استأنفت قوات الاحتلال الإسرائيلية، فجر الثلاثاء 18 آذار/مارس الجاري عملياتها العسكرية على قطاع غزة، بسلسلة من الغارات العنيفة استهدفت مخيم المغازي (وسط) وخان يونس ورفح جنوبا ومخيم جباليا وبيت حانون (شمال)، أسفرت -حتى كتابة هذه السطور- عن 400 شهيدا وعشرات المصابين، وفقا لوزارة الصحة في غزة، وسط ترجيحات بزيادة أعداد الضحايا.
بتلك الغارات التي شاركت فيها 100 طائرة حربية إسرائيلية، تنسف حكومة بنيامين نتنياهو بشكل رسمي اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي ولم ينفذ منه إلا المرحلة الأولى فقط التي انتهت بداية الشهر الجاري واستمرت لـ 42 يومًا، لتعود حرب الإبادة التي استمرت قرابة 470 يومًا إلى سيرتها الأولى.
يأت هذا التصعيد بمباركة ودعم الإدارة الأمريكية حسبما ذكر البيت الأبيض الذي كشف أن حكومة الاحتلال استشارت إدارة دونالد ترامب بشأن تلك الغارات، فيما نقلت صحيفة “معاريف” عن مصادر إسرائيلية أن تجدد القتال في غزة تم بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، وأن واشنطن وافقت على ذلك.
وبعيدًا عن مزاعم رئيس حكومة الاحتلال ووزير دفاعه بأن الهجمات تأت بسبب ما ادّعيا أنه رفض حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) مقترح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، فإنه لا يمكن الجزم بمستقبل هذا التصعيد وما إذا كان مقتصرًا على العملية الجوية المحدودة أم أنه سيتوسع إلى عملية برية، في ظل القيادة الجديدة لرئاسة أركان الجيش المحتل، إيال زمير، الذي شدد في كلماته الأولى منذ تصيبه على استئناف الحرب والتهديد والوعيد.
الضغط على حماس
تستهدف إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة بهذا التصعيد -المباغت رغم بعض المؤشرات التي سبقته- ممارسة أقصى أنواع الضغط على حماس وفصائل المقاومة، لتقديم المزيد من التنازلات، خاصة بعد رفض مقترح ويتكوف الذي وُصف بأنه حلقة في سلسلة مطولة تستهدف تجريد المقاومة من ورقة الأسرى والرهائن عبر تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق لحين إطلاق سراح كافة المحتجزين دون الالتزام ببقية مراحل الصفقة.
وكان المبعوث الأمريكي قدّم اقتراحا –حسب ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية- يقضي بإطلاق 5 محتجزين إسرائيليين مقابل تمديد وقف إطلاق النار 50 يوما إضافيًا، مع إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإدخال مساعدات إنسانية، وهو المقترح الذي ردت عليه حماس بموافقتها على الإفراج عن جندي إسرائيلي أميركي فقط و4 جثامين لمزدوجي الجنسية، الخطوة التي اعتبرها ويتكوف رفضًا لمقترحه الذي طالب بتنفيذه حرفيًا.
وتلعب كل من حكومة نتنياهو وإدارة ترامب على وتر تفجير الوضع الداخلي في القطاع من أجل لي ذراع المقاومة ودفع الوسطاء، مصر وقطر تحديدًا، لتكثيف جهودهما لإثناء حماس عن موقفها، ودفعها نحو الرضوخ للمخطط الأمريكي الإسرائيلي الرامي إلى تجريدها من ورقة الأسرى، السلاح الأقوى التي بحوزتها اليوم على طاولة المفاوضات.
وبالفعل شهدت الساعات الأولى من فجر الثلاثاء غارات مفاجئة ربما تكون هي الأعنف منذ بداية الحرب في تشرين أول/ أكتوبر 2023، وهو ما أسفر عن سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا في مناطق مختلفة، من بينهم مسؤولين في حكومة غزة، لتصل الأمور إلى هذا الوضع الإنساني المتدني، بحسب ما ذكره مدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية في تصريحاته للجزيرة، من أن هناك صعوبة بالغة في الوصول إلى الأماكن المستهدفة لانتشال الضحايا.
وأضاف أبو سلمية أنه لا يمكن لأي منظومة صحية متماسكة التعامل مع هذه الأعداد من المصابين، لافتا إلى معاناة المنظومة جراء نقص الأدوية والمستلزمات الطبية المطلوبة بسبب إغلاق المعابر، واصفًا ما حدث فجر اليوم بأنه جريمة مكتملة الأركان ارتكبها الاحتلال.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي قد عاود تهديده لحماس قائلاً “عدنا الليلة إلى القتال في غزة بسبب رفض حماس الإفراج عن المختطفين، وتهديداتها باستهداف جنود الجيش الإسرائيلي وبلدات إسرائيلية. إذا لم تُفرج حماس عن جميع المختطفين، فستُفتح أبواب الجحيم في غزة، وسيواجه قتلة حماس … الجيش الإسرائيلي بمستويات قوة لم يعرفوها من قبل. لن نتوقف عن القتال حتى عودة جميع المختطفين إلى ديارهم وتحقيق جميع أهداف الحرب”.
لم يكن الضغط على حماس هدفًا إسرائيليًا فقط، بل هو هدف أمريكي كذلك، حيث يُمني ترامب نفسه بتحقيق تعهداته السابقة خلال حملته الانتخابية وبعد تسلمه السلطة، بإطلاق سراح الأسرى، وهو التعهد الذي قوبل بتصد من المقاومة ورفض للإملاءات وشروط التركيع المفروضة، ما دفعه للتنويع بين الطرق الدبلوماسية عبر طاولة المفاوضات والتصعيد العسكري في القطاع والضغط على الوسطاء لتقديم المزيد من التنازلات.
نتنياهو والبحث عن طوق نجاة
منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار كانون الثاني/يناير الماضي، الذي أُجبر نتنياهو على الرضوخ له، ويواجه وحكومته أزمات تتفاقم يومًا تلو الأخر، حيث هواجس انهيار الائتلاف الحكومي بعد انسحاب بعض الوزراء على رأسهم إيتمار بن غفير، وتصاعد الضغوط الممارسة عليه من اليمين المتطرف، والملاحقات القضائية بتهم الفساد ومثوله بين الفينة والأخرى أمام منصات التقاضي.
ومنذ اليوم الأول لفرض التهدئة في القطاع ويتصيد نتنياهو أي مبرر لعودة القتال مرة أخرى، يقينًا أن إشعال الموقف هو طوق النجاة الذي ينقذه من أكثر من حبل يكاد يلتف حول عنقه إذا ما انتهت الحرب، ويؤجل حسم مستقبله السياسي الذي بات مرهونا بشكل كبير بمصير تلك المعركة التي فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافها المعلنة بالقوة العسكرية.
غير أنه هذا التوجه كان يواجه معارضة من قبل القيادات الأمنية داخل مجلس الحرب الإسرائيلي وداخل المؤسسة العسكرية، والتي كانت تطالب بوضع حد لتلك المعركة خاصة بعد تعدد جبهات القتال في لبنان واليمن وطهران، مما أنهك قدرات الجيش، وتفشي حالة من الغضب والتململ بين الجنود وتراجع معدلات الاستجابة لنداءات الاحتياط، ولذا عمل نتنياهو خلال أيام المرحلة الأولى من الاتفاق على إحكام سيطرته على القرار العسكري من خلال الإطاحة بالمعارضين لتوجهاته وتعيين مقربين منه، كاتس وزيرًا للدفاع، وزامير رئيسًا للأركان.
وهذا ما تفتق إليه ذهن قادة المعارضة الإسرائيلية الذين ذهبوا إلى أن التصعيد الحالي إنما هو “لعبة سياسية” تهدف إلى إبقاء نتنياهو في السلطة، كما جاء على لسان رئيس تحالف الديمقراطيين يائير غولان، الذي قال في تصريحات له إن “الجنود على الخطوط الأمامية والمختطفين مجرد أوراق في لعبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للبقاء”.
وكشف غولان أن “نتنياهو يستخدم حياة الإسرائيليين والجنود لأنه يرتجف خوفا منا ومن الاحتجاجات على إقالة رئيس الشاباك”، منوها إلى أنه “ينبغي ألا نسمح للجنون بالانتصار، وأن تندلع الاحتجاجات بغضب لإنقاذ الأسرى والجنود وإسرائيل من أيدي نتنياهو الفاسد والخطير”، كما وصفه.
وفي ذات السياق قال عضو الكنيست عوفر كاسيف إن “ما يجري ليس انهيارا لوقف إطلاق النار، بل تعمدا من سيد القتلة للحفاظ على حكومته الفظيعة”.
فيما نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن قادة الاحتجاج ضد نتنياهو قولهم إن “تحركاتهم الاحتجاجية ستتواصل ضد نتنياهو الذي يخاف من الشعب ويدرك أن أيام حكومته معدودة”، مؤكدين أن من يعتقد أن إسرائيل تواجه تصعيدًا أمنيًا، لا يجب أن يقيل رئيس الشاباك أو ينفذ انقلابًا سياسيًا.
من جانبها قالت عائلات الأسرى الإسرائيليين إنها “تشعر بالصدمة والغضب والرعب بسبب التفكيك المتعمد لعملية إعادة أحبائنا من الأسر” مناشدة الشارع الإسرائيلي بالاستجابة لدعوة المعارضة بتصعيد الاحتجاجات والتظاهر ضد قرار حكومة بنيامين نتنياهو استئناف الحرب على غزة.
حركة حماس هي الأخرى رأت أن نتنياهو يسعى من خلال هذا التصعيد للهروب من أزماته السياسية الداخلية، حتى لو كان ذلك على حساب الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع.
فيما اعتبر عضو المكتب السياسي للحركة، عزت الرشق، قرار استئناف الحرب مجددًا بأنه يعني التضحية بأسرى الاحتلال وإصدار حكم بالإعدام بحقهم”، مضيفًا أن “استئناف الحرب هو بمثابة قارب نجاة سياسي لنتنياهو من الضغوط الداخلية”.
وفي أول حصاد لأهداف نتنياهو من وراء هذا التصعيد رحب وزراء اليمين المتطرف في حكومة الاحتلال بعودة القتال مرة أخرى، حيث علق وزير المالية، سموتريتش، بأنه “استمر حتى هذه اللحظة في الحكومة رغم معارضته الصفقة (اتفاق وقف إطلاق النار) وعازمون أكثر من أي وقت على إكمال مهمة تدمير حركة حماس”.
وفي ذات السياق أكد وزير الأمن القومي- المستقيل – إيتمار بن غفير – أن حزب القوة اليهودية يرحب بعودة إسرائيل بقيادة نتنياهو إلى القتال المكثف في غزة، معتبرًا أنها خطوة صحيحة وأخلاقية ومعنوية لتدمير حماس وإعادة الأسرى الإسرائيليين، على حد قوله، فيما رجحت بعض المصادر احتمالية عودة بن غفير للحكومة مرة أخرى بعد انسحابه منها اعتراضا على وقف الحرب وإبرام صفقة تبادل مع حماس.
تنديد دولي ومطالب بالعودة لطاولة المفاوضات
حمّلت حماس في بيان لها رئيس حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تداعيات استئناف الحرب في غزة، مضيفة أن نتنياهو وحكومته “اتخذا قرارا بالانقلاب على اتفاق وقف إطلاق النار معرضين الأسرى الإسرائيليين في غزة لمصير مجهول”، داعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لانعقاد عاجل لأخذ قرار يلزم إسرائيل بوقف عدوانها.
كما دعت في الوقت ذاته أبناء الأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم للنزول إلى الشوارع لرفض استئناف حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وعلى المستوى الدولي توالت التصريحات المنددة بتجدد العدوان، فيما طالبت بعض الدول والمنظمات الدولية بالالتزام باتفاق وقف إطلاق النار وتوفير الحماية للمدنيين في القطاع، حيث وصف وزير خارجية النرويج إسبن بارث ما يجري حاليًا في غزة بأنه “كابوس”، داعيًا إلى “وقف القتال فورا حتى يتسنى استئناف المفاوضات بشأن استمرار اتفاق وقف إطلاق النار”.
فيما عبر وزير الخارجية البلجيكي برنارد كوينتين ونظيرته الأسترالية بيني وونغ عن إدانتهما للغارات الإسرائيلية الجديدة، منوهين أن ما تسببه من خسائر بشرية يهدد تحقيق الأهداف من اتفاق وقف إطلاق النار.
بينما طالبت الصين باتخاذ خطوات لمنع “كارثة إنسانية” في غزة، داعية على لسان الناطقة باسم خارجيتها ماو نينغ، طرفي النزاع إلى “تجنب أي أعمال قد تؤدي إلى تصعيد الوضع ومنع كارثة إنسانية أوسع نطاقا”.
من جانبها حذرت المتحدثة باسم اليونيسف في غزة من أن استئناف العدوان الإسرائيلي سيُحدث أزمة إنسانية جراء نقص في المساعدات وتدمير الرعاية الصحية في غزة، لافتة إلى أن حقوق أطفال غزة لا تحترم على الإطلاق، وهم محاصرون في دائرة العنف منذ بداية الحرب، ودعت إلى وقف الضربات فورا واحترام القانون الدولي الإنساني.
أما على المستوى العربي فجاءت ردود الفعل كالعادة مخيبة للآمال، مكتفية ببيانات الشجب والاستنكار، التي هي الأخرى غابت عن المشهد في معظمه، فبعيدًا عن مصر التي اعتبرت في بيان لها الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة “انتهاكا صارخا لاتفاق وقف إطلاق النار، وتصعيدا خطيرا ينذر بعواقب وخيمة على استقرار المنطقة”، لم يصدر عن البلدان العربية الأخرى ولا الجامعة العربية أي ردود فعل حتى كتابة تلك السطور في موقف يكرس حالة الانهزامية والخذلان المعتاد والذي ما عاد مستغربًا.
عاجل | حماس: ندعو أبناء الأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم للتظاهر رفضا لاستئناف حرب الإبادة الصهيونية على غزة
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) March 18, 2025
المشهد بتطوراته الأخيرة بعد النفق المظلم الذي دخله جراء التصعيد الإسرائيلي الحالي يطرح حزم مختلفة من التساؤلات حول السيناريوهات المتوقعة، والتي تميل في أغلبها إلى عدم الانجرار نحو حرب مفتوحة كما كان في السابق، في ظل بعض المتغيرات التي ربما تُربك حسابات تل أبيب وواشنطن معًا، أبرزها استعادة المقاومة جزءًا من عافيتها خلال أيام المرحلة الأولى الـ 42، وهو ما كشفته التقارير الإسرائيلية وحذرت من تبعاتها بشكل مباشر، إضافة إلى دخول الحوثيين على خط الأزمة واستئناف نشاطهم كجبهة إسناد للمقاومة بصرف النظر عما تتعرض له من ضربات على أيدي الأمريكان والبريطانيين.
ومن ثم سيحاول ترامب قدر الإمكان أن تقف الغارات الأخيرة عند حاجز الضغط، وإن كان عنيفًا، دون المغامرة بالتضحية بالأسرى الأحياء، وهي الورقة التي يعلم جيدًا أن المقاومة ستجيد توظيفها حتى وإن تراجعت قوتها نسبيًا جراء الإفراج عن عدد كبير منهم في المرحلة الأولى، ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة تكثيفًا للجهود الدبلوماسية بين واشنطن والقاهرة والدوحة وربما الرياض لاحتواء الموقف والعودة مجددًا لطاولة المفاوضات.
في الأخير.. تضع تلك العربدة الإسرائيلية، المدعومة أمريكيًا، والتي تتزامن مع عربدات أخرى مماثلة في سوريا ولبنان واليمن، المجتمع الدولي، في مأزق أخلاقي وسياسي كبير، ذلك المجتمع الذي انتفض لما أسماه حماية الأقليات في الساحل السوري، بينما يقف مكتوف الأيدي أمام جريمة إبادة مكتملة الأركان قد يروح ضحيتها شعب بأكمله، معظمهم من النساء والأطفال.