باتت الضبابية سيدة الموقف في الشارع اللبناني بعدما أحدثت التظاهرات التي وصلت أسبوعها الثاني زلزالًا مدويًا في شتى أركان النظام الحاكم، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء سعد الحريري لتقديم استقالته بعد فشل سياسة الحقن التخديرية التي كان يتبعها مع الحراك ساعة تلو الأخرى.
الاعتصامات والإضرابات التي شلت أركان البلاد فرضت أولوياتها وأجندتها المعلنة على خطابات الطبقة السياسية في الدولة، دافعة جميع ممثلي الطوائف دون استثناء لمحاولة التناغم مع إيقاعها، ومع ذلك لا يزال الشارع متمسكا بمطلبه الأساسي بإسقاط النظام كله، وذلك تحت شعار “كلن يعني كلن”.
المأزق السياسي الذي تسببت فيه استقالة الحريري وقبول الرئيس ميشال عون لها، فرضت حالة من الغموض فيما يخص مستقبل الحكومة واتفاق “العهد”، ووفي الوقت الذي دعا فيه زعيم حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، لتشكيل حكومة من المستقلين والتكنوقراط، شدد أمين عام حزب الله حسن نصرالله على ضرورة أن تستعيد الحكومة المقبلة ثقة المواطنين وتلبي المطالب المحقة وأن تكون حكومة سيادية حقيقية بعيدا عن الإملاءات الأميركية.
هدف يحسب لصالح المحتجين في الشارع في مرمى النظام المتشبث بكرسيه رغم تصعيد الحراك، غير أن مباراة كهذه لا تكتف بهدف واحد، فالتعزيز بأخر أو بثالث لإنهاء المباراة قبل موعدها هو الحل تحسبًا لهجوم مضاد يغير النتيجة برمتها، خاصة وأن التاريخ السياسي للبنان خير شاهد على نجاح الهجمات المرتدة من قبل السلطات في تحقيق انتصارات عدة على حساب الشعب الذي عانى طويلا من فساد سلطوي اعتمد نظام الطائفية والمحاصصة كقاعدة عريضة لإفساد أي تحرك ضده.
استمرار الحراك
يواصل المحتجون تظاهراتهم المستمرة وإن تراجعت نسبيًا حدة التصعيد بعد استقالة الحريري وتدخل قوات الأمن للحيلولة دون نشوب مواجهات بين الغاضبين في الميادين والشوارع وأنصار “حزب الله” وحركة أمل والتيارات الداعمة للحكومة، وهي المعضلة التي كادت أن تذهب بالأمور إلى أفاق أخرى.
وبعد أسبوعين تقريبًا من غلق المصارف اللبنانية بسبب الاحتجاجات عاودت أمس الجمعة نشاطها مرة أخرى، حيث شهدت زحاما شديدًا من قبل المواطنين، كما واجه العملاء قيودا جديدة على التحويلات إلى الخارج والسحب من حسابات بالدولار، وفق ما ذكرت “رويترز“.
وكانت جمعية المصارف قد أعلنت العودة إلى العمل أمس، رغم ما وصفته بعدم استتباب الأوضاع مؤكدة أنها ستعمد إلى توفير الحاجات الملحة والأساسية، ومنها دفع الرواتب والأجور، فيما أفاد مراسل الجزيرة بأن أربعة محتجين اقتحموا المدخل الرئيسي لمبنى جمعية المصارف وسط بيروت واعتصموا فيه، تنديدا بالسياسة المصرفية في لبنان.
بعد أقل من يومين على استقالة الحريري أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حجب مساعدات أمنية للبنان حجمها 105 ملايين دولار
وفي السياق ذاته عملت قوى الأمن اللبنانية على إعادة فتح الطرق أمام المحتجين في بعض المناطق، لاسيما بيروت والتي باتت جميع الطرق فيها مفتوحة الأن، كذلك الأمر بين العاصمة وباقي المحافظات، بينما لا يزال عدد محدود من الطرق مقطوعا في محافظتي الشمال والبقاع.
وتشير بعض المصادر أن حالة الشلل الكامل التي أحدثتها الاحتجاجات والتي شملت إغلاق المصارف والمدارس والجامعات وقطع طرق رئيسية في جميع المناطق، تخف حدتها بصورة تلقائية، وإن كان ذلك يتزامن مع إصرار واضح من المحتجين على البقاء في الشارع حتى تحقيق مطالبهم كاملة.
يذكر أن دفع الحريري للاستقالة نزولًا على رغبة المحتجين، واضطرار عون لقبولها، والطلب منه تصريف الأعمال، جاءت في توقيت حرج لرئيس البلاد وتياره الحزبي، ومعه “حزب الله” وحركة أمل وتيار المستقبل، وهو ما يعد انتصارًا يحسب للشارع رغم التصريحات السابقة للسلطة برفض مطالب الثوار بداية انطلاق الحراك.
أمريكا تحجب مساعداتها
بعد أقل من يومين على استقالة الحريري أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حجب مساعدات أمنية للبنان حجمها 105 ملايين دولار، وفق ما ذكر مصدر مسئول رفض الكشف عن هويته لـ “رويترز”، لافتا إلى أن وزارة الخارجية أبلغت الكونجرس الخميس الماضي بأن مكتب الميزانية في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي اتخذا ذلك القرار.
المسؤول لم يتطرق إلى سبب هذا الإجراء في هذا التوقيت، فيما قال مصدر إن وزارة الخارجية لم توضح للكونجرس سبب القرار، رافضة التعليق عليه، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام لدى الشارع اللبناني عن دلالات هذه الخطوة التي سيكون لها انعكاسات واضحة على المشهد العام.
وكانت الإدارة الأمريكية طلبت الموافقة على تلك المساعدات -التي شملت نظارات الرؤية الليلية وأسلحة تأمين الحدود- اعتبارا من مايو أيار، قائلة إنها ضرورية للبنان لتمكينه من حماية حدوده، غير أن واشنطن قد عبرت أكثر من مرة عن قلقها من تنامي دور “حزب الله” في الحكومة اللبنانية، والذي تصفه بأنه مدعوم من إيران.
وفي الإطار ذاته عبر مسؤول أمريكي عن اعتقاده بأن المساعدة الأمنية ضرورية للبنان بينما يكافح للتغلب على حالة عدم الاستقرار، ليس داخل حكومته فحسب وإنما في منطقة مضطربة، ويؤوي آلاف اللاجئين من الحرب السورية، موضحًا أن تلك المساعدات تكتسي أهمية خاصة لإسهامها في دعم وتقوية الجيش اللبناني الذي اعتبره واحدا من أكثر مؤسسات ذلك البلد كفاءة في الوقت الحالي، بحسب الوكالة البريطانية.
وقد أفاد المسؤول بأن حجب الدعم عن لبنان قد يمهد الطريق لتدخل روسيا التي نجحت في توسيع نفوذها في سوريا منذ أعلن ترامب سحب قوات بلاده من الجزء الشمالي الشرقي من البلد، فيما تبحث بيروت مع المانحين الأجانب منذ أشهر مسألة المساعدات الخارجية.
مأزق الحكومة الجديدة
بات تشكيل الحكومة الجديدة بما يحقق التوازن في معادلة الشارع والسلطة معضلة كبيرة ربما تحتاج إلى وقت طويل لتحقيق التوازن في ظل حالة البون الشاسع الذي يعاني منه توجهات الطرفين، إذ دعا الرئيس اللبناني إلى تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط وذلك بعد استقالة الحريري التي وضعت الجميع في ورطة.
عون في خطابه الذي بثه التلفزيون الرسمي للدولة قال”يجب أن يتم اختيار الوزراء والوزيرات وفق كفاءاتهم وخبراتهم وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاء للزعامات؛ فلبنان على مفترق خطير خصوصا من الناحية الاقتصادية وهو بأمس الحاجة إلى حكومة منسجمة قادرة على الإنتاج لا تعرقلها الصراعات السياسية والمناكفات ومدعومة من شعبها“.
الرئيس دعا كذلك بجانب أنها حكومة تكنوقراط إلى إنهاء النظام السياسي الطائفي وتأسيس حكم مدني وهو مطلب أساسي للمحتجين الذين طالبوا أيضا بأن يحل تكنوقراط محل القيادات التي يتهمونها بالفساد، في ظل فقدان شبه كامل للثقة بين الغاضبين وكافة الأسماء المتواجدة الأن في السلطة.
من جهته، لفت رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع إلى أن “المطلوب خطة إنقاذية كبرى كناية عن حكومة مختلفة عن كل بقية الحكومات”، معتبراً أن “علينا الذهاب إلى حكومة تكنوقراط تعني شخصيات مستقلة بكل معنى الكلمة وهي موجودة، لكن لعل البعض يعترف بها”.
Back to his people ?#سعد_الحريري pic.twitter.com/hLWautfCV1
— Ohoud (@owkaay) November 1, 2019
فيما انقسم الخبراء فيما يتعلق بمستقبل الحريري في الحكومة الجديدة، حيث ذهب فريق إلى إمكانية توليه رئاسة الوزراء في الحكومة التي يتم التوافق عليها الآن بشرط أن تضم خبراء قادرين على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بسرعة لتجنب انهيار اقتصادي، فيما استبعد آخرون هذا الخيار بدعوى أنه كان سببًا رئيسيًا فيما وصلت إليه البلاد خلال الأشهر الماضية.
باستقالة الحريري والتغيرات التي شهدتها الخارطة السياسية للبلاد يمكن القول إن لبنان على مشارف مرحلة سياسية جديدة، إذ باتت البلاد في مأزق قد يستمر فترة طويلة
وفي السياق ذاته أشارت مصادر مطلعة في التيار الوطني الحر أن “كل الخيارات مفتوحة” في ما يتعلق بتسمية رئيس الحكومة المقبل، “ولم نبتّ أيّ اسم بعد”، لافتة إلى أنها “لم تتراجع عن قاعدة الميثاقية وتمثيل الأقوى في طائفته، ولكن، كما بذلنا جهداً قبل التسوية الرئاسية وعقدنا تفاهمات لتمهيد الطريق أمام الرئيس ميشال عون للوصول الى بعبدا، على من يرغب في البقاء في السرايا أن يسعى إلى عقد تفاهمات مماثلة”.
وفي الجانب الأخر علق نصر الله على استقالة الحريري بقوله إنه كانت هنالك وجهتا نظر: الاستقالة أو تعديل حكومي بسيط، مردفاً بأن “حزب الله” كان ضدّ الأمرين، معللّاً ذلك بأنهما “لن يحدثا صدمة إيجابية ولن يحققا المطالب الحقيقية التي خرج من أجلها الحراك، بل سيزيدان من حالة الإحباط والغضب في الشارع”.
نصر الله في كلمته أمس، انتقد وصف الحكومة الماضية بأنها “حكومة حزب الله”، قائلاً إن “الحزب لم يكن مؤثراً في هذه الحكومة ولا في الحكومات السابقة، ولم يحصل أعضاؤه على مناصب وزارية كبيرة”، معتبراً أن الإصرار على هذه التسمية “هو محاولة لاستعداء بعض الخارج عليها، ونية سيئة لمحاولة تحميل حزب الله أي فشل وقصور في السلطة”.
وفيما يتعلق بملامح الحكومة الجديدة المزمع تدشينها دعا إلى “التعاون في تقليل وتضييق مرحلة تصريف الأعمال، لأن استمرارها يعني الفراغ الذي كنا نحذر منه، ويعني عدم تطبيق المطالب التي خرج من أجلها الناس”، وتابع “أول ما أقترحه على الحكومة الجديدة هو أن تجمع المقاطع المصورة وتستمع للناس العاديين البسطاء الذين خرجوا إلى الشارع، بماذا طالبوا وماذا يريدون؟ وليس إلى السياسيين الذين ركبوا الموجة”، مشدداً على أن يكون الهدف الرئيس للحكومة الجديدة هو استعادة الثقة بين الشعب والسلطة.
وفي المجمل فإنه باستقالة الحريري والتغيرات التي شهدتها الخارطة السياسية للبلاد يمكن القول إن لبنان على مشارف مرحلة سياسية جديدة، إذ باتت البلاد في مأزق قد يستمر فترة طويلة، وسيكون له تبعات مالية واقتصادية، هذا في الوقت الذي تتصاعد فيه مخاوف نشوب صدام سياسي بين مختلف القوى والتيارات التي أسقط الحراك الكثير من أقنعتها.