أمام قسم غسيل الكلى بمستشفى الصف المركزي وقف الحاج أحمد ينتظر دوره في إجراء عملية غسيل لكليته، تبدو عليه ملامح الإعياء، مسندًا ظهره على جدار أسمنتي متهالك، إذ لا يوجد مقعد شاغر، فالمكان ممتلئ عن آخره وحرارة الشمس تمارس طبيعتها الحارقة في الإجهاز على ما تبقى من قطرات ماء تداعب حلق المرضى على قوائم الانتظار في الخارج.
لم يكن يعرف أحمد البالغ من العمر 55 عامًا طريق المشفى إلا قبل عدة سنوات فقط، حين شعر فجأة بألم حاد يقطع أحشاءه، في البداية اعتقد أنه ليس أكثر من “مغص كلوي” يداعبه بين الحين والآخر، غير أن الأمر اشتد عليه بصورة غير مسبوقة، لم يتحمل معها الألم من شدته، فما كان منه إلا الذهاب للوحدة الصحية الملاصقة لبيته.. وهنا كانت الفاجعة.
هل هذه أول مرة تشعر بهذا الألم؟ كان هذا السؤال الأول للطبيب المعالج بعد إجراء بعض الفحوصات، ليجيب الرجل الخمسيني: نعم يا دكتور، وهنا بدا على الطبيب ملامح الامتعاض والحزن ليبادر شقيق أحمد الذي رافقه للوحدة بالسؤال: هو عنده إيه يادكتور.. خير طمنا.. ليجيب الطبيب: للأسف أخوك مصاب بفشل كلوي.
لم يتمالك أحمد نفسه من البكاء، شاطره في ذلك شقيقه، غير أن الطبيب أراد طمأنتهما بقوله: لست الوحيد المصاب بهذا المرض، معظم أهل القرية يعانون من الفشل الكلوي بسبب مياه الصرف الصحي واستخدام المياه الملوثة، سواء في الشرب أو الزراعة، وهو مرض منتشر بين المصريين عمومًا فلا داعٍ للقلق، المهم المواظبة على العلاج والحرص فيما هو قادم.
معاناة يومية
“كلما ابتعدت عن مقر المحافظة الإداري انعدمت الخدمات”، هذا لسان حال قرى مركز ومدينة الصف بمحافظة الجيزة، هذه القرى التي يعاني أهلها من نقص فاضح في الخدمات والإمكانات، في ظل تجاهل تام من المسؤولين، الأمر الذي ينغص واقع الأهالي ويضع حياتهم على المحك.
وتتعدد قائمة المشكلات التي يواجهها أهالي الصف، إلا أن أم المشاكل بها هي تلوث مياه الشرب وزيادة منسوب المياه الجوفية بسبب ترعة كوم أمبو الخاصة بالصرف الصحي للقاهرة الكبرى، التي دمرت الرقعة الزراعية بجميع القرى وأغرقت المنازل في المياه، نظرًا لارتفاع منسوب الترعة عن الأراضي المجاورة لها.
شهادات عدة حصل عليها “نون بوست” تكشف حجم المعاناة الحقيقية لأهالي هذه المدينة، حيث يشير أشرف (مدرس) إلى أن الأهالي فوجئوا أكثر من مرة بتغيّر لون المياه التي تنزل من الصنبور داخل المنازل، ما بين اللون الأصفر الداكن والبني، هذا بخلاف الرائحة الكريهة المصاحبة للمياه التي لا تختلف كثيرًا عن رائحة مياه الصرف الصحي.
ويضيف أشرف أن هذا التغير في لون المياه ربما يستمر لعشرة أيام كاملة، ورغم المناشدات المستمرة للمسؤولين في الحي وشركة المياه، فإن أحدًا لم يحرك ساكنًا، وتابع: “معظم شباب البلد الآن مصاب بالفشل الكلوي بسبب شرب هذه المياه التي يؤكد البعض أنها تختلط بمياه الصرف الصحي”.
تحاليل مياه الشرب بالصف من الإدارة الصحية بها قبل عدة أعوام، أثبتت من خلال 141 عينة مأخوذة من مياه الشرب بقرى المركز بواسطة وزارة الصحة أنها غير صالحة للاستخدام الآدمي
ويتفق معه في الرأي متولي، طالب جامعي مقيم بقرية الشرفا التابعة للمركز ذاته، أكد متولي أن أهالي قرى المركز بأكمله يعانون من الأمراض الكلوية والصدرية بسبب التلوث، سواء كان تلوث مياه الشرب والزراعة أو الناجم عن مصانع الأسمدة والعلف التي تغطي سماء البلدة بأكملها في ظل غياب تام للرقابة من وزارة البيئة.
ويضيف الطالب الجامعي أن زيارة واحدة لقرى الصف في الصباح الباكر تكشف حجم معاناتهم، فالطوابير الواقفة أمام المستشفى المركزي كفيلة أن ترسم صورة واضحة عن حياة الأهالي، وتعكس ملامح واقعهم المرّ الذي يزداد مرارة يومًا تلو الآخر في ظل تجهيل لهذه البقع النائية على خريطة مصر المحروسة.
الأمر ذاته حذّر منه محمد فرج، الطبيب العامل بأحد المراكز الصحية هناك، الذي أكد أن تشخيص معظم حالات المرضى يتعلق بالأمراض الناجمة عن تلوث المياه، وعلى رأسها الفشل الكلوي والطحال وأمراض الكبد، هذا بخلاف الأمراض الصدرية الناجمة عن التلوث الهوائي كذلك.
فرج في حديثه لـ”نون بوست” أشار إلى أن العديد من الرسائل والمكاتبات وجهت للوزارة والجهات التنفيذية، لكن الأمر يزداد تعقيدًا كلما تأخرت الاستجابة، لافتًا إلى أن رد الفعل يتسم بالبطء وهو ما يضاعف الأزمة ويزيد أعداد المصابين بالأمراض الناتجة عن تلوث المياه.
المياه غير صالحة للاستخدام الآدمي
مسؤولون بالقرى هناك أشاروا إلى أنهم قدموا العديد من المناشدات للمحافظة لإنهاء مشروع الصرف الصحي بالقرية الذي يُنفذ منذ أكثر من 8 أعوام، لكن لم يتلقوا أي استجابة، خاصة أن تشغيل هذا المشروع من المتوقع أن يقلل كثيرًا من نسبة المياه الجوفية التي أغرقت المنازل ودمرت الزراعة، بالإضافة إلى رفع المعاناة عن الأهالي.
من جانبه أكد المهندس عاشور راغب، وكيل وزارة الري بالقاهرة والجيزة، أن مياه الصرف الصحي المعالجة تسببت في غرق عدد كبير من قرى مركز ومدينة الصف، لارتفاع منسوبها مشيرًا إلى أن السبيل الوحيد لمنع ذلك وتقليل منسوب المياه، حفر مصارف أعلى سطح الأرض، مشيرًا إلى أنه من المقرر إنشاء 11 مصرفًا نُفذ 1 فقط والباقي لم ينفذ.
وأضاف راغب في تصريحات صحفية له أن جزءًا من الأراضي المخصصة لإنشاء المصارف تقع في ولاية الإصلاح الزراعي والجزء الآخر في ولاية القوات المسلحة، وأنه لم يتم توفير الأرض حتى الآن، مشيرًا إلى المصرف الذي نُفذ نجح في خفض منسوب المياه بإحدى القرى.
“نسبة تلوث المياه في مصر تزيد على ثلاثة أمثال معدلات التلوث العالمية” منظمة الصحة العالمية
الناشط الحقوقي إبراهيم سعيد سلام، ابن مدينة الصف، في تصريحات سابقة له قال إن تحاليل مياه الشرب بالصف من الإدارة الصحية بها قبل عدة أعوام، أثبتت من خلال 141 عينة مأخوذة من مياه الشرب بقرى المركز بواسطة وزارة الصحة أنها غير صالحة للاستخدام الآدمي وبها بروتوزوا حية وبكتيريا المجموعة القولونية ونسبة التلوث بها عالية جدًا وهي غير مطابقة للمعايير البكترولوجية، وأنها لا تصلح للاستخدام الآدمي.
وتقع مدينة الصف جنوب حلوان بنحو 30 كيلومترًا، وتشتمل على أكثر من 30 قرية وعرب وكفر، وتتبع إداريًا محافظة الجيزة على الرغم من وقوعها على الشاطئ الشرقي لنهر النيل مقابل مركز العياط، كما يبلغ عدد سكانها 350 ألف نسمة في حين تشير إحصاءات أخرى إلى أن العدد أكثر من ذلك بكثير.
يحدها من جهة الشمال منطقة ومدينة التبين ومن الجنوب مركز أطفيح ومن الغرب نهر النيل ومن الشرق صحراء البحر الأحمر، وتشتهر المدينة بصناعة الطوب الطفلي لا سيما في قرية أسكر والودي وعرب أبو ساعد، كذلك صناعة الفخار والقيشاني وجميع أعمال الصيني من أطباق وفناجين مع الرسومات والزخرفة عليها.
38 مليون يشربون مياه ملوثة
ما تعانيه الصف هو حلقة في مسلسل متعدد الحلقات دائم العرض في مصر على مدار سنوات طويلة، إذ تتصدر المحروسة قائمة الدول الأكثر تلوثًا، متفوقة في ذلك على العديد من البقع الموبوءة في مختلف دول العالم. ففي تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر قبل عدة أعوام كشف أن نسبة تلوث المياه في مصر تزيد على ثلاثة أمثال معدلات التلوث العالمية وتتفاقم نسبة التلوث في محافظات القاهرة الكبرى عن سواها من محافظات الجمهورية.
التقرير الذي نشرته صحيفة “البوابة” المصرية استعرض نتائج بحث علمي لمركز السموم الإكلينيكية والبيئية بطب قصر العيني، حيث توصل إلى ارتفاع نسب التسمم الناتج عن التلوث في تلك المحافظات، فكان نصيب محافظة القاهرة 35% من حالات التسمم و12% بالجيزة و50% بالقليوبية.
المياه الجوفية في الدلتا التي يشربها الناس بواسطة الطلمبات مثقلة بالتلوث من خزانات الصرف الصحي المنتشرة في القرى التي لم تدخلها شبكات الصرف الصحي ومياه الري المتسربة
وزارة البيئة هي الأخرى رصدت في تقرير لها أن الملوثات الصناعية غير المعالجة أو المعالجة جزئيًا التي يقذف بها في عرض نهر النيل (مصدر مياه الشرب الوحيد في مصر) تقدر بنحو 4.5 مليون طن سنويًا من بينها 50 ألف طن مواد ضارة و35 ألف طن من قطاع الصناعات الكيماوية.
أما نسبة الملوثات العضوية الصناعية فتصل إلى 270 طنًا يوميًا، فيما يبلغ حجم الملوثات الناتجة عن المستشفيات سنويًا بما يقدر بنحو 120 ألف طن من بينها 25 ألف طن مواد تدخل في تصنيف المواد شديدة الخطورة. أوضح التقرير كذلك أن هناك تحديات تواجه نهر النيل بوجود ما بين 2.4 إلى 3 مليارات متر مكعب من المياه الناتجة عن معالجة مياه الصرف الصحي.
وفي تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تحت عنوان “تلوث المياه قنبلة موقوتة تهدد حياة المصريين” كشف أن 38 مليون شخص من إجمالي 95 مليون يشربون مياهًا ملوثة في مصر، وهو ما يهدد حياتهم، ويضاعف معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة الناجمة عن هذا التلوث.
خبراء أشاروا إلى أن الملوثات في نهر النيل تنقسم إلى معادن ثقيلة تصرفها المصانع في النهر وأخرى عبارة عن صرف الفنادق العائمة التي يصل رقمها المعلن إلى أكثر من 300 فندق بجانب 10% من الصرف الصحي، هذا بخلاف أن جميع المصارف الزراعية تصب في النيل ويعاد استخدامها في الزراعة سواء في الصعيد أم الدلتا محملة بفوائض الأسمدة والمبيدات بل قد تصب فيها مياه الصرف الصحي وقاذورات القمامة.
وتوضح التقارير البحثية أن المياه الجوفية في الدلتا التي يشربها الناس بواسطة الطلمبات مثقلة بالتلوث من خزانات الصرف الصحي المنتشرة في القرى التي لم تدخلها شبكات الصرف الصحي ومياه الري المتسربة، وهو ما يعني أن حياتهم جميعًا معرضة للخطر في ظل التقاعس عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذه المياه أو التعويض عنها بمياه الأمطار الصالحة للشرب.
وفي المجمل.. جرس إنذار يطلقه أهالي الصف بالجيزة، وناقوس خطر يقرعه قاطنو تلك القرى، فحياة ما يزيد على ربع مليون مواطن باتت مهددة بسبب تلوث مياه الشرب، في وقت يعاني فيه الجهاز الإداري والتنفيذي من ترهل واضح وتقاعس فج عن القيام بمتطلبات عمله، الأمر الذي يتطلب من الجميع التحرك قبل وقوع الكارثة.