غارقًا في حوض السباحة بلا حركة، يحاول جاهدًا أن يتذكر ماضيه، كن أربعًا من النساء على النهر يغنين في صوتٍ واحد، “سأكون بجانبك دومًا، حتى أموت من الحب”، وقد فرغن للتو من غسل الملابس، ونظرة الصغير “سالفادور” لهن وهن يغنين تقول: هكذا صنعت أيامي.
هذه مقدمة الفيلم الإسباني الأخير “ألم ومجد” (Dolor y Gloria)، للمخرج بيدرو ألمودوفار، كتابةً وإخراجًا، الذي رشح هذا العام للفوز بالسعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي، بطولة كل من أنتونيو بانديراس وبينيلوبي كروز وأسير إتكسينديا وجوليتا سيرانو وليوناردو سباريليا، واختارته مؤخرًا الأكاديمية الإسبانية ليكون ممثلًا لإسبانيا في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي هذا العام.
مرجعية ذاتية
لا يكتب مخرج سينمائي فيلمًا ذا مرجعية ذاتية، يتناول فيه جزءًا من حياته، إلا إذا كانت تلك الحياة والسيرة المهنية ممتلئة بالكثير من الذكريات والألم والحب والمجد والخسارة، ومشحونة بالكثير من الأفكار الشخصية، وهو ما يفعله ألمودوفار، في هذا الفيلم.
“ما يفاجئني أنك لا تعمل، لطالما ظننتك من نوع الأشخاص الذين لا يتقاعدون! وهذا ما ظننته أيضًا”.
يبدو سالفادور عجوزًا يحاول التأقلم مع الألم بكل أشكاله، خصوصًا ألم الظهر، لديه سيرة حافلة مع الأمراض ومكتئب دائمًا، وحياته كشاشة عرضٍ أمام عينه أينما ذهب، فقد تخلى عن مهنته كمخرج سينمائي منذ فترةٍ طويلة، ويبدو أنه على موعدٍ مع رحلة مواجهة القرارات التي اتخذها طوال حياته.
الحكاية تبدأ من الماضي
“لقد جعلوني جاهلًا تمامًا دون خوض الامتحانات”
الفيلم لا يسير في خطٍ زمني واحد، وهذا طبيعي إذا أردت أن تصنع فيلمًا من أجل إرضاء الذات، يتحدث عنك، وعن كل تلك الأشياء التي مررت بها، لذا يعود ألمودوفار، بالحكاية لأولها، الحكاية دائمًا تبدأ في الماضي.
بعد أن يصبح الفتي سالفادور المغني الأول والمفضل في جوقة الكنيسة، قرر القس ألا يحضر هذا الطفل دروس الجغرافيا والتاريخ والعلوم وتاريخ الفن، ما فعله القس كان محاولةً لتهذيب وترقية ذوق الفتى في رأيه، لكن بدلًا من ذلك جعله جاهلًا، وكانت السينما ومشاهدة الأفلام، ما أعادت للفتى شغفه بالحياة.
عرف سالفا الجغرافيا بعد أن أصبح مخرجًا يسافر كثيرًا، وعرف جسده من خلال الألم والمرض، وبجانب آلامه وأمراضه الجسدية، فهو لا يخلو من آلامٍ روحية.
العيش في الذاكرة
“في الليالي التي تهجم عليّ فيها عدة آلامٍ معًا، في تلك الليالي أومن بالرب، وأصلي له”.
الذاكرة في أفلام ألمودوفار، دائمًا حاضرة بقوة، في هذا الفيلم بالذات، هو من أوله لآخره عرض لتاريخ شخصي مر به ألمودوفار، الطفولة والماضي، الذاكرة التي دونها لا يصبح المرء حيًا، كلها أسئلة تدور في ذهنه، أسئلة يبحث لها عن إجابة.
مع أول مرةٍ جرب فيها سالفادور رشفةٍ من مخدر الهيروين وهو مقبل على الشيخوخة، بعد أن قابل بطل فيلمه الذي صنعه منذ أكثر من ثلاثين سنة، بعد تلك الرشفة سكنت معه كل تلك الآلام في رأسه، راجعًا لطفولته، لتلك الليلة التي قضاها مع أمه، للرواية التي وجدها مرميةً في القمامة، كانت المرة الأولى التي انتقلوا فيها للكنيسة.
عيش سلفادور قبل ذلك مع عائلته في كهفٍ، لم يبعده عن القراءة ولا المذاكرة، لقد رأى في هذا الكهف جنةً له، خصوصًا مع تلك الفتحة منه التي تطل السماء منها عليه.
الوحدة والألم
“لقد كان أكثر الرجال الذين رآهم الموت وحدةً على الإطلاق”.
سلفادور رغم كل ما حققه من مجد وشهرة كمخرج وكاتب، كانت الوحدة رفيقًا له، وطوال تلك السنوات لم يستطع أن ينتزعها من قلبه، لقد كان أكثر الرجال وحدةً على الإطلاق.
في أثناء عودة “ألمودوفار” المتكررة للماضي، لزمن طفولة سلفادور، لا توجد معالم واضحة تؤكد أن هذه القرية التي تربى فيها وهو صغير، بالنسبة لأن هذه سيرة ذاتية له، لكن ليس دائمًا تعرض كل التفاصيل أو أحيانًا يجهل بعضها.
“أهكذا تعيش، في الظلام؟ نعم، عندما يؤلمني رأسي”.
ألبيرتو بطل فيلم سلفادور من ثلاثين سنة، الذي لم يكن مقتنعًا تمامًا بتمثيله للدور آنذاك، حياته الآن لا تختلف كثيرًا عن مخرجه، هو لم يعد يمثل، ابتعد عن المهنة منذ فترةٍ طويلة، ولم ينل شهرةً ومجد مثل الذي حققه أيام أن كان بطلًا لفيلم “taste”، الذي يجمع الاثنين الآن مرةً ثانية، هو نفس الفيلم، بعد أن تم ترميمه، ويحتاجون لتقديمه في بعض العروض.
“إن النميمة تشيخ يا ألبيرتو، تمامًا كما يشيخ البشر”.
ثلاث حكايات في فيلم واحد
يمكننا أن نقسم الفيلم لثلاث حكايات، متداخلة ومتصلة ببعضها، لا تعلو واحدةً منهم على أخرى، وهو ما يحيلنا لقدرة المخرج على ربط الأحداث والحفاظ على الوتيرة، دون أن يتخلل ذلك ملل أو تنفرط الحبة من السلسلة، وهو ما برع فيه ألمودوفار.
الحكاية الأولى كانت عن سالفادور وطفولته وعلاقته بأمه، الحكاية الثانية عن علاقته بألبيرتو وما آل إليه الاثنان، من بعد عن المهنة والتوقف عن التمثيل أو الإخراج أو الكتابة، والأخيرة عن صديقه “مارسيلو”.
أنت وأنا لا هرب من النفس
“إن كان هناك ما أنقذ مارسيلو، فأنه قد رحل عني، أما أنا فبقيت في مدريد، وأنقذتني الأفلام”.
النص الذي يؤديه ألبيرتو على خشبة المسرح في قاعةٍ صغيرة، وهو مونولوج مسرحي، بعد أن وافق سالفادور أن يعطيه إياه، شرط ألا يذكر أنه كاتبه، لم يكن ألبيرتو يحكي فيه فقط الحكاية التي كتبها سالفا في نصه “إدمان”، عن صديقه مارسيلو وحبه له، كان في نفس الوقت يحكي حكايته هو مع الإدمان، مع ذلك المخدر “الهيروين”، الذي كان يهرب منه ويعود إليه، كذلك في خطٍ درامي آخر، كان قد بدأ سالفا يتخذ من الهيروين كعلاج له من كل تلك الآلام التي تهاجمه، خصوصًا الآتية من الذاكرة.
ألبيرتو كان صادقًا في أداء دوره، كذلك سالفادور في كتابته، وربما كان هذا النص سببًا أن يعرف مارسيلو مكان سالفا مرة ثانية ويقابله.
كل إطار، مشهد في هذا الفيلم، يمكننا اعتباره لوحةً فنية شديدة الجمال والإتقان، أبدع في صنعها ألمودوفار بكاميرته وكتابته، فالتصوير هنا يجذب المشاهد ولا يجعله يبتعد نهائيًا، فيظل متابعًا للفيلم، ومتابعة تكوين الفيلم من كادرات سينمائية، هي في الأصل لوحات عكف على رسمها ألمودوفار في ذهنه قبل أن تتجسد وتكون حقيقية وجميلة لهذا الحد.
أنتونيو بانديراس في هذا الفيلم قدم تمثيلًا عظيمًا وترك طابعًا قويًا، أن الممثل الموهوب يظل موهوبًا مهما كبر في السن، وبينلوبي قدمت أداءً قويًا، وأسير إتكسينديا قدم الدور كما ينبغي.
الإحساس بالألم دائمًا موجود، لكننا نحاول إخفاءه ووجود الفن في حياتنا يصالح هذا الألم.