بعد ثلاثة أيام من الانتظار، خرج تنظيم “الدولة” ليؤكد النبأ الذي زفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العالم مطلع الأسبوع الجاري، عن تمكن القوات الأمريكية من قتل أبي بكر البغدادي، وعدد من مرافقيه، شمال غربي سوريا، وتحديدًا في قرية باريشا بمحافظة إدلب، ليضع حدًا للإشاعات التي يرددها أنصار التنظيم، بخصوص إمكانية أن يكون البغدادي على قيد الحياة.
الإعلان المتأخر لتنظيم الدولة عن اغتيال البغدادي وناطقه الرسمي أبي الحسن المهاجر، جاء ليعلن انتهاء مرحلة دموية مرعبة من تاريخ التنظيم، وبداية أخرى جديدة لا يعلم أحد كيف ستكون، بقائد جديد، وبتركيبة تنظيمية مشوّشة، وغير واضحة المعالم، سيكون رجلها الأول هذه المرة، أبا إبراهيم الهاشمي، أحد رفقاء درب البغدادي، ممن أوصى قبل موته ببيعته وتعيينه خليفته، وفق ما أكد ذلك أبو حمزة القرشي الناطق الرسمي الجديد باسم التنظيم.
لا تتوفر معلومات حتى اللحظة عن خليفة البغدادي، ولكن المعلومات التي سردها المتحدث الجديد باسم التنظيم، تؤكد أن الرجل من أقران كبارة القادة التاريخيين ممن كانوا نواة تأسيس تنظيم الدولة بنسخته الحالية، على غرار أبي مصعب الزرقاوي وأبي عمر وبكر البغداديين، حيث كشف “القرشي” في كلمة صوتية حملت في نبرة قارئها حزنًا عميقًا، أن أبا إبراهيم الهاشمي ليس نكرة، بل هو أحد أعلام التنظيم ممن كان له السبق في قتال القوات الأمريكية أثناء احتلال العراق، والمشاركة في تمدد التنظيم من العراق إلى سوريا وغيرهما.
إذن، قيادة جديدة على رأس تنظيم “الدولة”، لم تتضح هويتها إلى حد اللحظة وكل ما يعلم عنها كنيتها التي جاءت لتؤكد نسبها القرشي كشرط لازم في “خليفة المسلمين”، وفق أدبيات التيار الجهادي، بالإضافة إلى سيرة ذاتية مقتضبة جدًا، كان على رأسها قتال القوات الأمريكية، والعلاقة القوية التي كانت تجمعها بأبي بكر البغدادي الذي أوصى بأن يكون خليفته، وهو ما دفع “مجلس شورى” التنظيم لاختياره أميرًا جديدًا للتنظيم.
بالعودة إلى عملية اغتيال البغدادي، لم تكن العملية مفاجئة للكثيرين، فقد بات مؤكدًا خلال الأشهر الأخيرة أن الرجل لم يعد قادرًا على التحرك والمناورة والاختباء وتأمين نفسه ومن معه، بعد أن اشتد عليه الخناق، وضيّقت دائرة أماكن هروبه إلى أقصى حد ممكن، بعد أن فقدت دولته مناطق نفوذها وسيطرتها داخل العراق وسوريا، وبعد أن أصبح التنظيم عاجزًا عن إثبات وجوده في ساحات الحرب المشتعلة التي أشعلها في مناطق متفرقة من العالم، وعلى رأسها العراق وسوريا.
بلا شك، حققت الولايات المتحدة والرئيس الأمريكي دونالد ترامب خاصة، فوزًا معنويًا وماديًا كبيرًا على تنظيم الدولة، فالقتيل هذه المرة، ليس قياديًا عاديًا في صفوف الجهاديين، بل هو أبو بكر البغدادي أحد أخطر وأدهى القياديين الذين عرفهم التاريخ الجهادي خلال القرن الأخير، وهو الرجل الذي غيّر معادلة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والجماعات الجهادية، خاصة بعد أن أفُل نجم تنظيم القاعدة وزعيمها أيمن الظواهري منذ الصعود الصاروخي لـ”الخليفة” الذي نصّب نفسه على المسلمين في رمضان 2014.
القيادي الجهادي الأول المطلوب للولايات المتحدة الأمريكية صار من التاريخ. هكذا يمكن وصف ما حدث يوم 27 أكتوبر 2019، بعد أن تمكنت فرقة خاصة من الجيش الأمريكي من تصفية البغدادي، الذي نجح في التخفي عن الأنظار وتأمين نفسه والهروب، طيلة نحو عقد من الزمان، على إثر تسلمه مشعل قيادة الفصيل الجهادي من سلفه أبي عمر البغدادي الذي اغتيل من قبل نفس الجهة، شهر أبريل من العام 2010.
تؤكد التفاصيل المسربة من الولايات المتحدة الأمريكية أن عملية اغتيال البغدادي لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة عمل استخباري دقيق متواصل لثلاثة أشهر متتالية انطلقت منذ شهر يوليو الماضي، وهو ما أسفر عن الوصول إلى مكان اختباء “الخليفة” والقضاء عليه، وإدخال تنظيم الدولة في دوامة من المجهول، لثقل الأعباء والملفات والتعقيدات التي خلفها الرجل من بعده.
واهم من يظن أن القضاء على أبي بكر البغدادي يعني بالضرورة القضاء على الإرهاب. ومخطئ في الآن ذاته من يدعي أن تنظيم الدولة لن يتأثر بفقدان رجله الأول، ويقارب الصواب من يتوسط الرأيين، خاصة بعد أن أثبتت التجارب الجهادية السابقة صعوبة تعويض القيادات التاريخية الكبرى المؤثرة، على غرار ما حدث مع تنظيم القاعدة، الذي تشتت وأفل نجمه بعد اغتيال زعيمه أسامة بن لادن.
تنظيم الدولة الذي فقد مئات القياديين التاريخيين المؤثرين من الصفين الأول والثاني خلال الأعوام الأخيرة، والذي كان سببًا في تجميع عشرات آلاف الجهاديين من شتى أنحاء العالم في مكانين منفصلين ليسهل استهدافهم وتصفيتهم واستئصالهم، يبدو في موقف صعب جدًا، وغير قادر على استعادة نجوميته في المستقبل القريب، لأن تعويض زعيمه السابق، على المستوى العملياتي والتخطيطي بآخر يشابهه في دهائه ومكره وخبرته في مجاراة الحرب، لا يبدو أمرًا سهلًا، حتى وإن كان المعوّض أبا إبراهيم القرشي، الذي لا يعلم عنه الكثير إلى حد اللحظة.
كثيرون يرون أن خليفة البغدادي الجديد لن يكون في نفس وزن الرجل ودهائه ووقع سيرته الجهادية على نفوس مؤيديه، فالبغدادي، لم يكن مجرد قيادي جهادي كلاسيكي من الصف الأول، بل كان داهية غيّر معادلة الصراع وطبيعة الحرب الكونية على الإرهاب خلال السنوات الست الماضية، مثلما يؤكد ذلك مسؤولون غربيون، لا سيما بعدما أعلن تنصيب نفسه “خليفة” على المسلمين، وما تبع ذلك الإعلان من توسّع غير محسوب العواقب.
صحيح أن تنظيم الدولة بنسخته غير البغدادية الجديدة سيحاول النهوض مجددًا ولملمة جراحه ودراسة الفترة الماضية التي أعقبت صعوده الصاروخي وأفوله المدوي في نفس الوقت، لكن كيف ستكون الفترة المقبلة وما هي ملامحها، لا أحد يمكنه التنبؤ. وإن كانت التجارب والمحطات السابقة التي مر بها التنظيم من نسخته القاعدية وصولا إلى نسخته الدولاوية، تؤكد بقاءه على الساحة كلاعب رئيسي مؤثر رغم تغيّر قياداته.
الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تاريخ تنظيم الدولة، ولكن بات من شبه المؤكد، أن ما يعيشه التنظيم اليوم من شتات وهزيمة ودمار داخلي، وتقهقر على جميع الأصعدة، لن يمنعه من محاولة رص صفوفه مجددًا بنفس الخطاب والآليات، وهو ما ترجمته كلمة تنصيب “الخليفة” الجديد، ولكن السؤال المطروح اليوم، كيف ستتعامل “الولايات” المبايعة للبغدادي مع أبي إبراهيم الهاشمي الذي لا يعرفون عنه إلا كنيته، وهل ستقبل مبايعته أم أنها ستنشق عن التنظيم وتزيد من انقسامه وتفككه.
تبدو الفرضيتان مطروحتان بقوة، ولكن استقراء مسار ولايات تنظيم الدولة وطريقة تمدده خارج العراق وسوريا، يرجح أن تسارع بقية الفروع لإعلان بيعتها للخليفة الجديد ورص الصفوف والثأر لأبي بكر البغدادي، وتسمية “الغزوات” والعمليات النوعية باسمه، مثلما حدث سابقًا مع قياديين بارزين على غرار أبي حمزة المهاجر وأبي مصعب الزرقاوي وأبي عمر البغدادي وأبي محمد العدناني وغيرهم كثيرون ممن كانوا عناوين هجمات نوعية نفذها الجهاديون في العراق وسوريا خاصة.
إذن، لن تتوقف الحروب وسفك الدماء وإلحاق الدمار بالحجر والشجر والبشر في المنطقة، فتنصيب أبي إبراهيم الهاشمي زعيمًا جديدًا لتنظيم الدولة كان إعلانًا رسميًا عن دخول الجهاديين مرحلة أخرى من حربهم التي لا تستثني أحدًا، بل إن صريح منطوق المتحدث الرسمي باسم التنظيم، بأن الأمريكان “سيترحمون” على أيام أبي بكر البغدادي، من هول ما سيرونه من الخليفة الجديد، ليس فقط محاولة لدغدغة مشاعر مناصري التنظيم، بقدر ما هو وعيد شديد وتنبيه أشد، لهول ما يمكن أن نراه في العراق وسوريا، إذا ما تواصلت الأمور على ما هي عليه الآن.