عشنا خلال 14 عامًا منذ آذار/مارس 2011، أكثر من حياة وأكثر من عمر وأكثر من ثورة، ولم تمر تلك السنون مرور الكرام، لم تك سحابة صيف، بل طويلة وقاسية ومرهقة وكارثية، فقدنا فيها من نحب، وخسرنا مدننا وقرانا وبيوتنا وذكرياتنا، وعشنا تجارب مروّعة، واختبرنا مشاعر مفجعة، واستيأسنا، وابتُلينا، وزُلزلنا زلزالًا شديدًا.
لكن الله رتّب لنا خاتمة مذهلة، كمسحة نبيّ؛ شافية، أحلى من أمانينا، وأعظم مما أملنا.
تخيّل أحبّ سناريو إليك لنهاية الثورة السورية وما تبعها من حرب ومقتلة.. ماذا؟
- مقتل بشار الأسد برصاصة أحد حراسه؟
- انقلاب عسكري على بشار من أخيه ماهر أو من ضابط كبير؟
- تدخل عسكري دولي ينهي حكم آل الأسد؟
- موت فجائي جماعي لبشار وعائلته وحاشيته؟
- مفاوضات سياسية بين بشار والمعارضة تنهي الحرب؟
ما رتّبه الله للسوريين كان أعظم من كل ذلك، ولا يوجد ما هو أكرم من هذه النهاية المُشرّفة لإحدى أنبل الثورات في التاريخ.
نهاية النظام كاملًا بكل مؤسسات الإبادة التي طوّرها خلال خمسة عقود، تقوقع حثالاته على أنفسهم أو تكويعهم أو انسحابهم إلى الجبال بانتظار مصيرهم المحتوم، انقلاع جميع الاحتلالات التي استجلبها لإنعاشه من دول وميليشيات ومرتزقة.
ما أحلى هذا!
فتح لا ثأر فيه
ما نزال نتفكّر في معركة العدوان، كيف يدخل شبابنا مدنهم وقراهم بعزم الفاتحين ورحمة الأنبياء، لا يقتلون من عدوهم في تلك الملحمة إلا من تصلّب في إرادة قتالهم وتعنت، فقتل العشرات في معركة يمكن توقع موت الآلاف فيها.
معركة تكاد تكون بلا دماء، مدفوعة بالرحمة والعطف والإحسان، تتسابق فيها الدبابات مع فرق الصيانة وورش الخدمة ونشطاء العمل الإنساني، يقودها شباب البلد المهجرون الذين عادوا ليحضنوا أمهاتهم وزوجاتهم وأحبائهم في حاراتهم التي أُخرجوا منها.. تجنّبوا إراقة الدماء وصانوا الحرمات وطمأنوا الأهالي وحرصوا على ألا يغادر أحد منزله نازحًا.
أعطى الفاتحون الأمان لكل من ترك سلاحه، وأعدادهم بالآلاف، شاهدوهم على الطرقات ينسلّون من بدلاتهم المموهة فلم يلتفتوا إليهم.. حتى إن عناصر الميليشيات الشيعية الذين كانوا يتمركزون في محيط العاصمة دمشق سُمح لهم أن يعبروا البلاد إلى الحدود العراقية -بعد أن يتجردوا من أسلحتهم- ليخرجوا منها دون أن يُمَسّوا.
وحين وصل “الفاتح أبو محمد الجولاني” إلى دمشق، وصلها راجلًا بين شباب بلدنا، ساجدًا، متخليًا عن ألقابه “الفاتح” و”الجولاني”، ومتجردًا إلى اسمه الذي كان ينادى به في حي المزة الدمشقي فتى.
100 يوم وما تزال دموع الفرح تفيض من أرواحنا.. يا ربّ: لا تنزّع هذا الشعور من كياننا.
مثّل انتصار الثورة السورية المفاجئ، نصرًا جماعيًا لكثيرين، للسوريين مقيمين ومهجرين ونازحين ولاجئين، كان انتصارًا شخصيًا لكل واحد منّا، ولكثير ممن آمنوا بالشعب السوري ودعموه وآزروه خلال عمر الثورة وعاشوا معه مِحَنَه ومآسيه ولحظات وجعه وفرحه، ومتنفسًا لأزمات ومشاكل في الإقليم والعالم انطفأت بلحظة، وانفك الحبل عن أزمات المهاجرين واللاجئين، وهدأت استقطابات انتخابية في غير مكان.. وتحولت الخطابات العنصرية إلى لغة حب وتعاطف وعزّ.
فجأة، وجد العالم نفسه يتنفس الصعداء، أخيرًا سقط الأسد وأَبَدَه وشرّه المستطير، وسقطت معه كل الجوقة التي كانت تعيث قتلًا وفسادًا وتهديدًا في سوريا وتتسبب بأمواج من الاضطرابات في بلدنا وفي جوارها والإقليم والعالم، سقطت إيران وكل العصابات التي تتبع لها، سقط “حزب الله”، وانتهى النفوذ الروسي، فجأة، تحسنّت جودة الهواء في بلدنا الحبيب، وصار نقيًّا.
أصبحت سوريا ملكًا للسوريين.. فرح العالم كلّه، أحسّ المظلومون وأصحاب القضايا المحقة فيه بالجدوى والمعنى والأمل والبُشرى.
لم يكن ما مرّت به بلادنا من حرب خلال 14 عام محنة ومأساة عادية، بل ملحمة مفجعة هزت العالم مرات ومرات، أمسكت بتلابيبه ورجرجته يمينًا ويسارًا، ووضعت قيمه -أيًّا كانت خلفياتها ومرجعيتاتها- على المحك، بأكبر سيل من صور المذابح التي تنزع العقل وتخلع الضمير وتفجع القلب، وبطوفان من اللاجئين، وبأزمات إنسانية لا تحصى من كل لون.
وليس صحيحًا أن العالم وقف مكتوف الأيدي إزاء كل تلك المحن، بل أزعمُ أن ثورتنا واحدة من أكثر القضايا التي شغلت العالم وحظيت بدعمه واهتمامه على كل المستويات السياسية والدبلوماسية والإنسانية والإعلامية، ويكشف ذلك -إذا أضفنا له التدخل الدولي الهائل متعدد الأطراف في سوريا- أن بلدنا مهمة للعالم، جدًا، خلافًا لكل ما كان يُسوّق من هامشيتها لعدم وفرة النفط والثروات.
ومنذ الساعات الأولى لسقوط الأسد، ووصول السلطة الجديدة إلى دمشق، فتحت عاصمتنا ذراعها للعالم، واستقبلت الإدارة الجديدة أطيافًا من السوريين، ومن الوفود السياسية والدبلوماسية والشعبية، العربية والإقليمية والغربية، وصار قصر الشعب محجًا بكل ما للكلمة من معنى.
ولم يهدأ الرئيس أحمد الشرع ووزراء الحكومة الانتقالية، لا سيما وزير الخارجية أسعد الشيباني، عن استكشاف دروب الخلاص من الإرث الثقيل الذي خلفه نظام الأسد، فأجروا مئات الزيارات والمقابلات وحضروا القمم والمؤتمرات، واستقبلوا مئات الوفود.. وإذا ما تابع المرء المنصات التي تبث فيها الوزارات والمحافظات والمديريات نشاطاتها، فإنّه ليُذهَل من حجم السعي والعمل.. ولكنّ بلدنا في واقع لا يُرى معه أثر لأي عمل من شدّة ما وقع فيها من البؤس والخراب.
ما تحتاجه سوريا منا اليوم
أيًّا كان من يحكم سوريا اليوم بعد خلاصها، فهو في وضع لا يُحسد عليه، إنه أمام مسؤوليات جسام وتحديات قد يستحيل حصرها أو التعامل معها كلها معًا. وعندما يتعلق الأمر بالرئيس أحمد الشرع وفريقه، فالأمر يتضاعف بالنظر إلى ما يحيط بتاريخه وخلفيته، وما قد يعني ذلك بالنسبة للعالم الذي تحتاج سوريا إليه اليوم من أجل فك الخناق عنها.
نحن، كصحافة ومجتمع مدني وفاعلين مستقلين مؤثرين في دوائرهم ومهتمون بالشأن العام، أمامنا مهمة النقد والتصويب والنصح، هذا حقنا وهذا واجبنا، وهو يتطلب إحساسًا عاليًا بالمسؤولية، أن نكون معاول بناء لا هدم، ألا نكون مدفوعين بالغرور والتعالي وحب إظهار الذات على حساب بلدنا الذي ينهض من تحت الركام والأنقاض.
لقد أقرّت السلطة الجديدة إعلانا دستوريًّا مبشرًا بعصر يجرّم الأسدية ويهيئ لمسار عدالة انتقالية، ولا يتسامح مع منتهكي حقوق الإنسان وقاتلي الشعب السوري، وهذه الخطوة الأولى، الخطوة الثانية أن تتحق تلك العدالة، ولن تتحق بدون محاسبة، ومهمتنا كمجتمع مدني أن نتأكد من أن السلطة جادة في هذا المسار، وأن نواصل حثها على المضي فيه، لأن البديل عن ذلك موحش وشرير، ولأننا لن نتعافى ولن تتعافى بلدنا دون عدالة حقيقية منصفة.
ودورنا، كأبناء لثورة الكرامة، ألا نسمح أن تطوى صفحة هذه الثورة الكريمة العظيمة، دون أن تترسخ استحقاقاتها فيُنصف الضحايا ويعوضوا وتتحقق العدالة ويستعاد السلم الأهلي وتصفو النفوس وتتسامح، وتلتئم جراح بلدنا، ونتأكد من أن تلك المأساة لن تتكرر.
دورنا، ألا ننسى الشهداء، أن نذكر بقصصهم وحكاياتهم ومواقفهم وتضحياتهم، ألا تذهب دماؤهم هدرًا، ألا ينجو القتلة والمجرمون والشبيحة بفعلتهم، وأن نفضح ونعرّي كل من شارك بالمقتلة وحرّض عليها واحتفل بالكيماوي ورش الأرزّ على الأوغاد.
أن نغسل عار الشبيحة ومؤيديهم بمزيد من العار والوصمة، أن ننبذهم ونزدريهم وألا نتسامح مع التطبيع معهم أو إعادة تعويمهم في المجتمع، ألا نسمح أن يمشي في الشارع المغتصب وضحيته، فمكان المغتصب هو السجن وأقفاص من عار لا مفاتيح لها.
مهمتنا ألا نسمح أن تزر وازرة وزر أخرى، ألاّ نقبل أن يُعتدى على الأبرياء بجريرة المجرمين من نفس المكوّن أو الطائفة أو البيئة، لمجرد ذلك، هذا ظلم!
واجبنا ألا تكون خلافاتنا المحتملة مع السلطة الجديدة وسواس عصابي يستدعي مطالبتها بالرحيل وقذفها بأوصاف الفشل مع كل خطأ وهفوة وتجاوز، كما لو أنه سيحل محلها في اليوم التالي نبي الله سليمان وجنده. إنّ ما نريده من السلطة أن تشاركنا وألا تحتكر السلطة وتستبد بها، وأن تتفاعل مع النقد الموجه لها وتقيّم كل اعوجاج.
ألا يعترينا الإحباط وألا يكسرنا اليأس، ألا نسمح بهزيمتنا اليوم بعد أن انتصرت ثورتنا.
تحتاج سوريا اليوم لكل يد وكل عون وكل استثمار، من الدول والهيئات والمنظمات، لكنها أولها تحتاج إلينا معشر أبنائها، شعبها العصاميّ النبيل المحبّ، الذي لن يخذلها ولن يتخلى عنها.