات الأخيرة تحديدًا شهد هذا النوع من الدراما موجة غضب عارمة بسبب أعمال فنية تعاملت بحساسية وهدوء مع العائلة القبطية في مصر ورغم ذلك وجهت لها انتقادات حادة، منها على سبيل المثال مسلسل “أوان الورد” ومسلسل “بنت من شبرا” الذي أثار الجدل لأن البطلة أشهرت إسلامها، كذلك فيلم “واحد صفر”.
ويضيف الشناوي أن العمل الذي حظي بأكبر مساحة من الغضب هو فيلم “بحب السيما” الذي أنتج عام 2004، وجسد حياة عائلة مسيحية بالكامل، الزوج والزوجة والابن والابنة كانوا هم الأبطال على الشاشة، وهو ما لم يتحمله قطاع كبير من الأقباط الذي يشعرون بحالة من الحرج والتحسس مع أي تناول لواقعهم وحياتهم حتى لو كانت في صيغة عائلية مجتمعية بعيدًا عن المعتقد الديني.
المأزق الحقيقي للدراما القبطية في مصر بحسب الناقد الفني الشهير يتمثل في أن “المتفرج لم يألف رؤية شخصيات قبطية تمارس أي قدر من الانحراف طوال تاريخ الدراما، ولهذا تنتقل الحساسية التي نراها في الشارع إلى دار العرض وبدلاً من أن يشاهد الجمهور شريطًا سينمائيًا به عائلة مصرية بعيدًا عن ديانتها سوف يراها عائلة قبطية بل ويعتبرها البعض في هذه الحالة تحمل إدانة شخصية وليست درامية!”.
المسؤولية هنا تقع على الجهات المسؤولة عن الثقافة والفن في مصر، فكلما طال الابتعاد والغياب لمثل هذه الأعمال زادت الحساسية، ومن ثم لا بد من تكثيف هذا النوع من الدراما حتى يألفه المشاهد ويقبله المجتمع بشقيه، المسلم والمسيحي، مع ضرورة إعادة النظر في هوية الفن وتجرده من أي أهواء دينية، وفق ما توصل عدد من النقاد الفنيين.