“مولود لأبوين عاجزين”، هكذا وصفت مجدولين حسن، مديرة القسم العربي في الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية، واقع الاستقصاء في العالم العربي. فالاستقصاء، إن تحدثنا عن جوهره، هو عملٌ يتقصّى الحقيقة، والحقيقة تنكشف بالمعلومة الموثوقة والموثّقة، وإتاحة المعلومة توجب الشفافية، والأنظمة القمعية – باختلاف الدرجة- تتخذ من عدم الشفافية وحجب المعلومة أدوات لحماية المنظومة القمعية وحفظ الوضع القائم في شكل السلطة.
وبرغم الكمّ الهائل المتاح من الأدوات الرقمية والقصص والقضايا العربية التي تستوجب الاستقصاء والحقائق التي تنتظر الكشف، إلا أن المحتوى الاستقصائي العربي المنشور يعتبر محدوداً جداً، وكذلك المؤسسات الإعلامية المهتمة برعاية هذا المجال. برغم ذلك، يمكن أن نذكر عدداً من المؤسسات المهتمة بتطوير ونشر ثقافة الاستقصاء بالمنطقة العربي وتقديم الدعم للصحفيين العرب في هذا المجال، مثل: الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية، وإعلاميون من أجل صحافة استقصائية “أريج”، والوحدة السورية للتحقيقات الاستقصائية “سراج”، وشبكة الصحافة الاستقصائية العراقية “نيريج”.
تزداد الحاجة لهذا النوع من المؤسسات التي تدعم الاستقصاء وتحمي الصحفيين الساعين لكشف الحقيقة، مع واقع الحريات الضيّقة في المنطقة العربية
وفي حديثنا مع مجدولين حسن، أوضحت أنه في ظل التحديات الكثيرة التي يواجهها الصحافيون الاستقصائيون في العالم العربي، تسعى الشبكة لتقديم الدعم بأشكال عدة. فعبر منصات الإعلام الاجتماعي التابعة للشبكة، يتم نشر محتوى يومي متخصص بالصحافة الاستقصائية بما في ذلك أهم الأعمال المنشورة في المجال، بالإضافة لوجود مركز دعم رقمي للصحفيين يمكنهم من خلاله الاستعانة بالشبكة وشركائها لإنجاز قصص صحفية استقصائية ثرية، إذ يحرص المركز على توفير المصادر التي يحتاجها الصحفي ويزوّده بجهات الاتصال والمؤسسات التي تخدم تحقيقه. هذا بالإضافة إلى تنظيم مؤتمر يجمع مئات الصحفيين الاستقصائيين من جميع أنحاء العالم، وتوفير منح زمالات لتدريب وتطوير مهارات الصحفيين الاستقصائيين العرب.
تزداد الحاجة لهذا النوع من المؤسسات التي تدعم الاستقصاء وتحمي الصحفيين الساعين لكشف الحقيقة، مع واقع الحريات الضيّقة في المنطقة العربية، ومع ازدياد التحديات التي يواجهها الصحفي. فالصحفي الاستقصائي معرّض للإصابة بالإحباط نظراً لكون “التجاهل” هو أحد أساليب السلطة لقمع العمل الاستقصائي وإحباط الصحفي الذي يهدف لتحريك المياه الراكدة ودفع السلطات إلى الرد أو للتغيير.
الاستقصاء مع التحوّل الرقمي: الولوجيّة (accessibility) وإشكالية الرقابة
أتاح التحوّل الرقميّ وتطوّر وسائل التواصل للصحفي الوصول إلى مصادر معلوماته، الحيّة وغير الحيّة، بسهولة أكبر. كما سهّل تنظيم وإعداد ونشر المواد الصحفية الاستقصائية وتوضيحها. إضافة لذلك، جوّد التحوّل الرقمي من نتيجة التحقق من صحّة المعلومات والوثائق، عبر استخدام طيف واسع ومتنوع من الأدوات المصمّمة خصيصاً لأجل التحقق من المعلومات والتثّبت من صحتها ومشاركتها مع الأخرين بسريّة. كما أتيحت أدوات تمكّن الفرق من العمل على ذات التحقيق عبر التنسيق فيما بينها، هذا بالإضافة لتوافر مواقع لتحويل البيانات الضخمة إلى قصص صحفية تُبعد القارئ عن الغرق في طبقات البيانات والأرقام المتنوعة.
إن توظيف هذه الأدوات والولوجيّة العالية التي تنتج عنها، لها ثمن ربّما يكون باهظاً بالنسبة للصحفي الاستقصائي. فمجرد كون الاستقصاء هو بجوهره محاولة كشف مستورٍ والحديث عمّا يحرص الكثيرون على السكوت عنه، يجعل العمل الاستقصائي والفريق القائم عليه هدفاً دائماً للرقابة. هذه الرقابة، قد تتحوّل لأشكال عدة من الفعل، فإن كشف العمل قبل النشر قد يدفع الرقيب للتدخّل باستخدام سلطته لوقف التحقيق بالكامل، عبر تهديد المحقق أو المصادر. وإن كان الرقيب أكثر ذكاءً، يمكنه التدخل عبر تضليل الصحفي بمعلومات وبيانات تضرّ بدقة التحقيق، وبالتالي بمصداقية العمل الاستقصائي بعد نشره.
خدم التحوّل الرقمي الصحافة بمجالاتها المتعددة، إذ خلق مساحات رقمية لنشر المحتوى الصحفي بقوالب مختلفة، ووظّف التكنولوجيا لخدمة المحتوى الصحفي
إضافة لذلك، يعرّض الاعتماد الكبير على الإنترنت والتخزين السحابي والمراسلات الإلكترونية المصادر المشاركة في التحقيق لخطر الانكشاف. فعلى سبيل المثال، يمكن للسلطات أو لشركة ما الكشف عن هوية مسرّب بيانات أو ملفات أو تسجيلات صوتية من الشركة\المنظمة\الوزارة، إن أرسلها عبر الإيميل أو عبر شبكة الإنترنت التابعة لمكان العمل. هذا الخطر الذي يحيط بالعمل الاستقصائي ويهدد خروجه للنور، يوجب على الصحفي اتخاذ إجراءات احتياطية لحماية مصادره وحماية نفسه. وهنا يُنصح باتباع تعليمات السلامة الرقمية المفصّلة في عدة فصول في هذا التقرير.
كيف تستفيد الصحافة الاستقصائية من الأدوات الرقمية؟
خدم التحوّل الرقمي الصحافة بمجالاتها المتعددة، إذ خلق مساحات رقمية لنشر المحتوى الصحفي بقوالب مختلفة، ووظّف التكنولوجيا لخدمة المحتوى الصحفي، كما فرض على المحتوى التفاعل والتكيّف مع هذا التحوّل واستخدام أدواته. إضافة لذلك، خلق التحوّل الرقمي مجالات صحفية جديدة تعتمد بشكل أساسي على الأدوات الرقمية وعلم الحاسوب، مثل صحافة البيانات.
لم تكن الصحافة الاستقصائية بمعزل عن التأثر من هذا التحوّل، فقد وظفت الأدوات الرقمية لخدمة التحقيق والاستقصاء وبناء شكل القصة الصحفية الاستقصائية ومعالجة البيانات وتوثيق الأدلة المستخدمة، وسهّلت الوصول للمعلومة والمصادر، ومعالجتها عبر أدوات تحليل المحتوى. إضافة لذلك أتاحت قوالب جديدة لنشر التحقيق الاستقصائي، باستخدام صحافة البيانات والخرائط والتحليل الشبكي والفيديو وحتى منصات التواصل الاجتماعي كمنصة نشر أساسية للتحقيق المعدّ.
بالحديث عن ذلك يمكننا الإشارة لعدد من التحقيقات التي استخدمت الأدوات والمنصات الرقمية لخدمة التحقيق الصحفي أو عرضه، وتعتبر هذه تجارب مثيرة للاهتمام وتدفعنا للالتفات بجدية أكبر لممكنات العالم الرقمي بخدمة الصحفي والصحافة. على سبيل المثال لا الحصر، استخدم تحقيق “جنرالات الذهب” خاصية التحليل الشبكي لعرض نتائج التحقيق حول الاقتصاد العسكري في مصر. وفي تحقيق آخر نشرته الجزيرة الإنجليزية، دُمجت معالجة البيانات بالصحافة لرواية قصة استقصائية رقمية حول اجتياز العمّال الفلسطينيين حواجز التفتيش الإسرائيلية يومياً للوصول لمكان العمل. وعند الحديث عن استخدام منصات التواصل الاجتماعي كمنصة نشر واحدة ووحيدة للعمل الاستقصائي المصوّر، نجد مثالاً وحيداً وهو تحقيق “سفارة الموت”، الذي أنتج خصيصاً ليلائم منصات التواصل وليتحدث مع مستخدمي فيسبوك وتويتر وانستغرام.
يفرض تبنّي الصحافة لأدوات جديدة لجمع المعلومة ونشرها أو اتباعها لاتجاهات جديدة من حيث شكل العرض ومنصات النشر، يفرض أسئلة وحدوداً أخلاقية جديدة، أو تعديلاً على المعايير الأخلاقية الحالية
بالإضافة للتغيير الذي أحدثه استخدام الوسائل والأدوات الرقمية على شكل منتج العمل الاستقصائي، يمكننا ملاحظة إثراء هذا التغيير للموارد الممكن دمجها لإنتاج العمل، لأن تحوّل جزء من المصادر من مصادر تقليدية من ملفات وتقارير مطبوعة وتسجيلات إلى مصادر رقمية تشمل قواعد بيانات ضخمة لا يمكن تحويلها إلى قصة صحفية دون جهود مختصين في علم الحاسوب. وعليه نشأت الحاجة لوجود تخصصات مختلفة يمكنها خدمة الاستقصاء وإثراء محتواه وتوسعة ممكناته، كما نشأت مجالات جديدة داخل الصحافة مثل صحافة البيانات.
الأسئلة الأخلاقية التي تفرضها الرقمنة
يفرض تبنّي الصحافة لأدوات جديدة لجمع المعلومة ونشرها أو اتباعها لاتجاهات جديدة من حيث شكل العرض ومنصات النشر، يفرض أسئلة وحدوداً أخلاقية جديدة، أو تعديلاً على المعايير الأخلاقية الحالية.
فعلى سبيل المثال، تتيج التكنولوجيا للصحفي أخذ المعلومة من فضاء الإنترنت بطرق عدة، منها ما يعتبر محط تساؤل من الناحية الأخلاقية، مثل الاستعانة بالقراصنة لتسريب ملفات أو اختراق حسابات، ومثل انتحال هويات مزيفة للوصول للمعلومات من داخل حسابات شخصية لأفراد يرتبط اسمهم بقضية التحقيق.
بالإضافة لهذه الممارسات التي قد تعرّض الصحفي لإشكالات قانونية، هناك سؤال أخلاقي حول أحقية الصحفي استخدام محتوى أصيل موجود على صفحات شخصية لمستخدمين في منصات التواصل، التي تخدم التحقيق من ناحية، فيما قد تعرّض الناشر للخطر إذا ورد اسمه كمصدر في التحقيق من ناحية أخرى. وهنا يجب على الصحفي الإجابة على أسئلة عدة متعلقة بالتعامل مع إشراك الجمهور في العمل الصحفي، والتعامل مع المحتوى المنتج من قبلهم، ووجوب طلب الإذن وشرح سبب استخدام المحتوى وتوضيح التبعات المحتملة لذلك.