قبل أيامٍ عديدة، وفي سلسلةٍ طويلة من التغريدات على حسابه الشخصي، أعلن مؤسس تويتر ومديره التنفيذي جاك دورسي أن شركته، وبدءًا من نهاية الشهر الحالي، ستحظر كافة الإعلانات ذات الطابع السياسي على شبكتها في جميع أنحاء العالم، مبررًا ذلك القرار بإدراكٍ لخطورة الرسائل السياسية المدفوعة، وبرغبةٍ بالحد من نشر المعلومات والأخبار الزائفة المرافقة للدعاية السياسية ذات الفعالية العالية والوصول الواسع، والتي تنشرها جهات وشخصياتٍ سياسية. والحظر بحسب تغريدات دورسي لن يقتصر على إعلانات المرشحين في الانتخابات حصرًا، والتي تؤثر بشكلٍ ما في توجهات الناخبين وسلوكهم، بل سيطال الإعلانات المدفوعة لمناصرة أو محاربة قضايا سياسية بعينها، منعًا لاتخاذها مسلكًا للتحايل على الحظر.
اجتذب القرار ردود فعلٍ مرحبة، وأخرى رافضة، فيما أبدى آخرون قلقًا من تداعيات سياسة تويتر الجديدة على مستقبل التعبير السياسي على منصات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن فهم الترحيبات بسياسة تويتر الجديدة والتخوفات منها، دون سبر أغوار الظروف والسياقات التي ولدت بها ومنها السياسة، فأين بدأت الحكاية؟
We’ve made the decision to stop all political advertising on Twitter globally. We believe political message reach should be earned, not bought. Why? A few reasons…?
— jack ??? (@jack) October 30, 2019
فيسبوك: أصل الحكاية
في أبريل من العام الماضي، وعلى مدار يومين، خضع الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك مارك زوكربيرغ لجلسات استجوابٍ أمام لجنتا الكونغرس الأمريكي القضائية والتجارية، وبوجهٍ شاحب وتردد كبير أجاب الشاب الأمريكي عن مئات الاسئلة الموجهة له، ورفض الاجابة عن أخرى.
مساءلة مؤسس فيسبوك تمحورت حول قواعد الخصوصية وحماية المستخدمين في شبكته بشكلٍ عام، وبشكلٍ رئيس وخاص حول فضيحة كامبريدج أناليتيكا، شركة الاستشارات السياسية وتحليل البيانات، التي اتُهمت بالوصول غير المشروع لبيانات 87 مليونًا من مستخدمي الفيسبوك، مُعظمهم من الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف تحليلها ودراستها والاستفادة منها لاستهداف الناخبين وإغراقهم بالمدونات والمقالات ومقاطع الفيديو المصورة والإعلانات على كل منصة متاحة، ما ساهم في توجيه سلوكهم الانتخابي في استحقاق الرئاسة الأمريكية نهاية العام 2016، وهي الانتخابات التي فاز فيها دونالد ترامب، الذي قادت حملته الانتخابية شركة كامبريدج أناليتيكا، حتى أن ستيب بانون نائب رئيس كامبريدج أناليتيكا ترأس حملة ترامب برُمتها.
قضية شركة كامبريدج أناليتيكا، والتي تتخذ من لندن مقرًا رئيسًا لها، سرعان ما فتحت أبواب الجحيم على الفيسبوك، فظهرت تسريبات أخرى تكشف تتبع الموقع لنشاط مستخدميه وسلوكهم واستخدام بياناتهم وبيعها، قادت لأن تُغرم هيئة التجارة الفيدرالية الموقع الأزرق بحوالي 5 مليارات دولار، إضافةً إلى إجباره على إدخال تعديلاتٍ على سياسات حماية خصوصية المستخدمين وبياناتهم، وضرورة إخبارهم عن مصيرها في حال إطلاق أي خدمة. وقبل يومين فقط، وافق الفيسبوك على دفع غرامة قدرها نصف مليون جنيه استرليني، كان قد أقرها عليه مكتب مفوض المعلومات البريطاني على خلفية قضية كامبريدج أناليتيكا.
ومع تغريم الفيسبوك وإغلاق كامبريدج أناليتيكا لمكاتبها، بدا أن القضية أصبحت من الماضي، لكن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، أعاد طرح تساؤلاتٍ جادة أفرزتها الفضيحة حول سياسات مواقع التواصل الاجتماعي تجاه المحتوى السياسي، وعلاقتها مع الكيانات والجهات العاملة في حقول السياسة والأمن، وتكسبها من وراء ذلك، وخصوصًا حين يتعلق الأمر بانتهاك حقوق المستخدمين ومراقبتهم، والتكسب من وراء بياناتهم، بل واستغلالها في توجيه عملياتٍ نفسية تستهدفهم.
على بُعد أشهرٍ فقط من انتخابات الرئاسة الأمريكية، أتى إعلان مؤسس تويتر جاك دورسي عن السياسة الجديدة، ليزيد الضغط على شبكات التواصل الأخرى المستفيدة من الدعاية السياسية على صفحاتها
عودةً إلى تويتر
في العاشر من أكتوبر الماضي وجهت حملة جو بادين الرئاسية رسالةً إلى موقع تويتر، طلبت فيها إزالة مقطع فيديو نشرته حملة إعادة إنتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يحوي اتهاماتٍ لنائب الرئيس الأمريكي السابق جو بادين باستخدام سلطته للضغط على أوكرانيا لوقف التحقيق في قضية تخص شركةً أوكرانية للطاقة، كان هانتر، نجل بايدن، عضوًا في مجلس إدارتها. وهي ذات القضية التي أطلق فيها مؤخرًا مجلس النواب الأمريكي اجراءات عزل ترامب على خلفية إيقافه لمعوناتٍ عسكرية موجهة إلى أوكرانيا، لدفع رئيسها فلوديمير زيلينسكي والضغط عليه لإجراء تحقيقات حول بادين ونجله.
سبق رسالة حملة جو بادين، رفضًا من قبل بعض الشبكات الإعلامية لنشر إعلاناتٍ ترويجية لحملة ترامب بدعوى احتوائها على معلوماتٍ زائفة، ورافقه ضغوط جمة ضد منصات التواصل الاجتماعي لإيقاف الإعلانات السياسية، واتباع آلية لتحري الأخبار والمعلومات المفبركة والزائفة، والمنشورة من قبل شخصيات ومؤسسات سياسية، تجنبًا لتكرار ما حصل خلال الانتخابات الأمريكية السابقة، وصل الأمر إلى توقيع مئات من موظفي فيسبوك عريضة احتجاجٍ موجهة للرئيس التنفيذي للشركة مارك زوكربيرج وكبار معاونيه، يطالبون فيه بفرض رقابة على الخطاب السياسي المدفوع على الشبكة، وإيقاف استقبال الإعلانات السياسية ونشر الأخبار دون التحقق منها.
تصاعدت حدة المطالبات، بعد تأكيد مارك زوكربيرغ الاستمرار في سياسة استقبال الإعلانات السياسية، ودون التحقق منها أو التدقيق في مضمونها حتى، والاكتفاء بتعريف هوية ناشر الإعلان، كان ذلك خلال خطابًا ألقاه مؤسس الفيسبوك منتصف الشهر الماضي أمام مئات الطلبة من جامعة جورج تاون، تحدث فيه عن سياسات فيسبوك الحالية والمستقبلية تجاه المحتوى السياسي.
الرئيس الأمريكي والأوكراني
في ضوء ما سبق، وعلى بُعد أشهرٍ فقط من انتخابات الرئاسة الأمريكية، أتى إعلان مؤسس تويتر جاك دورسي عن السياسة الجديدة، ليزيد الضغط على شبكات التواصل الأخرى المستفيدة من الدعاية السياسية على صفحاتها، وخصوصًا فيسبوك، الذي رأى البعض أن القرار لم يكن إلا تحديًا له، أحد المحللين وصف الأمر، بمعركة وادي السيليكون الأكثر إثارة.
ماذا ستغير السياسة الجديدة؟
وفق سياسة تويتر الجديدة، والتي سيُنشر مزيدًا من التفاصيل حولها في 15 نوفمبر، على أن يبدأ العمل بها من 22 نوفمبر، فإن الحظر سيقتصر على الإعلان السياسي المدفوع، دون أن يتعداه ذلك إلى فحص المحتوى السياسي وتدقيقه، بمعنى أن وصول أي مضمون سياسي للمستخدمين لن يكون إلا مباشرًا، إما عبر المتابعة أو إعادة التغريد.
ويختلف بذلك تويتر مع رؤية الفيسبوك التطويرية التي تُعطي الأولوية لزيادة شفافية الدعاية السياسية، لا فرض حظرٍ كامل على المحتوى السياسي المدفوع، ينبع اختلاف السياسات السابق من تباين خوارزميات النشر والوصول في كلا الموقعين، فالوصول المحدود نسبيًا إلى تويتر يجعله بيئةً طاردة وغير خصبة للترويج السياسي، على عكس شبكتي فيسبوك وانستجرام، اللتان تستأثران بحصة الأسد من الإنفاق الرقمي السياسي. فعلى سبيل المثال، وخلال دورة التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي العام الماضي، بلغت إيرادات فيسبوك من الإعلانات السياسية ما يقرب من 284 مليون دولار، فيما لم تتجاوز إيرادات تويتر لذات الدورة 3 ملايين دولار.
الجدير بالذكر، أن هذا ليس التحديث الأول الذي يدخله تويتر على سياساته الإعلانية، قبل فترة وجيزة أوقفت الشركة تقديم الخدمات الإعلانية للحسابات التابعة لوسائل إعلامية تسيطر عليها الحكومات ماليًا أو تحريرًيا، سبق ذلك بشهور إدخال قيودٍ جديدة على الإعلانات الخاصة بالمرشحين وكذلك إعلانات القضايا التشريعية ذات الأهمية الوطنية، كما يصفها الموقع، والتي يقع تحت سقفها موضوعات مثل الإجهاض والحقوق المدنية وتغير المناخ والسلاح والرعاية الصحية والهجرة والأمن القومي والضمان الاجتماعي والضرائب والتجارة. فأصبح لازمًا على المُعلنين السياسيين على تويتر تقديم شهادة تُظهر هوياتهم التعريفية، ويُعفى من ذلك المنصات الاعلامية التي تُقدم تقارير عن هذه القضايا دون الترويج لموقفٍ مؤيد أو معارض منها.
بيد أن العديد من وسائل الإعلام، أبدت مخاوفًا من مساس سياسات تويتر الجديدة بحسابات المؤسسات الإعلامية، التي تَعتبر تويتر منصتها الأفضل لنشر مقالاتها وتقاريرها والوصول لقرائها ومتابعيها. كما اجتذب القرار الجديد ردود فعلًا رافضة من حملة ترامب، براد برسيكل مدير الحملة، ادعى أنها محاولة جديدة لإسكات أصوات المحافظين، وخصوصًا مع امتلاك الحملة لبرنامج دعائي هو الأكثر تعقيدًا على الإنترنت. وهو ادعاء يبدو محقًا في جزئه الثاني دون الأول، فكما أوضحنا سابقًا فإن الإعلانات السياسية لا تشكل جزء هامًا من أعمال تويتر، لذا فمن غير المتوقع أن يؤثر القرار كثيرًا على تويتر أو على أصحاب الإعلانات السياسية، ومنهم حملة ترامب، التي تُنفق أموالًا طائلة على الدعاية السياسية الرقمية.
ولكن، ماذا عن منطقتنا؟
حين ضجت جنبات الصحافة والقضاء بفضيحة كامبريدج أناليتيكا، ظهر أن الشركة البريطانية عملت لسنواتٍ طويلة مع حملاتٍ انتخابية في دول شرق أوروبية وآسيوية وأفريقية، وقادت عملياتٍ نفسية للجيش البريطاني، وُجِهت ضد دولٍ عربية. إلا أن التغطية الصحافية والملاحقة القضائية التي طالت الشركتين سواءً في الولايات المتحدة أو في بريطانيا، ولأسبابٍ عديدة، لم تركز إلا على تورطها في مسار الانتخابات الأمريكية واستفتاء البريكست. وهو أمر ينسحب على التعامل مع قضايا أخرى مشابهة، مثل بيع شركات الأسلحة الأمريكية والأوروبية منتجاتها لدول وجماعات تشن حروبًا ضارية ضد شعوب المنطقة ومصالحها.
وهو ما يقودنا للسؤال هنا، حول إن كان الأمر سيتكرر في تطبيق سياسات تويتر الجديدة على الترويج السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا أن شبكات التواصل الاجتماعي تتخذ عادةً سياسات مغايرة في الشرق الأوسط، متمتعة بحرية توغلٍ أكبر على المستخدمين وتعبيرهم السياسي الموجه ضد جهاتٍ بعينها. كل ذلك، بالشراكة والمحاصصة مع عواصمٍ عديدة في المنطقة، وخصوصًا تلك التي تستضيف مكاتبها الاقليمية.
فمن جهة لا ينفك فيسبوك، الذي يتخذ من تل ابيب مقرًا اقليميًا له، عن حذف وتعطيل حساباتٍ شخصية وصفحات تابعة لمؤسسات إعلامية فلسطينية، إلى جانب حذف منشوراتٍ تتضمن محتوىً سياسي موجه ضد سياسات الاحتلال الاسرائيلي، هذا عدا عن مشاركتها لمخابرات الاحتلال بياناتٍ تخص حساباتٍ فلسطينية، تُستخدم لملاحقة واعتقال الفلسطينيين وإدانتهم بسبب كتاباتهم على صفحات الفيسبوك. ومن جهةٍ أخرى، يستمر تويتر، ومن خلال مكتبه الإقليمي في دبي، تارةً بإيقاف حسابات شخصية لنشطاء سياسيين معارضين في منطقة الشرق الأوسط، وتارةً أخرى بالتلاعب في الهاشتاقات وتصنيفها، عدا عن توثيق حساباتٍ مزورة تقود حملات ترويجٍ للسعودية والإمارات وقادتها مثلًا، وهو ما دعا نشطاء إلى توجيه دعواتٍ لتويتر الشهر الماضي لنقل مكتبه من دبي. جديرٌ بالذكر أن تويتر تلقى، وخلال الست الأشهر الأولى من هذا العام فقط، 7300 طلبًا حكوميًا لبيانات المستخدم، بزيادة وصلت نسبتها 6% عن طلبات العام السابق.
بناءً على ذلك، من غير المتوقع أن تؤثر سياسة تويتر الجديدة بشكلٍ حقيقي على استخدام السلطات في المنطقة العربية للشبكة ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى، بهدف ترويج سياستها المُنتهجة في قضايا سياسية واجتماعية مُحددة أو توجيه الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي صوب اتجاهٍ تريده، إذ أن تبعات السياسة الجديدة ستقتصر حصرًا على تلك الحسابات التي تعتمد أصلًا في نشاطها ووصول محتواها لمستخدمي تويتر على الإعلانات المدفوعة. وحتى في هذه الحالة، فإن لها أن تأخذ مسالكًا أخرى للتحايل على قرارات الشبكة الأخيرة، مثل شراء حسابات متابعين أو إنشاء أخرى وهمية لتوسيع نطاق الوصول، وهي طريقة رائجة لدى اللجان الالكترونية على تويتر وما يعرف بالذباب الإلكتروني، إذ باتت كل معظم دول المنطقة لديها جيوش من الموظفين الذين يعملون على تضليل الرأي العام وتوجيهه طوال الوقت بالاعتماد على ثلاثية حسابات المشاهير الموثقة وموظفو الجيوش الإلكترونية والروبوتات، كما يمكن للأخبار المزيفة والدعاية السياسية أن تنتشر بسهولة عبر التغريدات غير الفيروسية. فالأمر يتعلق بالدفع مقابل الوصول لا بالمحتوى والمضمون، لذلك فإن قرارات الحظر قد تطال مؤسساتٍ حقوقية أو إعلامية تُضيء على قضايا مُحقة وعادلة في المنطقة العربية، أو حتى تنتهج دربًا حياديًا في محتواها واطروحاتها السياسية، وتستخدم الإعلانات الممولة للوصول لأكبر قدر من مستخدمي الشبكة.
هل وصلنا نقطة اللاعودة؟
ختامًا، يمكن القول أن سياسات تويتر الجديدة لن تُغير شيئًا للأفضل، فحتى لو اعتبرنا أنها سياسة في صالح المستخدمين وتم تطبيقها بحذافيرها على كافة الإعلانات السياسية، فلا يزال هناك تكتيكات متاحة بوسع الجهات السياسية سلوكها للتحايل والالتفاف على هذا الحظر.
ويبدو اليوم أن شبكات التواصل الاجتماعي توغلت للحد الذي يتعذر معه إيجاد آلياتٍ تحل تعقيدات ومشاكل هذه الشبكات، بدايةً من حماية خصوصية المستخدمين وبياناتهم، وليس انتهاءً بمواجهة الدعاية السياسية المدفوعة والزائفة، لأن ذلك يعني، بصورةٍ ما، أن يُنزع التاج عن هذه المواقع. ففي ظل شبكاتٍ متداخلة، تضم مئات ملايين من المستخدمين، من ضمنهم آلاف من المؤسسات والجهات السياسية والإعلامية والتجارية وغيرها، من الصعب الوصول لآلية تحدد مثلًا ما إن كان هذا المحتوى يحرض على العنف أم لا، أو إن كان ذلك يمثل دعاية سياسية كاذبة ومدمرة أم لا. ربما يكون ذلك ممكنًا فقط، في حال أن من كان يقرر ذلك هو وزارة الحقيقية في نبوءة جورج أورويل (1984)، كما يقول ساخرًا، أحد المعلقين على قرار تويتر الأخير.