يحيي السوريون اليوم الذكرى 14 لثورتهم بنكهة مختلفة وظروف استثنائية، حيث سوريا بلا حكم أسدي لأول مرة من 53 عامًا، لتعم الاحتفالات كل المدن السورية، شعارات تُرفع دون خوف، وحناجر تصدح بلا قلق، وأهازيج تُنشد دون رقابة، وطائرات حربية تُلقي على المحتفلين الورود والمعايدات بدلًا من براميل البارود المتفجرة.
وعلى مدار أكثر من أربعة عشر عامًا قدم السوريون نموذجا غير مسبوق في التصدي والصمود في مواجهة واحد من أعتى النظم الاستبدادية رغم الدعم الهائل الذي تلقاه من حلفاءه الروس والإيرانيين، ومع صبيحة الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 كانت المفاجأة المدوية، حيث إسقاط نظام الطاغية بعد 168 شهرًا من التنكيل والقتل والاعتقال وارتكاب مئات الالاف من الجرائم الوحشية بحق السوريين.
ما حدث في سوريا لا يمكن قراءته بمعزل عما شهدته المنطقة منذ عام 2011، إذ كانت التجارب غير المكتملة التي مرت بها بلدان الربيع العربي حاضرة وبقوة في مخيلة قادة الثورة وقاعدتها الشعبية، داخل سوريا وخارجها، فاستفادوا من دروسها، واتخذوا منها دربًا للوصول دون السقوط في ذات الفخاخ التي سقطوا فيها، فكانت الخطوة الأولى في الطريق الصحيح.
من حق السوريين أن يفرحوا بما تحقق حتى اليوم، لكن الطريق لم يكتمل بعد، والتحديات لم تنته، وما حدث ليس سوى الحلقة الأضعف – رغم فظاعه ثمنه- في مشوار نجاح الثورة، فالقادم هو الأكثر خطرًا، والأشد تهديدًا، ليبقى السؤال الأهم: ماذا استفادت الثورة السورية من التجارب الثورية التي شهدتها بلدان المنطقة؟ وكيف تنجو من الفخاخ التي سقطت فيه تلك التجارب؟
ليست حالة شاذة
من الخطورة بمكان أن ينظر السوريون لثورتهم على أنها حالة استثنائية تختلف عن التجارب التي شهدتها البلدان المجاورة في مصر وتونس واليمن وليبيا، فهي تكاد تكون متطابقة من حيث السياق العام، الدوافع والأهداف، وأيضًا النتائج الأولية، إذ خرجت شعوب تلك البلدان من معين واحد، معين القهر والاستبداد وأنظمة الحكم السلطوية، نحو هدف مشترك وهو الإطاحة بتلك الأنظمة التي جثمت فوق صدور شعوبها لعقود طويلة.
ورغم الاختلافات الهامشية بين تجربة الثورية السورية ونظيراتها العربية إلا أن القواسم المشتركة بينهما أكبر وأوسع، على رأسها وجود أنظمة قمعية على رأس السلطة، وهذا مشترك في كل المحطات التي وقف فيها قطار الربيع العربي، نظام مبارك في مصر، وصالح في اليمن، وبن علي في تونس، والأسد في سوريا.
هذا بخلاف تعدد الفصائل المسلحة والألوية السياسية والتيارات الأيديولوجية التي شاركت في الحراك الثوري حيث تتشابه التجربة السورية هنا مع نظيرتيها اليمنية والليبية، إذ تشكلت إدارة العمليات العسكرية من العديد من الفصائل المسلحة أبرزها “هيئة تحرير الشام” إلى جانب عدد من الفصائل، كما برزت “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في شرق سوريا.
هتافات كسرت جدار الخوف.. صرخات الثورة الأولى التي صنعت تاريخًا لا يُمحى. #ذكرى_الثورة_السورية pic.twitter.com/mAhuhtNHuf
— نون سوريا (@NoonPostSY) March 16, 2025
إضافة إلى خلاف الشق السياسي للمعارضة والذي في أغلبه أطر وكيانات سياسية تم تشكيلها في الخارج بعد اندلاع الثورة، منها “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” الذي تشكل عام 2012، و”الهيئة العليا للمفاوضات” التي تأسست عام 2015.
من هذا المنطلق وفي ظل القواسم المشتركة التي تجمع بين الثورة السورية وغيرها في البلدان المجاورة، فإن الحديث عن استثنائية التجربة مغالطة سيكون ثمنها فادحًا، وعليه فالخطأ وارد والوقوع في فخاخ الانتكاسة والمؤامرات التي وقعت فيها التجارب المماثلة مسألة ليست ببعيدة، ومن هنا جاءت استفادة التجربة السورية من دروس تلك التجارب، حتى وصلت إلى مرحلتها الآنية.
كيف استفادت الثورة السورية من التجارب المماثلة؟
بات واضحًا أن الحراك الثوري السوري لم يكن بمنأى عما يحدث في محيطه الإقليمي منذ انطلاق قطار الربيع العربي، ما دفعه للاستفادة – قدر الإمكان – من التجارب السابقة، مستخلصًا الدروس والعبر منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها السوريون رغبتهم في التغيير وحتى إسقاط نظام الأسد.
أولًا: خلال الحراك الثوري
حرصت الثورة السورية على اتباع نهج مدروس لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها حركات التغيير الأخرى، وتمثل ذلك في عدة أمور:
- الاستمرارية والصمود: أيقن السوريون أن الاستمرارية وعدم الاستسلام هو الخيار الوحيد، وأن الصمود والتصدي هو السبيل لتحقيق الثورة أهدافها، حيث قدموا نموذجا رائعًا على مدار 13 عامًا واجهوا فيها أبشع جرائم الإبادة لنظام، ورغم إطالة أمد الثورة وتكالب القوى الدولية والإقليمية على إرادة الشعب والدعم المطلق الذي تلقاه نظام الأسد، إلا أن ذلك لم يفت في عضد السوريين، الذين أمنوا بقضيتهم، وبذلوا لأجلها الغال والنفيس، فكان الشعار الأكثر حضورًا إما النصر أو الاستشهاد.
- الانضواء تحت لواء واحد وإن تباينت الأيديولوجيات: تعلم السوريون أن التشتت والفرقة هما العدو الأول لنجاح أي ثورة، كما حدث في اليمن وليبيا، وعليه كان التجرد من أي شعارات طائفية والعمل ككيان ومظلة واحدة، لها هدف واحد، هو السبيل للنصر، فبذلك تفادوا فخ الفتنة والانقسام بين القوى الثورية، والذي عزف النظام السوري وحلفاءه على أوتاره طيلة أعوام الحراك، ومن هنا انزوت كل الفصائل المسلحة تحت “إدارة العمليات العسكرية” التي قادت عملية ردع العدوان وأسقطت الأسد.
14 عامًا من التضحيات.. كلفة الحرية باهظة، لكن ثمن الاستسلام أغلى.
#ذكرى_الثورة_السورية pic.twitter.com/BbJGGJ3g02— نون سوريا (@NoonPostSY) March 16, 2025
- الجمع بين السياسي والمسلح: أيقن السوريون أن السلمية وحدها في مواجهة الأنظمة المستبدة لن تحقق المراد، ولن تجبر الأسد ولا قواته على الانصياع لإرادة الشعب، خاصة بعد سماح النظام لقوى أجنبية بالتدخل وارتكاب كافة أنواع جرائم الإبادة بحق السوريين الراغبين في التغيير بسلمية، ومن هنا كان لابد من تحقيق الثنائية، معارضة مسلحة تقارع قوات النظام الإجرامية، ومعارضة سياسية تدافع عن القضية في المحافل الدولية وعلى موائد الدبلوماسية.
ثانيًا: بعد سقوط الأسد
بعد نجاح الثورة في الإطاحة بنظام الأسد، حرص السوريون على وضع التجارب المماثلة نصب أعينهم والإصرار على تعلم الدروس جيدًا، خاصة من التجربتين المصرية والتونسية فهما الأقرب للمشهد، وعليه جاءت الاستفادة كالتالي:
- هيمنة الثورة على المشهد مبكرًا: من خلال فرض السلطة ولو بالقوة ابتداء، وعدم ترك الساحة بأي شكل من الأشكال أمام فلول النظام البائد، حتى لو تم الاستعانة ببعضهم مرحليًا لتيسير الأمور كخطوة مؤقتة.
- جز عشب الدولة العميقة من جذورها: عبر الإطاحة بمؤسسات الدولة العميقة من جيش وشرطة وقضاء وإعلام، وإعادة تشكيلها مرة أخرى على الهوية الثورية النقية، حتى لو شابهها بعض الأخطاء في الاختيارات، تجنبًا لمنحها الفرصة لاستعادة ترتيب أوراقها والانقلاب على المشهد كما حدث في مصر تحديدًا.
- فتح قنوات اتصال دبلوماسية سريعة مع المجتمع الإقليمي والدولي: وإيصال رسائل طمأنة للجميع، والعمل على امتصاص أجواء القلق والترقب التي نشرها حلفاء النظام البائد، والهروب في فخ العزلة والاستقطابات الدولية، أسوة بما حدث في اليمن.
- غلق الباب سريعًا أمام الثورات المضادة المحتملة: من خلال التصدي لأي محاولة لإثارة الفوضى بالقوة، ومواجهة أي حراك طائفي أو عرقي عبر إبرام التفاهمات والاتفاقيات مع مختلف الكيانات والجبهات.
- الإسراع في ملء الفراغ: سواء السياسي أو الأمني أو التنفيذي الذي خلفه النظام السابق، والإعلان مبكرًا عن ملامح المرحلة الانتقالية بكامل مكوناتها، وتدشين إعلان دستوري يحدد جدولها الزمني، وصولا إلى إجراء الانتخابات العامة لاستكمال المشهد.
حتى تنجو مما وقع فيه غيرها
نجحت التجربة السورية حتى الآن في الاستفادة من معظم الدروس التي خلفتها التجارب المماثلة في البلدان العربية الأخرى، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ سقطت كل تلك التجارب بلا استثناء في الاختبار الأهم، اليوم التالي للثورة، وهو ما يجب على السوريين أن يضعوه نصب أعينهم، فالدروس لم تنته بعد، والفخاخ تٌنصب على نار هادئة من الداخل والخارج، فكيف يمكن للتجربة السورية أن تنجو منها وأن تتجنب مصير نظيراتها في الدول المجاورة؟
قبل استعراض آليات الهروب من الفخ، من الأهمية بمكان التطرق إلى السمات المشتركة التي تجمع بين التجربة السورية في تلك المرحلة ونظيراتها في المنطقة، فكما ذُكر آنفا فإن سقوط النظام ليس نهاية المطاف، بل هو البداية الحقيقية للمرحلة الأصعب والأخطر والأهم.
منذ الوهلة الأولى يُلاحظ اشتراك التجربة السورية مع نظيراتها في اليمن وليبيا، وربما في العراق وأفغانستان كذلك، في تعدد الفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء الحراك الثوري، وهي مسألة غاية في الحساسية كونها تنضوي على العديد من التحديات التي قد تشكل عائقًا كبيرًا أمام استمرار التجربة، من أبرزها:
- احتفاظ تلك الفصائل بعد سقوط النظام بسلاحها وعتادها وقدراتها العسكرية مما يشكل تهديدًا مباشرًا للدولة الجديدة مستقبلًا.
- عدم القدرة على الفصل بين العمل تحت لواء الفصائل والعمل تحت لواء الدولة، حيث استمرارية العداء التقليدي لمؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء، امتدادًا للعداء مع النظام السابق، والانتصار للعرقية والطائفية وروح الانتقام، قفزًا على القانون والعدالة الانتقالية.
لم يكتب لسوريا الديمقراطية من أيام جمال عبد الناصر حتى بشار الأسد
لمتابعة المقابلة كاملة: https://t.co/fZkbNYdorf pic.twitter.com/0QHJ9adRZB
— نون سوريا (@NoonPostSY) March 16, 2025
- الالتزامات الواقعة على كل فصيل تجاه القوى الخارجية الداعمة له، وهي معضلة المشهد اليمني والليبي حاليًا، حيث ارتباط الفصائل بالكيانات الخارجية التي دعمتها طيلة حراكها الثوري، وهو ما يجعلها ممثلة في النهاية لمصالح تلك الكيانات وتمثيلها في الداخل السوري، الأمر الذي حتما سيضع السيادة الوطنية السورية ومصالح سوريا الجديدة، دولة وشعبًا، على المحك، خاصة إذا ما تعارضت مصالح تلك القوى مع مصالح الدولة.
- تغليب الخلافات السياسية والأيديولوجية على مصالح الدولة، والنهش في جسد الإدارة الجديدة وعدم الممانعة في إسقاطها جراء تباين وجهات النظر، أسوة بما حدث في مصر على وجه الخصوص، حيث حملات الاستهداف التي قادتها بعض التيارات السياسية المختلفة ضد النظام الجديد بعد سقوط مبارك، والارتماء في صف الثورة المضادة، مما أدى في النهاية إلى إضعاف السلطة المنتخبة تمهيدًا لإسقاطها لاحقا، لتظل تلك القوى تعض أصابع الندم حتى اليوم، لكنه الندم الفائت لميعاده.
وحتى يتجنب السوريون مصير تجارب شعوبهم المجاورة لزامًا عليهم التحرك في مسارين رئيسيين:
المسار الأمني:
- اعتراف الفصائل المسلحة بشرعية الدولة الجديدة ومؤسساتها القائمة، والتأكيد على عدم وجود مشروعية أخرى غير الدولة، وما يترتب على ذلك من التزامات أبرزها تسليم السلاح للجهات الرسمية واندماج كافة المؤسسات الثورية المسلحة في مؤسسات الدولة، وفق تفاهمات وتراتيب خاصة، مع إسقاط كافة النعرات الطائفية والعرقية، والعمل تحت راية الوطن فقط، وهو ما تُرجم عمليًا باتفاق جميع الفصائل على الاندماج في الجيش السوري الجديد.
- قطع كافة العلاقات وأوجه التواصل بين الفصائل والأقليات بالقوى الخارجية، وأن تكون الدبلوماسية السورية الرسمية هي نافذة التواصل الوحيدة، والتشديد على غلق أي باب من هذا القبيل، منعا لفتح أي ثغرات للتدخلات الخارجية العازفة على وتر الطائفية وحماية الأقليات، كما يحدث الآن في الساحل السوري وفي الجنوب.
- غلق الباب بالكلية أمام عودة الدولة العميقة من خلال استهدافها في كل المجالات، وعدم ترك متنفس لها، تحت أي مبرر أو دافع، للعودة للمشهد ولو من قبيل الاستشارة.
المسار السياسي:
- الإسراع بالعدالة الانتقالية وتقديم المتورطين في جرائم الإبادة ضد السوريين للمحاكمات العادلة وفق القانون وبعيدًا عن روح الانتقام العشوائي التي تثير المخاوف والقلق.
- التشاركية في الحكم، وتجنب الانفراد بالسلطة، وفتح الباب أمام جميع التيارات بشتى انتماءاتها بالتواجد على الخارطة وفق أليات وتفاهمات استثنائية.
- القطيعة التامة مع كافة ممارسات النظام السابق، الأمنية والسياسية، والبعد عن فخاخ القلوية والطائفية والنعرات العرقية.
- تكثيف الجهود الدبلوماسية لتشكيل تحالفات إقليمية ودولية تكون ظهيرًا سياسيًا وأمنيًا في مواجهة أي تحديات، وترميم أي شروخات في جدار العلاقات مع دول الإقليم.
- التركيز على استراتيجيات البناء والتنمية والنهوض الاقتصادي بما ينعكس إيجابًا على الحالة المعيشية للسوريين، ويقوي ارتباطهم بالثورة والتجربة بالكلية ويقلل من احتمالات الاحتقان والغضب والتنديد، وهو المدخل الأبرز للفلول وأنصار الثورات المضادة للانقلاب على التجربة.
- تنحية كافة الخلافات السياسية في الوقت الراهن، حتى اكتمال نجاح التجربة، وعبورها للمرحلة الأصعب في مسيرتها.
ختامًا.. تبقى التجربة السورية حالة فريدة بين نظيراتها، ولحظة فارقة في عمر وتاريخ المنطقة، تستمد مكانتها تلك من مشهدية الإصرار والتحدي والصمود على مدار 14 عامًا، ناسفة كل المقاربات الأمنية التي كان يراهن عليها نظام الأسد الهارب، نعم كان الثمن فادحًا، والتضحيات جليلة، غير أن الغاية تستحق، وعليه كان التعلم من دروس التجارب المماثلة وعدم المكابرة أمرًا مهما، لتجنب الوقوع في الفخاخ ذاتها، في ظل حالة التربص والتآمر التي تهيمن على المشهد من اليوم التالي لسقوط النظام، وحتى لا تضيع تلك التضحيات سُدى.