يعد قطاع الصحافة من أوائل الصناعات التي دخلتها التكنولوجيا وساهمت بتطويرها، حيث أدى زيادة الطلب على الصحف إلى اختراع الآلة الطابعة، كما ساعد “ابتكار” الفاكس على تنوع مصادر الخبر وسرعة انتشاره، أما الإنترنت فحرر الصحف من نطاقها المحدود داخل البلدان وأطلقها نحو العالمية.
وكان لوصول بدايات الثورة الصناعية الرابعة – خوارزميات الذكاء الاصطناعي – على أعتاب صناعة الخبر والعمل الصحفي أصداء متفاوتة، فما بين مرحب ومشجع، ومشكك ومتخوف، تباينت الآراء.
ومع ذلك فإن كبرى المؤسسات الإعلامية والصحف العالمية تسارع الخطى للاستفادة من الذكاء الاصطناعي مع يقينها بأن هذا العلم سيغير طريقة إنشاء الخبر وإنتاجه ونشره. ويتوقع أنه خلال السنوات العشرة القادمة سيتم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بشكل كامل في تحليل البيانات وأرشفتها وإنتاج تقارير منها.
كيف يسهّل الذكاء الاصطناعي العمل الصحفي؟
لعل فوائد الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي كثيرة جدًا، لكن يمكن حصرها بثلاث بنود رئيسية، وهي:
أولاً: إنجاز المهام الروتينية
تساعد خوارزميات AI على أتمتة وإنجاز الكثير من المهام والتقارير الروتينية، التي تستهلك وقت الكثير من الصحفيين، على سبيل المثال، تمكنت الخوارزميات الخاصة بوكالة أسوشيتيد بريس من زيادة عدد التقارير الخاصة بشركات المال والأعمال من 300 تقرير في الشهر إلى 4000 تقرير. ويتوقع أن تكتب الروبوتات 90% من مقالات المال والأعمال خلال الـ15عامًا القادمة.
ثانيًا: توفير رؤية شاملة وبسرعة كبيرة
يمتاز الذكاء الاصطناعي بقدرته على التفاعل الفوري مع البيانات حال نشرها وتجهيزه لملخصات وقصص قصيرة عما يحدث خلال وقت قصير جدًا، هذه المهمة كانت تستغرق أيامًا طوال للوصول إلى مثل هذه الخلاصة.
ثالثًا: السرعة في تجهيز المحتوى
يساعد الذكاء الصحفيين على إنشاء المحتوى المطلوب إنجازه بسرعة كبيرة وبعدد أقل من الموظفين، حيث يمكن لتلك الخوارزميات إنشاء مقاطع فيديو قصيرة من البيانات التي تجمعها خلال ثوانٍ معدودة.
أمثلة للأدوار المهمة التي يؤديها الذكاء الاصطناعي في الصحافة
يلعب الذكاء الاصطناعي أدوارًا كثيرةً ومهمةً في عالم الصحافة، وأثبت جدارته في إنجاز مهام معقدة تستغرق الكثير من الوقت والمجهود، وفيما يلي بعض أهم الأدوار التي يجد الذكاء فيها مساحة واسعة للتحرك ويعتمد الصحفيون عليها بكثرة.
1- جمع البيانات وكتابة المحتوى
أثبتت خوارزميات AI قدرة بارعة في استنباط المعلومات من داخل البيانات النصية، حيث يمكن لتلك الخوارزميات جمع المعلومات بشأن موضوع معين من داخل مئات المقالات والنشرات والتدوينات وترتيبها ضمن سياق زمني، وتنبيه الصحفيين بخصوص أبرز النقاط التي تفاعل معها الجمهور بغية التركيز عليها.
هذا الأمر يسهّل عمل الصحفيين بخصوص تركيز جهودهم على نقاط معينة يمكنهم الكتابة عنها واستهداف الجماهير بتلك المقالات حسب ميولهم وتاريخ نشاطهم الرقمي واقتراح مقالات لهم حسب هذا الميول، الأمر الذي يؤدي إلى بقاء القراء في تلك المواقع الإخبارية لفترة أطول وتصفحهم للمزيد من المحتوى في ذات نفس الشأن.
2- كشف الأخبار المزيفة
يمثل التحدي الذي يواجه معظم الصحفيين والقراء على حدٍ سواء هو قدرتهم على كشف المحتوى المزيف والأخبار المضللة، لكن لحسن الحظ فإن خوارزميات الذكاء الاصطناعي لها المقدرة على التمييز بين مصدر الخبرين، حيث يمكن لتلك الخوارزميات مقارنة الخبر من مصدره الأصلي وتحديد نقاط الاختلاف بين الخبرين، وكذلك مقارنة الخطاب أو الخبر مع أمثلة مشابهة أو خطابات سابقة من نفس المصدر لتحديد أوجه التشابه ومن ثم إصدار الحكم عليها.
3- تنمية وتطوير الموارد البشرية
الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي بعيدان عن تقليص عدد الوظائف في الصحافة كما يظن البعض، على العكس من ذلك فهما يساهمان بتوفير فرص عمل جديدة، حيث سيحتاج صحفيو الغد إلى التدريب على تصميم هذه الخوارزميات وتحديثها وتعديلها والتحقق من صحتها وتصحيحها والإشراف عليها وصيانتها.
كما ستحتاج المؤسسات الإعلامية إلى المزيد من المبرمجين ومهندسي الحاسوب بغية تطوير خوارزمياتها باستمرار والحفاظ على مصداقية الخبر من خلال مكافحة الأخبار المزيفة والحفاظ على مواقع الصحف من الاختراق.
4- إنتاج المحتوى الآلي
لعلّ من أبرز المساهمات التي يغطيها الذكاء الاصطناعي إنشاؤه القصص والمقالات الخبرية المعتمدة على البيانات والأرقام، ومن ذلك إنشاؤه التقارير الخاصة عن الطقس وسوق المال والنتائج الرياضية. فعلى سبيل المثال ينتج الذكاء الاصطناعي في مؤسسة “RADAR” بالمملكة المتحدة نحو 8000 مقالة شهرية.
المؤسسات والصحف العالمية التي استخدمت الذكاء الاصطناعي
1- نيويورك تايمز
أدخلت صحيفة “نيويورك تايمز” أنظمة الذكاء الاصطناعي للعمل لأول مرة عام 2015، حيث طوّر المبرمجون في الصحيفة خوارزمية تعرف باسم “المحرر” تعمل على مساعدة الصحفيين في كتابة مقالاتهم، فعند كتابة المقال يميز الصحفي بعض العبارات أو العناوين أو النقاط الرئيسية في النص.
بمرور الوقت يتعلم النظام التعرف على هذه العلامات الدلالية ومعرفة أماكن وجودها في مقالات أخرى مما يسهل على الصحفي عملية جمع الأخبار.
أيضًا خصصت الصحيفة فيما سبق فريقًا مكونًا من 14 موظفًا مهمّتهم متابعة والرد على تعليقات القراء، وكان الفريق يتفاعل مع 11000 تعليق في اليوم كحد أقصى، بعد ذلك استعانت الصحيفة بأنظمة AI للرد على التعليقات ومكافحة التعليقات المسيئة، مما أدى إلى توسيع عدد الردود واستغلال الصحيفة لجهود الفريق في مجالات أخرى.
2- بي بي سي
تعد “بي بي سي” مستودعًا هائلاً للبيانات، فمن الأخبار اليومية إلى مصادر الأخبار الحكومية والإنترنت إضافة للأرشيف ينتج جبل من البيانات، لذا تستخدم “بي بي سي” أداة استخراج البيانات والمعروفة باسم “Juicer” منذ عام 2012، التي توفر طريقة رائعة لربط هذه البيانات مع بعضها بطريقة تجعلها أكثر سهولة وفي نفس الوقت ذات مغزى.
يستخدم نحو 850 منفذًا إخباريًا الخلاصات التي تنتجها “Juicer” وتُعتمد كمرجع إخباري.
3- رويترز
عقدت “رويترز” عام 2016 شراكة مع شركة “Graphiq” لتزويد ناشري الأخبار – العاملين عندها أو في وكالات أخرى – بمجموعة واسعة من البيانات المجانية في موضوعات مختلفة منها الترفيه والرياضة والأخبار، وتخضع البيانات بصورة مستمرة للتمحيص والتحديث مما يسهل على الصحفيين الوصول بسهولة للخبر.
4- واشنطن بوست
عام 2016 أطلقت “واشنطن بوست” تجربة الصحافة الآلية عبر برنامج “Heliograf”، الذي بدأ عمله في أولمبياد ريو، حيث يجمع النظام الأخبار من خلال تحليل البيانات حال ظهورها، ومن ثم يضعها في قوالب خبرية مخصصة مسبقًا، وبعد ذلك ينشئ النظام سردًا قصصيًا مناسبًا للخبر.
5- أسوشيتيد بريس
استخدمت الوكالة أنظمة AI عام 2017 لفرز وتسمية آلاف الصور الإخبارية التي تتعامل معها الوكالة كل يوم.
يمكن للنظام تمييز الصور من خلال المحتوى وأسلوب التصوير، والكشف عما إذا كانت الصور تحوي مشاهد عنف أم لا، يذكر أن تطوير هذا النظام استغرق 36 شهرًا.
6- ذا غارديان
أطلقت صحيفة “الغارديان” اللندنية برنامج “Chatbot” عام 2016، لتوفير الوقت في التصفح والبحث عن الأخبار.
يتيح هذا البرنامج للمستخدمين اختيار نوع الإصدار سواء الخاص بالولايات المتحدة أم المملكة المتحدة أم أستراليا، مع اختيار وقت تسلم الأخبار، وبإمكان المستخدم تحديد نوع الأخبار التي يتلقاها سواء رياضية أم سياسية، كذلك يعرض النظام مقالات ذات محتوى تشابه ميول القارئ.
7- بلومبيرج
تستخدم “بلومبيرج” أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي أنتجتها شركة Cyborg للتكنولوجيا الآلية، هذه الأداة تتيح للمراسلين إنتاج آلاف المقالات شهريًا، ونحو ثلث المحتوى على موقع بلومبيرج من إنتاج الذكاء الاصطناعي.
تحديات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي
يواجه تمدد الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي الكثير من التحديات والمعوقات، منها ما هو فني وتقني بحت، وآخر يتعلق بالمخاوف من نشر الأخبار المضللة، وفيما يلي بعض الأمثلة لأهم المعوقات:
1- توافر البيانات
تعمل خوارزميات التعلم الآلي بشكل أفضل عندما تتوافر بيانات كافية لتكوين أنماط معينة، فمن دون توافر مقدار كبير من البيانات يكون عمل الخوارزميات محدودًا ونتائجها غير دقيقة. ففي حين أن البشر باستطاعتهم مقارنة التجارب واستنباط النتائج من خلال عدد قليل من التجارب المماثلة، فإن الذكاء الاصطناعي يتطلب وجود كميات كبيرة من البيانات لتحقيق نفس النتائج.
2- فهم البيانات غير المنتظمة
يمكن لخوارزميات AI ترجمة النتائج المجدولة للألعاب الرياضية أو بيانات الأرباح بسهولة إلى مقالات باستخدام قوالب موحدة، لكن إذا أردنا أن تصبح الخوارزميات أكثر انتشارًا وإبداعًا في المجال الاقتصادي، فنحتاج إلى تطوير تلك الخوارزميات لتتمكن من فهم وتوليف البيانات غير المهيكلة التي تشكل معظم البيانات في العصر الحاليّ.
3- انعدام الوعي
مهما تطورت أساليب الذكاء الاصطناعي، ففي المحصلة هي خوارزميات لا يمكنها شرح أو توضيح لماذا كتبت هذا المقال، أو كيف توصلت لهذه النتائج.
وللوصول إلى هذا المستوى من الإدراك يستلزم تدريبها على كميات هائلة من البيانات عن كيفية تفاعل البشر مع الأخبار وطرق تفكيرهم وأسلوب استنباط النتائج، وهذا يحتاج لقدرات حاسوبية كبيرة قد لا نراها قريبًا.
4- التحقق من دقة الخبر
لا يمكن للخوارزميات المحررة للتقارير الاقتصادية أو الرياضية التمييز بين المدخلات التي تلقتها كونها دقيقة أو غير ذلك، ونشرها لأي تقارير تحتوي معلومات خاطئة قد يسهم في حدوث مشكلة في أصالة مواضيعها مسببةً بنتائج خاطئة.
5- المساءلة القانونية
حال اعتمدت خوارزميات مؤسسة إعلامية معينة على بيانات شركة ما وكانت نتائج التقرير خاطئة وسببت مشاكل، فمن يتحمل المسؤولية؟ هل المؤسسة الإعلامية أم الشركة المجهزة للبيانات أم المبرمجون للخوارزميات؟
يحاول المشرعون الوصول إلى قانون ينظم عمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في كل المجالات.
هل ستحل الآلة مكان البشر في العمل الصحفي؟
من المؤكد أن اليد الطولى تبقى للبشر، فهم يملكون ما لا تملكه الآلة، يتمتعون بميزات كثيرة منها الذكاء والتفكير والإبداع والقدرة على التكيف، لكن مستقبل الصحافة التي تدعم الذكاء الاصطناعى سيغير أسلوب عمل الصحفيين، فالوظائف والأدوار والمهام لهؤلاء الناس سوف تتطور وتبدو مختلفة بعض الشيء، وسيتم تهجين العمل البشري – مزج مع الخوارزميات – ليناسب إمكانات الذكاء الاصطناعى ويستوعب حدوده.
مستويات الأتمتة الحاليّة بلغت نسبة 15% فقط من وظيفة المراسل و9% من وظيفة المحرر، وهذا العلم مستمر بالنمو ومستمر لشغل مجالات أخرى من الوظائف.
صحفيو الغد مطلوب منهم التكيف مع الآلة وتطوير قدراتهم وتحديث معلوماتهم باستمرار لتعزيز مكانتهم في الصحف، وحتمًا الأتمتة مكملة لعمل الصحفيين وليست طاردة لهم.
تشير الإحصاءات أنه من المتوقع إنفاق ما قيمته 127 مليار دولار على استثمارات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، وأن مستويات الأتمتة الحاليّة بلغت نسبة 15% فقط من وظيفة المراسل و9% من وظيفة المحرر، وهذا العلم مستمر بالنمو ومستمر لشغل مجالات أخرى من الوظائف، وأي مؤسسة إعلامية إن أرادت البقاء في المنافسة وشغل حيز من متابعات الجماهير فيتوجب عليها الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، والنمط الكلاسيكي في إعداد المحتوى وتحريره ونشره يتجه نحو الاندثار.
رأينا على الشاشات روبوتًا يذيع الأخبار، من يدري لعل في المستقبل تسيطر الحواسيب على الصحافة بشكل كامل، والبشر هم المكملون لعملهم عكس ما نراه الآن بالضبط.