أعلن مكتب إعلام الأسرى وصول دفعة جديدة من الأسرى المبعدين إلى الأراضي التركية، تضم ثلاثة عشر أسيرًا محررًا، وذلك ضمن المرحلة الأولى من صفقة “طوفان الأحرار”، التي نُفِّذت في إطار اتفاق وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
يأتي هذا الإعلان ليعيد تسليط الضوء على مصير الأسرى الذين ما يزالون عالقين في الأراضي المصرية، في وضع انتقالي مؤقت، بانتظار استكمال الترتيبات مع الدول التي تواصلت معها المقاومة الفلسطينية والوسطاء، لتأمين أماكن إقامة دائمة لهم في إطار سياسة الإبعاد التي فرضها الاحتلال جزءًا من الصفقة.
يعيش المحرَّرون المبعدون وعائلاتهم معاناة مضاعفة، إذ قضى معظمهم عقدين أو أكثر خلف القضبان، مترقبين لحظة التحرر والعودة إلى الحياة الطبيعية، لتعويض سنوات القهر والسجن، لكن بدلًا من احتضانهم في وطنهم وبين أهلهم، يواجهون الإبعاد القسري، والحرمان من العودة إلى مدنهم وقراهم، في خطوة تمثِّل استمرارًا للعقوبة خارج أسوار السجن.
وبينما تتألم عائلاتهم لفراقهم الطويل، تواجه اليوم انتظارًا جديدًا مريرًا، في ظل مرحلة غير واضحة المعالم، إذ ما تزال ترتيبات الإقامة الدائمة مجهولة، وسط وعي قاسٍ بأن من قدَّم شبابه وعمره من أجل القضية الفلسطينية لا يجد حتى اللحظة دولة عربية أو إسلامية تحتضنه، وتفتح له أبوابها بعد سنوات النضال والتضحية.
والحقيقة المرة أن مواقف غالبية الدول التي كان يُعوَّل أن تُشكِّل محطة استضافة للأسرى المبعدين، انحصرت بين الرفض الصريح، والمماطلة والتسويف، لتتحول هذه القضية إلى فصل جديد من فصول الخذلان العربي والإسلامي للشعب الفلسطيني وقضيته وثوابته.
وفي الوقت الذي كان يُفترض أن تُبادر هذه الدول لدعم وإكرام هؤلاء الأسرى الذين ضحَّوا بحريتهم دفاعًا عن فلسطين، نجد أن الحسابات السياسية وموازين المصالح قد طغت، ليبقى المبعدون عالقين، يحملون جرح الإبعاد والخذلان، في انتظار حلٍّ لا يبدو قريبًا.
حرية منقوصة ونفي قسري.. ما مصير الأسرى المبعدين الذين لا يجدون دولة تحتضنهم؟ وكيف يستخدم الاحتلال الإبعاد القسري كسلاح لعزل المقاومين؟ pic.twitter.com/ZD3IfCoaJf
— نون بوست (@NoonPost) February 9, 2025
الإبعاد بوصفه عقوبة
في مفاوضات صفقة “طوفان الأقصى”، فرض الاحتلال الإسرائيلي الإبعاد شرطًا أساسيًّا للإفراج عن الأسرى، مستهدِفًا بالدرجة الأولى أصحاب الأحكام المؤبَّدة الذين يعدُّهم مسؤولين عن عمليات فدائية أو يتقلدون مواقع قيادية في المقاومة، باعتبار أن حرمانهم من العودة إلى مدنهم وقراهم ومخيماتهم يمثِّل استمرارًا للعقوبة بشكل آخر، عبر عزلهم عن بيئتهم الطبيعية وإقصائهم عن أي دور مستقبلي في المواجهة.
يعكس هذا الإجراء إدراك الاحتلال لأهمية هؤلاء الأسرى في إعادة تشكيل الحراك المقاوم، ولذلك يلجأ إلى إبعادهم بدلاً من إطلاق سراحهم في مناطقهم الأصلية، لضمان استمرار سيطرته الأمنية والسياسية.
على مدار العقود الماضية، استخدمت “إسرائيل” الإبعاد أداةً استراتيجيةً لإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، بدءًا من التهجير الجماعي في كل من العامين 1948 و1967، وصولًا إلى الإبعاد الفردي خلال الانتفاضات والصفقات.
ومع تصاعد المقاومة، تحوَّل الإبعاد إلى شرط ثابت في أي اتفاق تبادل للأسرى، إذ يهدف الاحتلال إلى منع الأسرى المحررين من العودة إلى العمل المقاوم، وتفكيك الروابط التنظيمية والسياسية التي شكلوها داخل السجون.
في الإطار ذاته، لا تقتصر منطلقات الاحتلال للإبعاد على كونه مجرد إجراء عقابي، بل كان دائمًا جزءًا من سياسات الاحتلال في إعادة هندسة الواقع الفلسطيني، عبر تفريغ الساحة من الرموز المؤثرة وإعادة توزيع السكان بما يخدم أجندته الأمنية والاستيطانية.
وعلى الرغم من أن القانون الدولي يُجرّم الإبعاد القسري بوصفه جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، إلا أن “إسرائيل” تمضي في تنفيذ هذه السياسة دون أية مساءلة دولية، مستندة إلى دعم القوى الكبرى، واستخدام منظومتها القضائية لمنح هذه الإجراءات غطاءً “قانونيًا”.
وبينما يُنظَر إلى تحرير الأسرى بوصفه مكسبًا وطنيًّا، فإن فرض الإبعاد عليهم يمثِّل محاولة لتفريغ الإنجاز من مضمونه، وإبقاء الأسرى المحررين في دائرة العقوبة الدائمة، في سياق حرب طويلة الأمد على الوجود الفلسطيني.
حقائق وأرقام في صفقة طوفان الأقصى
بعد تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة “طوفان الأحرار” التي امتدت لـ42 يومًا في الفترة الواقعة بين 19 يناير/كانون الثاني و28 فبراير/شباط 2025، أُفرِج عن 1737 أسيرًا فلسطينيًا، بينهم 274 أسيرًا محكومًا بالمؤبد، و296 أسيرًا بأحكام عالية، إضافة إلى 69 أسيرة و51 طفلًا.
كما شملت الصفقة الإفراج عن 47 أسيرًا من محرري صفقة “وفاء الأحرار” الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم، في مقابل إفراج المقاومة عن 33 أسيرًا إسرائيليًّا، بينهم 25 أحياء و8 جثث، ومع ذلك لم يلتزم الاحتلال التزامًا كاملًا ببنود الاتفاق، ما عرقل تنفيذ بعض التعهدات المتعلقة بالإفراج عن أسرى آخرين.
واشترطت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إبعاد 229 أسيرًا من ذوي المؤبدات والأحكام العالية، وقد وصل منهم 20 إلى قطاع غزة، في حين استقبلت تركيا 30 آخرين، وما يزال 179 محررًا داخل الأراضي المصرية بانتظار ترتيبات انتقال عدد منهم إلى دول أخرى.
بين انتظار المصير وتراجع الوعود
منذ أن دخلت مفاوضات صفقة “طوفان الأحرار” مراحلها الحاسمة، كثفت قيادة المقاومة والجهات المختصة بملف الأسرى جهودها للتواصل مع قائمة من الدول المرشحة لاستقبال الأسرى المبعدين، بهدف تأمين محطات إقامة دائمة لهم.
ومع ذلك، واجهت هذه الجهود مراوغة ومماطلة من العديد من الدول العربية والإسلامية، وقد تراوحت المواقف بين الاستعداد المبدئي دون خطوات تنفيذية، والتراجع عن الموافقات الأولية، والرفض الصريح، ما أضاف تعقيدات جديدة لهذا الملف الذي ما يزال مفتوحًا دون حلول نهائية.
كانت تركيا وقطر ومصر من بين الدول القليلة التي قدمت موافقة واضحة وبدأت في تنفيذ الترتيبات لاستقبال الأسرى، حيث استقبلت تركيا حتى الآن 30 أسيرًا محررًا، معظمهم من القدس والضفة الغربية، بينما أبدت قطر استعدادها لاستقبال عدد غير محدد حتى الآن، لتكون محطة رئيسية للأسرى المبعدين، في إطار دورها بصفتها وسيطًا في المفاوضات.
أما مصر، فقد وافقت على استضافة أسرى حركة فتح، مع موافقة مبدئية على استقبال بعض أسرى حركة حماس، دون تحديد الأعداد النهائية، إذ يُقيم جميع الأسرى المبعدين حاليًّا في فندق الماسة بالعاصمة الإدارية الجديدة، بانتظار ترتيبات انتقالهم إلى وجهاتهم النهائية.

في سياق متصل، استكمالًا لموافقتها المبدئية سابقًا، قدمت ماليزيا موقفًا نهائيًّا باستعدادها لاستقبال 15 أسيرًا مبعدًا، لكنها ما تزال في مرحلة استكمال الترتيبات اللوجستية والتنسيقات اللازمة.
وعلى غرار ماليزيا، أبدت الجزائر وإندونيسيا استعدادًا مبدئيًّا لاستقبال عدد من الأسرى، إلا أنها مصير موافقاتها النهائية لم يُحسم بعد، وما تزال المشاورات جارية دون أي تنفيذ فعلي.
وعلى النقيض بعد فترة من المماطلة والتردد، جاءت بعض المواقف مخيبة للآمال، فقد تراجعت باكستان عن موافقتها الأولية لاستقبال 15 أسيرًا، دون تقديم مبررات واضحة لهذا القرار، ما أربك خطط توزيع الأسرى وأثار خيبة أمل بين الأسرى وعائلاتهم، فيما يعكس هذا التراجع ضغوطًا سياسية مارستها جهات معينة أو مخاوف داخلية دفعت إسلام آباد إلى التراجع عن التزامها.
في المقابل، اختارت بعض الدول اتخاذ موقف رافض بشكل قاطع، إذ رفضت تونس استقبال أي من الأسرى المبعدين، على الرغم من العلاقات التاريخية مع الفصائل الفلسطينية، ما شكَّل مفاجأة غير متوقعة.
كما رفضت الأردن استقبال الأسرى، على الرغم من أن بعضهم يحمل الجنسية الأردنية، في حين امتنعت دول أوروبية عن قبول الأسرى، حتى في الحالات التي يحملون فيها جنسيات مزدوجة، ما يعكس تعقيدات سياسية تمنع حتى الحلول الفردية.
خذلان متواصل
تُشكِّل أزمة استضافة الأسرى المبعدين فصلًا جديدًا من فصول الخذلان العربي والإسلامي الرسمي تجاه الشعب الفلسطيني، وبابًا جديدًا من أبواب التخلي والتنصل من إحدى أعدل القضايا في العصر الحديث.
وبينما تتعالى التصريحات الداعمة لفلسطين في المحافل الدولية والإقليمية، كان الامتحان الفعلي في قضية الأسرى المبعدين كافيًا لكشف حجم الفجوة بين الشعارات والممارسات، وبين الالتزامات اللفظية التي قدمها القادة العرب في القمة العربية الأخيرة في القاهرة، والتي كان عنوانها دعم الشعب الفلسطيني، وبين الواقع الذي يعكس تراجعًا واضحًا عند أول اختبار حقيقي.
تنطلق المواقف السلبية من الدول العربية والإسلامية في التعامل مع الأسرى المبعدين من ثلاثة أبعاد رئيسية، يجمعها قاسم مشترك هو الخضوع للضغوط السياسية والتخلي عن الالتزام الأخلاقي والوطني تجاه فلسطين.
البعد الأول: الرضوخ للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية: ترى العديد من الدول في استضافة الأسرى المحررين مغامرة غير محسوبة قد تُعرِّضها لضغوط سياسية وأمنية، خاصةً في ظل التصنيف الإسرائيلي والغربي للأسرى بوصفهم “إرهابيين” أو “مجرمين”.
وهو تصنيف تتبناه الولايات المتحدة وتفرضه على حلفائها، ضمن مقاربة تعكس انعدام الإرادة السياسية لدى بعض الدول لمواجهة الرواية الإسرائيلية المضللة، وتؤكد أن القرار العربي ما يزال مرهونًا إلى حد كبير بموافقة القوى الكبرى، حتى في قضايا لا تمثِّل أي تهديد أمني أو سياسي حقيقي.
البعد الثاني: سياسة “النأي بالنفس” والهروب من الالتزام: في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي تعيشها المنطقة، اختارت بعض الدول التراجع عن أية التزامات تجاه القضية الفلسطينية، والتمسك بسياسة الانكفاء والانشغال بالمصالح الضيقة لأنظمتها الحاكمة.
وبدلًا من القيام بدور فاعل في احتضان الأسرى المبعدين، فضَّلت هذه الدول أن تنأى بنفسها عن أية التزامات قد تضعها في مواجهة مع القوى الكبرى، أو تُحسب باعتبارها منخرطة بأي شكل من الأشكال في الملف الفلسطيني، في سلوك يعكس تراجعًا استراتيجيًّا خطيرًا في مركزية القضية الفلسطينية ضمن أولويات العالم العربي والإسلامي.
البعد الثالث: الخوف من التأثير السياسي للأسرى المبعدين: يرى بعض صُنَّاع القرار في الدول العربية والإسلامية أن استضافة الأسرى المحررين قد تُشكِّل بوابة لنشاط سياسي وإعلامي فلسطيني على أراضيهم، وهو ما تخشاه أنظمة ترى أن الحراك السياسي الفلسطيني قد يُحرجها داخليًّا أو يُزعزع معادلاتها السياسية بعد أن اتخذت منذ سنوات إجراءات متعددة لتقليص كل هامش لأي حضور سياسي فلسطيني على أرضها.
ويعكس هذا التخوف إصرار هذه الأنظمة على تهميش القضية الفلسطينية وتحييد تأثيرها قدر الإمكان، متجاهلة حتى البُعد الإنساني لقضية الأسرى ضاربة بعرض الحائط أن هؤلاء المناضلين يتطلعون إلى حياة طبيعية بعد سنوات طويلة من الأسر والمعاناة.
بعد أكثر من 470 يوم من الإبادة التي لم تنتهِ باتفاق التهدئة وسط حصار مطبق يلوح من جديد بخطر المجاعة في قطاع غزة، ومع إصرار الاحتلال على تصفية القضية الفلسطينية سياسيًّا وجغرافيًّا، كان المتوقع أن تُبادر الدول العربية والإسلامية إلى تقديم أشكال ملموسة من الدعم للفلسطينيين، لا سيما وأن معركة غزة لم تكن مجرد حرب على قطاع جغرافي، بل كانت معركة وجود للشعب الفلسطيني بأسره.
ومع ذلك، فإن هذا التخلي المتواصل، حتى في أبسط القضايا، مثل استضافة مجموعة من الأسرى المحررين الذين أنهكهم السجن وأكل القيد من لحمهم وعظامهم وأعمارهم، يعكس مدى التراجع والانهيار في الموقف العربي والإسلامي الرسمي.
ما يحدث في قضية الأسرى المُبعدين واستضافتهم ليس مجرد تردد أو مماطلة، بل هو ترسيخ لنهج التخلي التدريجي عن القضية الفلسطينية، وتحويلها من أولوية قومية إلى قضية هامشية في الحسابات السياسية.
ومع استمرار هذا النهج، تتفاقم المخاطر المُحدقة بالقضية الفلسطينية في كل أبعادها، بينما تستمر “إسرائيل” في فرض سياساتها دون أي رادع أو تحدٍّ حقيقي من المحيط العربي والإسلامي، الذي يبدو أكثر انشغالًا في ضبط معادلاته الداخلية، على حساب التزاماته التاريخية والأخلاقية تجاه فلسطين وشعبها.