يبدو أن ملف الكنيسة البروتستانتية في الجزائر قد خرج هذه المرة عن إطار الاتهامات المتبادلة بين السلطات ومن يمثلون هذه الطائفة في البلاد، بعد أن صارت الاتهامات بين الطرفين متكررة كل مرة، وأخذت أبعادا لم تتوقف عند حدود البلد، فهل حقا تتعرض هذه الأقلية لتضييق في ممارسة شعائرها الدينية أم أن الأمر يتعلق بأجندة غربية تستهدف المرجعية الدينية لبلاد يمثل فيها المسلمون أكثر من 99 بالمائة من عدد السكان؟.
ولا يكاد ينقضي عام حتى يأتي آخر تعرف فيه الجزائر جدلا بشأن الحملات التبشيرية التي تستهدف مرجعيتها الدينية، سواء تعلق الأمر بالإنجيليين الجدد أو البروتستانت أو التشيع والأحمدية والبهائية، وغيرها من التيارات الدينية التي لا تتوافق مع بلد سني لا ينكر وجود أقليات أخرى عاشت معه سنين طويلة لم يُطرح فيها مطلقا اضطهاد الآخر.
لأول مرة
لم تكن وزارة الداخلية الجزائرية ترد كثيرا على اتهامات الكنيسة البروتستانتية بالتضييق عليها، لكن هذه المرة قررت التفاعل مع إنكار من يقول أنهم يمثلون هذه الطائفة بالدليل بنشر فيديو يظهر أماكان العبادة التي كان يقام بها القداس، ولا تتوفر على الشروط المنصوص عليها في القانون الجزائري، إضافة إلى أنها غير مرخصة.
وقالت الوزارة إنها تنشر فيديو موثق “ينير الرأي العام عن طبيعة التجاوزات التي تم الوقوف عليها من طرف مصالح الدولة بهذه الأماكن غير المرخصة”. ونشرت الوزارة تصريحات وزير الداخلية صلاح الدين دحمون حول دور العبادة غير المرخصة لأول مرة مترجمة للانجليزية، بالنظر إلى أن القضية أصبحت محل اهتمام دولي أيضا.
هام -التجاوزات المسجلة بأماكن العبادة غير المرخصة التي تم اغلاقها
? هام بعد التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية السيد #صلاح_الدين_دحمون بخصوص غلق أماكن غير شرعية للعبادة. تنشر وزارة الداخلية و الجماعات المحلية و التهيئة العمرانية فيديو موثق، ينير الرأي العام عن طبيعة التجاوزات التي تم الوقوف عليها من طرف مصالح الدولة بهذه الأماكن غير المرخصة. شاهد
Posted by Ministère de l’Intérieur -Algérie وزارة الداخلية – الجزائر on Tuesday, October 29, 2019
وفند دحمون الاثنين الماضي أن يكون قد أعطى أوامر بغلق كنائس تنشط بطريقة شرعية عبر بعض ولايات البلاد، مثلما تم تداوله في صحف محلية وأجنبية. وأوضح أن كل ما في الأمر أن مصالح دائرته الوزارية “قامت مؤخرا بغلق مستودعات تنشط في شكل كنائس غير شرعية ببعض ولايات الوطن”. وكشف الوزير أنه “تم غلق 12 مستودعا في شكل كنائس من أصل 49 أخرى تنشط بشكل غير قانوني، كما سيتم اتخاذ الإجراءات الردعية اللازمة في حق مسيري ومرتادي هذه الكنائس غير القانونية”.
وتستند السلطات الجزائرية في تطبيقها لإجراءات الترخيص لأماكن العبادة لقانون الشعائر الدينية لغير المسلمين الصادر في فبراير شباط 2005، والذي ينص على سبيل المثال في مادته الثامنة على أن “التظاهرات الدينية تتم داخل بنايات عامة وتخضع للتصريح المسبق”، خاصة وأن هذا الإجراء يطبق أيضا في اعتماد الجمعيات الدينية لبناء المساجد.
اجتماع
على غير المعتاد، أعلنت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف هذا الأسبوع أن الوزير يوسف بلمهدي ترأس اجتماعا للجنة الوطنية للشعائر الدينية لغير المسلمين “تناول دراسة انشغالات الجمعيات الدينية لغير المسلمين”. وأوضحت الوزارة أن هذا الاجتماع يعد الثالث من نوعه خلال سنة 2019 فقط، غير أنها لم تعلن سابقا عن الاجتماعين الأول والثاني.
ورغم أن وزارة الداخلية هي المسؤولة عن منح الرخص للجمعيات الدينية سواء للمسلمين أو لغيرهم، إلا أن وزارة الشؤون الدينية تبقى هي المتهم الأول بالتضييق على الممارسة الدينية وعدم ضمان حرية المعتقد لجميع المواطنين.
وحسب بلمهدي، فإن ما قامت به الحكومة “هو غلق محلات تمارس نشاط غير شرعي وغير قانوني، ولا يوجد أي اضطهاد للأقليات الدينية أو لغير المسلمين في الجزائر، بدليل شهادة الكنائس المعترف بها التي تعمل ضمن قوانين الجمهورية الجزائرية”.
ووجه الوزير دعوة لمريدي البروتستانتية إلى “أن يطلبوا الاعتماد من وزارة الداخلية التي لن تمانع في منحهم الترخيص، شريطة أن يكون نشاطهم في إطار قوانين الجمهورية الجزائرية وان يتأقلموا معها مثل ما هو معمول به في كل الدول.”
ويبدو أن الوزير الجديد لا يريد أن يكون مهادنا ودبلوماسيا مثل ما حدث مع سلفه محمد عيسى الذي نالت آراؤه وتصريحاته حول البروتيستانتية واليهودية صدى إيجابيا لدى الأجانب، جعل التقرير السنوي للخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية يثني عليه ويقلل من الانتقادات الموجهة للجزائر منذ صدور قانون الشعائر الدينية.
صدام
لكن هذه التصريحات لا يؤيدها رئيس الكنيسة البروتستانتية القسّ صالح شلاح الذي لا تتوافق آراؤه مع موقف الحكومة الجزائرية.
وقال شلاح في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية إن السلطات تتحجج بما يسميه “غلق” الكنائس بـ ” ممارسة شعيرة دينية دون ترخيص”، لكن ذلك مجرد “ذريعة”، لأنه “منذ 2018 تم إغلاق 12 دار عبادة تابعة للكنيسة البروتستنتية بالجزائر”.
وأضاف “نحن نعتبر أننا نحترم القانون”، مشيرا إلى أن لدى الكنيسة البروتستانتية 46 دار عبادة في 12 ولاية من أصل 48 في البلد، ونحو 10 آلاف مؤمن منضوين تحت جمعية معترف بها منذ 1974.
ويقول شلاح إنه أرسل طلبا في أكتوبر/تشرين الأول 2018 لاستخدام مبنى تملكه الكنيسة البروتستانتية في تيزي وزو، وجدد طلبه عدة مرات، لكن دون تلقي أي رد من السلطات الرسمية، موضحا أن العديد من الكنائس الأخرى قدمت طلباتها إلى الوزارة، لكن دون تلقي أي رد أيضا.
ولعل التحسس الجزائري من الكنيسة البروتستانتية المتهمة بارتباطها بجهات أجنبية تعمل على التبشير في بلد ينص دستوره على أن الإسلام دين الدولة، يرجع لما يذكره بعض المؤرخين عن علاقة هذه الكنيسة بالمسيحية الصهيونية المنبوذة، في بلد لا يقبل التطبيع بكل ما له علاقة بالاحتلال الصهيوني لفلسطين.
وأظهرت تحقيقات وزارة الداخلية أن أشخاصا مقيمين بالخارج قاموا في أغسطس/ آب الماضي، بتشييد بناية كانوا ينوون تخصيصها لفتح مركز وطني لتكوين “القساوسة” دون الحصول على ترخيص من السلطات.
تدويل
لم يبق الخلاف بين السلطات الجزائرية والكنيسة البروتستانتية شأنا داخليا، بعد أن قرر معتنقو هذه الأقلية نقل قضيتهم إلى جهات دولية بهدف إقامة جملة من الضغوط على الجزائر التي ترفض التدخل في شؤونها الدينية.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في 24 أكتوبر تشرين الأول المنقضي “إن إغلاق ثلاث كنائس بروتستانتية مؤخرا واعتداء الشرطة على المصلين في إحدى الكنائس هما أحدث مثلين عن قمع هذه الأقلية في الجزائر. ينبغي للحكومة إعادة فتح الكنائس فورا والالتزام علنا بحماية جميع الطوائف الدينية في الجزائر”.
وزير الشؤون الدينية ينفي اضطهاد البروتستانت في #الجزائر؛ ماذا عن ضرب رئيس الكنيسة ومصلين آخرين بالعصي؟ https://t.co/XNgpOERvBI pic.twitter.com/e0kyWRl7sQ
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) October 25, 2019
وأضافت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش أنه “ينبغي للسلطات الجزائرية منح الأقليات الدينية الحرية نفسها التي تمنحها للأغلبية المسلمة في ممارسة شعائرها الدينية. يجب السماح لجميع الكنائس التي أُغلقت تعسفا بإعادة فتح أبوابها”.
غير أن هذه التصريحات قوبلت بالرفض من قبل الوزير دحمون الذي وصف هؤلاء بـ”المتشدقين بحقوق الإنسان”، مبينا أن “الجزائر لا تحتاج إلى دروس في هذا المجال وهي المعروفة باحترام حرية المعتقد في أطر قانونية ومنظمة”.
وأشار إلى أن الجزائر “من بين البلدان التي لها تجربة رائدة في مجال احترام حرية الرأي والمعتقد”، مبينا أن بلاده قامت خلال السنوات الفارطة بتمويل العشرات من عمليات التهيئة وإعادة تأهيل الكنائس الكاثوليكية الموجودة بولايات تيزي وزو والبويرة وعنابة و وهران.
وخلص دحمون إلى التأكيد بأن تحرك مصالحه “لغلق الكنائس غير الشرعية جاء بناء على شكاوى تقدم بها مواطنون بشأن نشاطات مشبوهة بهذه المستودعات”.
ولا يوافق أسقف الجزائر المطران بول ديفارج على الاتهامات التي توجه للجزائر بشأن حرية المعتقد، حيث قال في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية “إنني أتكلم بصفتي مسؤولا عن الكنيسة الكاثوليكية، أؤكد انه ليس هناك أي مشكل في حرية ممارسة الشعائر الدينية في الجزائر لأنها مكفولة ويضمنها القانون الساري في البلاد”.
المطران بول ديفارج
غير أن تقرير الحريات الدينية لعام 2018 التي تصدره الخارجية الأمريكية سنويا رصد إدانة أربعة أشخاص بتهم منها التبشير، واعتقال خمسة أفراد آخرين قبل تبرئتهم.
وربما لا يتوقف الخلاف القائم بين الجزائر والبروتستانتيون الجدد عند حماية بلد لشعبه من التبشير وتغيير مرجعيته الدينية، بل يتعداه حسابات أخرى تقف وراءها دول أجنبية تريد ضمن صراع مسيحي مسيحي أن تبقى الكاثوليكية هي الديانة الثانية في الجزائر بعد الإسلام حتى ولو كانت تمثل أقلية تقل عن 1 بالمائة من العدد الإجمالي للسكان، لأنه من غير المنطقي أن يكون البلد الإسلامي الوحيد الذي قبل بتطويب 18 راهبا ببلاده معاديا ومضيقا على المسيحيين.