“الشعب يريد إسقاط النظام” شعار يتردد في عدد من البلدان العربية، لكنه بالنسبة إلى المحتجين العراقيين مطلبٌ شعبيٌّ طال انتظاره، ومطالب المتظاهرين في العراق تكمن في تغيير الدستور أو تعديله بما يسمح بتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي وإجراء انتخابات مبكرة بأشراف أممي، بعد أن تجرع الشعب العراقي في غضون 16 عاماً صنوفاً من المعاناة من قبل النظام الحالي وسياسييه الذين شرعوا الدستور وفق ما يريدون لا وفق ما يريد الشعب.
يطرح “نون بوست” أسئلة عدة على سياسيين وصناع قرار لمعرفة من يتحمل فشل الطبقة السياسية الحالية ونظامها، وكيف كانت ظروف كتابة الدستور، وما هي الألغام التي في باطنه؟
الظروف المحيطة بإنشاء الدستور
كُتب الدستور العراقي إبّان احتلال القوات الأمريكية للعراق، وتم التصويت عليه في استفتاء في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2005، ودخل حيّز التنفيذ بعد عام من ذلك الوقت.
شكلت لجنة كتابته من 55 عضواً، هم 28 عضوا لقائمة الائتلاف العراقي الموحد، و15 عشر عضواً من التحالف الكردستاني، وثمانية أعضاء يمثلون القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي، وأربعة أعضاء يمثلون التركمان والآشوريين والمسيحيين واليزيديين.
السياسي العراقي انتفاض قنبر واحد من الذين كتبوا الدستور، يقول: “الظروف التي كتب بها الدستور ظروف صعبة، بل هي مستحيلة، ولكن هنالك من يقول لماذا تمت كتابته بعجالة إذن؟”.
يجيب قنبر عن ذلك قائلاً: “البلد من دون دستور يعني أن هنالك فراغا سياسيا، وقانون الدولة المؤقت الذي كتب في مجلس الحكم الذي كان بول بريمر يرأسه لم يكن يحمل الشرعية؛ لأن الشعب العراقي يعتبر هذا غير موافق عليه وهذا يعني أنه كان بمثابة دستور مؤقت، ومن هنا كانت الحاجة، وسبّب ذلك ضغطاً كبيراً في كتابة الدستور، ووضع هذا الضغط في قانون الدولة المؤقت أو الدستور المؤقت عبر تحديد عام 2005 لكتابة الدستور”.
كتب على أنقاض حرب طائفية
ويضيف قنبر لــ”نون بوست” قائلاً: “عند كتابة الدستور كان العراق يعيش حربًا طائفية وقتلًا في الشوارع، وكان هاك أيضًا توتر أمني كبير مقابل رغبة شديدة للقيادات السياسية لكتابة دستور معقول”.
ويوضح أيضاً: “الظروف الصعبة عرقلت كتابة الدستور وإنهاءه في الوقت المحدد، وذهبنا على عجالة حينها إلى البرلمان وقمنا بتمديد أسبوع، وبعد ذلك استطعنا بشق الأنفس الوصول إلى اتفاق بشأنه وعرضه على الشعب ثم التصويت عليه. الدستور مرَّ بأغلبية بسيطة جدا وبصعوبة كبيرة، لكنه في نهاية المطاف اكتسب الشرعية”.
وتساءل السياسي العراقي مستغرباً الكمَّ الهائل من الأصوات التي تنادي بتعديل الدستور: “أين كانت هذه الأصوات حينها؟”، وأردف: “وضعنا في الدستور 6 أشهر لتغيير فقراته، وبالرغم من تعالي الأصوات ضده لم يقم أي طرف سياسي من الأصوات المناهضة ضد الدستور بأي جهد حقيقي لتغييره خلال المدة المذكورة، وهو ما يدل على وجه النفاق السياسي الذي يمارسه بعض الساسة”.
الدساتير لا تصنع الأوطان
يقول قنبر إنه “لا علاقه للدستور بالفشل السياسي خلال 16 عاما؛ فالدستور الألماني كتب على عجالة من قبل قائد عسكري أمريكي كان يحتل ألمانيا القائد الامريكي والدستور الياباني كتب من جنرال احتل اليابان، وهي دساتير ليست قوية وليست مهمة، وكتبت على عجالة، ولكن بالرغم من ذلك نرى أن اليابان وألمانيا نهضت ونجحت كدول مهمة بعد أن مسحت في الأرض بعد الحرب العالمية الثانية”.
“الدساتير لا تصنع الأوطان، الأوطان تصنع الدساتير”، والحديث لقنبر الذي يؤكد أيضًا: “إمكانية حل جميع المشاكل في الدستور”، لكنه يشير إلى أنه أفضل من الدستور المصري والأردني وحتى الإيراني.
شروط التعديل واللغم الأول
أبرز الشروط التي وُضعت ضمن الدستور لتعديله أن تحصل الاقتراحات على موافقة الأغلبية المطلقة لأعضاء البرلمان، وأن تُعرض على استفتاء شعبي، وتحصل على أغلبية المصوتين، فضلاً عن ألا تُرفض تلك الاقتراحات من قبل ثلثي المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر، يفسر ذلك مختصون على أنه لغم وضعه الكرد والمحافظات الثلاث، وبالإمكان أن تكون أربيل والسليمانية ودهوك، أي محافظات الإقليم.
ومن أهم مشاكل الدستور أيضاً قضية تطبيق المادة الـ140 من الدستور وقضية كركوك وتطبيع الأوضاع فيها، بالإضافة إلى المناطق المتنازع عليها وقضية النفط والغاز والبيشمركة وحدود إقليم كردستان وقضية اجتثاث البعث، وكذلك تفسير كثير من النصوص الدستورية محل الاختلاف وغيرها من المواضيع المهمة في الدستور.
الحكم الرشيد أو الفوضى!
السياسي العراقي والبرلماني الدكتور ظافر العاني يقول إن العراق “أمام خيارين رئيسيين، إما الذهاب إلى الفوضى، وهذا السيناريو يزعج معظم دول العالم أو كلها؛ لأن الفوضى في العراق غالباً ما تنتقل بشكل مباشر إلى الدول المجاورة وتسبب إرباكا في النظام الإقليمي”.
العاني يضيف في حديثه لــ”نون بوست” أن “الخيار الثاني إذا كان يمس تغيير نظام الحكم تجاه أن يستعيد العراق سيادته من التأثيرات الإقليمية والدولية وأن يتجه نحو الحكم الرشيد، وهذا فيه مصلحة عابرة للحدود العراقية ولجميع دول العالم التي تود أن ترى نظاماً سياسياً متوازناً قادراً على أن ينتج الأمن والخدمات”.
شماعة لفشل الساسة
ويؤكد العاني أيضاً أن “الدستور ليس مسؤولاً عن توفير الخدمات وحياة كريمة للناس وأنه في العراق تحول إلى شماعة تعلق عليه الحكومات التنفيذية والنخب السياسية المتعاقبة فشلها. ويكمل قائلاً: “الدستور العراقي لا يشجع على الفساد، ولا يجيز أن يكون هناك سلاح خارج إطار الدولة ولا يشجع على قمع الحريات، وهو يعد من أنضج الدساتير فيما يتعلق بالحقوق والحريات، لكن المشكلة تمكن في ممارسة السلطة والحكم”.
التطبيق الانتقائي
إن أحد أهم أسباب الإخفاق الحقيقي في العراق هو عدم تطبيق الدستور على أرض الواقع وعدم معاقبة من هدروا المال العام وعدم قلع الفساد من جذوره؛ لأنه أصبح كالسرطان ينخر مؤسسات الدولة.
ولم يطبق من هذا الدستور الملغوم إلا مادتان، هما تشكيل السلطة التشريعية والتنفيذية، أما بقية المواد الأخرى التي تتعلق بحقوق المواطن فتركت ولم تنفذ على أرض الواقع، وركنت على رفوف التطبيق الانتقائي، يفصله السياسيون وفق ما يشتهون وما يريدون من مقاسات تناسب أحجام أطماع تعتريهم، وأهدافًا جاؤوا من أجل تحقيقها، وينسحب ذلك حتى في تشكيل الحكومة وصلاحياتها.
حركة الشارع.. للتعديل!
لكن مع بروز حركة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة وبضغط من الشارع بدأ القادة السياسيون يخشون خطورة الأمر على بنائهم الهشّ الذي أقاموه عقب عام 2003، وبالتزامن مع ذلك بدأت أيضًا الأمم المتحدة بخطوات جادة وفعلية في مناقشة قضية إجراء تعديلات على الدستور أو تغييره.
وكثفت المبعوثة الأممية إلى العراق، جنين هينيس بلاسخارت لقاءاتها مع السياسيين في البلاد بخصوص ذلك، وهذا ما أكّده رئيس الجمهورية برهم صالح عبر إبدائه عزمه عقد مؤتمر وطني من أجل إعادة النظر في الدستور وفقراته، من دون الإشارة إلى موعده أو المواد التي سيعاد النظر فيها.
لا للتحولات الجذرية
تعزو كثير من التيارات السياسية والدينية الفشل المدوي لعراق ما بعد 2003 إلى الدستور ونظام الحكم فيه، وذلك في ظاهر الأمر فحسب، أما في حقيقته فإنّ تلك التيارات غير مستعدة لإزالة النظام السياسي الحالي لكونها بنته بنفسها واستفادت منه استفادة كبيرة، وفكرة التحولات الجذرية لا تناسبها، على الرغم من وجود دعوات شعبية واسعة صدقتها حركة الاحتجاج الشعبي الأخيرة التي تؤيد الإطاحة بهذا النظام وإحلال آخر محله يبعد العنف والفساد ويحصر السلاح ويحد أيضاً من النفوذ الإقليمي والدولي في العراق.