بعد نحو شهرين من وقف إطلاق النار، اختارت “إسرائيل” العودة إلى العدوان على قطاع غزة، مستأنِفةً حرب الإبادة بمباركة أمريكية، وبدوافع سياسية وعسكرية متعددة، إذ لم يكن التصعيد مجرد رد فعل على ما زعمته حكومة الاحتلال بشأن “رفض” حماس لمقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، بل جاء نتيجة ترتيبات إسرائيلية داخلية، وضغوط سياسية، ورغبة في فرض معادلات جديدة على المقاومة الفلسطينية، مستغِلةً الغطاء الأمريكي المطلق.
منذ فجر الثلاثاء 18 مارس/آذار 2025، بدأت “إسرائيل” غارات جوية مكثَّفة استهدفت جميع أنحاء قطاع غزة، ضمن عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “الشجاعة والسيف”، وسط ترويج دعائي واسع بأنها تهدف إلى تحقيق “أهداف الحرب”، وفي مقدمتها إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، سواءٌ كانوا أحياء أو أمواتًا.
لكن القراءة المتأنية لما يجري تكشف أن استئناف العدوان لم يكن مسألة رهينة بسير المفاوضات، بل كان قرارًا مدروسًا يستند إلى اعتبارات سياسية داخلية، ومصالح استراتيجية إسرائيلية أوسع.
نتنياهو.. بين المأزق الداخلي والهروب إلى الحرب
منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار، لم يكن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، جادًّا في البحث عن مسار يؤدي إلى تهدئة دائمة. كان يدرك جيدًا أن المضي في المفاوضات نحو مرحلة ثانية من الصفقة يعني الدخول في ترتيبات سياسية تُلزِمه بخطوات قد تؤدي إلى تفكك ائتلافه اليميني، وربما مغادرته للمشهد السياسي بالكامل.
لذا، كان التصعيد العسكري واستمرار الحرب خيارًا استراتيجيًّا بالنسبة له، ليس فقط لحماية تحالفه الحاكم، بل أيضًا لفرض شروط جديدة على المقاومة، واستعادة زمام المبادرة بعد أسابيع من الجمود السياسي والعسكري.
اختار نتنياهو توقيت العودة إلى الحرب بعناية فائقة، إذ جاء التصعيد قبل التصويت الحاسم على الموازنة المفترض في مطلع أبريل/نيسان القادم، وهو تصويت قد يُسقط حكومته في حال فشله.
لذلك، احتاج إلى ضمان دعم الأطراف اليمينية المتطرفة داخل الائتلاف، مثل بن غفير وسموتريتش، اللذين كانا يطالبان منذ أسابيع بإعادة استهداف غزة، فيما يضع بن غفير تحديدًا شرط عودة القتال أساسًا للعودة إلى الحكومة التي غادرها احتجاجًا على اتفاق التهدئة وتبادل الأسرى.
كما أن استئناف القتال ساعده في تخفيف الضغوط الداخلية الناتجة عن عزمه إقالة رئيس الشاباك رونين بار، وهو قرار كان سيؤدي إلى موجة احتجاجات واسعة، خاصةً مع تصاعد المعارضة داخل المؤسسة الأمنية وتحشيد المعارضة للتحرك في الشارع بما يُذكِّر بزخم الحراك الرافض لبرنامج “الإصلاحات القضائية”.
الحسابات العسكرية: مفاجأة تكتيكية وعدوان ممتد
على الصعيد العسكري، اعتمدت “إسرائيل” استراتيجيةَ المباغَتة، إذ أُعِدَّت الخطة العملياتية سرًّا داخل الجيش، بهدف تنفيذ ضربة مفاجئة على عدد كبير من الأهداف في وقت واحد. وجاء في البيان المشترك للجيش الإسرائيلي والشاباك أن الهجوم يهدف إلى إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بعناصر المقاومة، وإحباط قدرتها على إعادة التسلح.
لكن ما يثير الانتباه أن الجيش لم يحدِّد سقفًا زمنيًّا للهجوم، بل أكد أن العملية “ستستمر طالما دعت الحاجة”، ما يعني أن الحرب مفتوحة على كل الاحتمالات. ويبدو أن الهدف الرئيسي في هذه المرحلة تصفية قيادات سياسية وميدانية، وضرب البنية التحتية المدنية والإدارية في غزة.
ويأتي العدوان الإسرائيلي الحالي ليكون أول اختبار عملي لرئيس الأركان الجديد إيال زامير، الذي تسلَّم منصبه حديثًا وسط إشادات من بنيامين نتنياهو، الذي عدَّه صاحب رؤية هجومية تتناسب مع توجهات حكومته اليمينية المتطرفة.
منذ اليوم الأول لاستلامه مهامه، شرع زامير في تنفيذ تغييرات هيكلية داخل الجيش، وإعادة تموضع للقادة الميدانيين، مع التركيز على تطوير استراتيجيات قتالية أكثر وحشية تهدف إلى تحقيق “حسم سريع” في المواجهات.
خلال الأسابيع الماضية، أشرف زامير على سلسلة من المناورات العسكرية التي حاكت سيناريوهات القتال في غزة، وشملت تدريبات مكثَّفة على عمليات الاجتياح البري، والاغتيالات النوعية، واستهداف البنى التحتية المدنية لإحداث انهيار شامل في القطاع.
ومن الواضح أن زامير يسعى إلى ترسيخ اسمه في السجل العسكري الإسرائيلي عبر تقديم نفسه كمهندس لضربة حاسمة ضد المقاومة في غزة، مستغِلًا الدعم السياسي المطلق من حكومة الاحتلال، والغطاء الأمريكي المفتوح الذي يُتيح لـ”إسرائيل” هامشًا واسعًا من التصعيد دون مخاوف من ضغوط دبلوماسية حقيقية.
الاغتيالات واستهداف القطاع الحكومي
شكَّلت الاغتيالات الهدف الأساسي الأول في الضربة المباغِتة التي عاد الاحتلال إلى القتال عبرها، ونقلت مصادر صحفية وعائلية أن الغارات قد أدت إلى استشهاد كلٍّ من مسؤول العمل الحكومي في غزة عصام الدعاليس، وعضوَي المكتب السياسي لحركة حماس محمد الجماصي وياسر حرب، في العدوان الإسرائيلي على القطاع.
إلى جانب عدد من مفاصل العمل الحكومي الذين نعاهم المكتب الإعلامي في قطاع غزة رسميًّا، وهم وكيل وزارة العدل المستشار أحمد الحتة، ووكيل وزارة الداخلية اللواء محمود أبو وطفة، ومدير عام جهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان.
تضع “إسرائيل” الاغتيالات على رأس أولوياتها العسكرية، في محاولة لتصفية قيادات المقاومة وإضعاف قدرة التنظيمات الفلسطينية على إدارة المعركة، وتعتمد هذه السياسة على مزيج من العمليات الجوية الدقيقة، والمعلومات الاستخباراتية التي جُمِعَت في خلال فترة الهدنة ومن الأسرى الإسرائيليين الذين أُفرِج عنهم في إطار الصفقة.
وبات واضحًا أن الاحتلال لا يستهدف فقط القادة العسكريين، بل يوسِّع دائرة الاستهداف لتشمل شخصيات سياسية ومدنية مؤثرة، في محاولة لإحداث خلل شامل في بنية القيادة داخل غزة.
لا تُعَدُّ هذه السياسة جديدة على الاحتلال، لكنها اتخذت بعدًا أكثر وحشية في حرب الإبادة، إذ يجري استهداف القيادات استهدافًا مكثَّفًا في أماكن سكنهم، وبين عائلاتهم، دون مراعاة لوجود المدنيين المحيطين بهم.
وتسعى “إسرائيل” من خلال هذه الاستراتيجية إلى تحقيق هدفين أساسيين: الأول تصفية القيادات ذات التأثير الميداني والتخطيط الاستراتيجي؛ والثاني خلق حالة من الفوضى والتخبط داخل التنظيمات، عبر فرض واقع يضطر فيه القادة الجدد إلى العمل تحت الضغط الأمني المستمر.
إلى جانب تصعيد سياسة الاغتيالات، تتجه “إسرائيل” إلى ضرب المؤسسات الحكومية والبنى التحتية المدنية، كجزء من استراتيجيتها الشاملة لإضعاف القطاع وإفقاده أية قدرة على التعافي. فمنذ الساعات الأولى لاستئناف القتال، ركزت الغارات الجوية على استهداف المقدرات الحكومية، في محاولة لإحداث انهيار شامل في العمل الإداري داخل غزة.
ليست هذه السياسة عشوائية، بل تأتي ضمن مخطط إسرائيلي مدروس يهدف إلى منع أي شكل من أشكال إعادة الحياة إلى طبيعتها، حتى لو كان ذلك في المجالات الإنسانية، مثل الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. فقد سبق وأن استهدف الاحتلال مقرات البلديات، ووزارات حكومية، ومراكز إدارية تعمل على توفير الخدمات للنازحين والمنكوبين، ما يوضح أن الغاية ليست فقط الضغط على المقاومة، بل إحداث أكبر قدر ممكن من المعاناة الإنسانية لسكان غزة، عبر تدمير كل مقومات الحياة.
كما يأتي استهداف القطاع الحكومي في إطار مساعي الاحتلال إلى إظهار غزة كمنطقة غير قابلة للحكم أو الإدارة، في محاولة لخلق فراغ إداري يبرِّر استمرار السيطرة العسكرية الإسرائيلية، أو فرض حلول سياسية تخدم الأجندةَ الإسرائيلية.
فمن خلال تدمير مؤسسات الحكم المحلي، تسعى “إسرائيل” إلى إبقاء غزة في حالة من الفوضى الإدارية، ما يزيد معاناة السكان، ويفتح الباب أمام مشاريع سياسية تسعى إلى إعادة تشكيل مستقبل القطاع وفق رؤية إسرائيلية، سواءٌ عبر فرض إدارة أمنية بديلة، أو إبقاء القطاع في حالة انهيار مستمر لدفع سكانه للهجرة الطوعية.
الإدارة الأمريكية تدير المعركةَ من الخلف
لم يكن التصعيد الإسرائيلي قرارًا فرديًّا، بل جاء بموافقة وتنسيق مباشر مع الإدارة الأمريكية. فقد أكدت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، كارولاين ليفيت، أن “إسرائيل” تشاورت مع إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن الهجوم قبل تنفيذه، مضيفةً أن “حماس وإيران والحوثيين سيدفعون الثمن”، في إشارة إلى أن واشنطن ترى العدوان على غزة جزءًا من معركتها الإقليمية الأكبر.
إن هذا الموقف الأمريكي ليس جديدًا، لكنه يتجاوز هذه المرة الدعم التقليدي ليصل إلى المشاركة الفعلية في رسم ملامح العدوان. فقبل ساعات من القصف الإسرائيلي، بدأت واشنطن موجة ضربات عسكرية مكثَّفة ضد حركة أنصار الله الحوثيين في اليمن، في خطوة تهدف إلى تحييد آخر جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية، ومنع أي تصعيد إقليمي قد يُخفِّف الضغط عن غزة. كما كثَّفت الولايات المتحدة تهديداتها الردعية ضد إيران، لمنعها من محاولة فتح جبهات اسناد جديدة.
انعكاسات وتداعيات المرحلة المقبلة
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن “إسرائيل” تتحضر لجولة طويلة من القتال، تتسم بتصعيد متدرج، وتستهدف إنهاك المقاومة قبل أي حديث عن تسويات سياسية جديدة. لكن في المقابل، ثمة عدة عوامل قد تؤدي إلى تعقيد المشهد وتقويض الأهداف الإسرائيلية، ومنها:
- قدرة المقاومة على إدارة المعركة بأسلوب استنزافي طويل الأمد، كما فعلت في الجولات السابقة، ما قد يُكبِّد الاحتلال خسائر كبيرة، ويفرض عليه إعادة النظر في استراتيجيته العسكرية.
- مصير الأسرى المجهول، والاحتمالية الكبيرة لمقتلهم في جولات الغارات الجوية والعدوان الإسرائيلي المكثَّف على القطاع، ما سيدفع أهالي الأسرى إلى تصعيد حراكهم، ولربما زيادة ضغطهم من جديد على إدارة ترامب للضغط من أجل عودة مسار التهدئة وصفقات التبادل.
- التأثيرات الداخلية في “إسرائيل”، حيث أن استمرار الحرب لفترة طويلة دون تحقيق “نصر حاسم” قد يُفاقم الانقسامات داخل المؤسسة السياسية والعسكرية، ويدفع مزيدًا من القيادات الأمنية إلى التشكيك في جدوى استراتيجية نتنياهو.
التقدير المستقبلي للعدوان: حرب مفتوحة بلا أفق سياسي
يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي يتجه نحو جولة طويلة من القتال، تتسم بتصعيد متدرج، وتركِّز على استنزاف المقاومة والبنية التحتية المدنية في غزة. فالتصريحات الصادرة عن المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، إلى جانب الدعم الأمريكي المطلق، تؤكد أن العدوان هذه المرة ليس جولة تصعيد عابر، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى فرض واقع جديد في القطاع، سواءٌ عبر إضعاف المقاومة، أو إحداث انهيار إداري وإنساني يدفع نحو إعادة تشكيل مستقبل غزة وفق الأجندة الإسرائيلية.
في المرحلة المقبلة، يمكن توقُّع أن الاحتلال سيواصل تصعيده وفق عدة مستويات. فمن الناحية العسكرية، سيتجه الاحتلال إلى مزيد من الاغتيالات النوعية، واستهداف قادة ميدانيين ومسؤولين سياسيين، في محاولة لتفكيك البنية القيادية للمقاومة. كما أنه قد تتبع العمليات الجوية المكثَّفة عملياتٌ خاصةٌ تستهدف مواقع يعتقد أن الأسرى الإسرائيليين محتجزون فيها، أو مقارَّ قيادية للمقاومة.
على المستوى السياسي، من الواضح أن “إسرائيل” تتمسك بالسقف التفاوضي الجديد الذي حددته واشنطن في عرض ويتكوف الأخير، والذي يقتصر على تبادل الأسرى، دون تقديم أية تنازلات تتعلق بإنهاء الحرب أو الانسحاب من غزة. هذا يعني أن الاحتلال يسعى إلى إدامة العدوان بوصفه أداة ضغط سياسي، لا لتحقيق أهداف عسكرية مباشرة فحسب.
وعلى الرغم من هذه الاستراتيجية، يظل ثمة احتمالان رئيسيان لمستقبل هذه الجولة من الحرب: الأول أن ينجح الاحتلال في إطالة أمد العدوان، مستغلًا الغطاء الأمريكي، وداعمًا رهانه على إنهاك المقاومة وإضعاف الجبهة الداخلية؛ والثاني أن يؤدي طول أمد العدوان إلى تعقيدات أمنية وسياسية داخل “إسرائيل” نفسها، خاصةً إذا فشلت الأهداف المعلَنة، وازدادت الضغوط الداخلية والدولية، ما قد يدفع الاحتلال إلى البحث عن تسوية جديدة، ولو من موقع أضعَف.
في النهاية، تبدو هذه الحرب بلا أفق سياسي واضح، إذ لا يوجد تصور إسرائيلي لحل جذري يمكن أن ينهيَ المواجهة، بل فقط ثمة مساعٍ لتأجيل الصراع وترحيله إلى مراحل لاحقة. وكما أثبتت التجارب السابقة، فإن “إسرائيل” قد تبدأ الحرب وفق خططها، لكنها غالبًا ما تجد نفسها عالقة في واقع ميداني وسياسي أكثر تعقيدًا مما خططت له.