في الوقت الذي تحاول فيه مختلف القوى السياسية السودانية حتى الموقعة منها على إعلان الحرية والتغيير التقرب من الشق العسكري في المجلس السيادي الانتقالي وبالتحديد من العضو الأكثر نفوذًا محمد حمدان دقلو “حميدتي”، فإن الحزب الشيوعي السوداني “أبرز الأحزاب الموقعة على إعلان التغيير” آثر على نفسه عدم التقرب نهائيًا من المؤسسة العسكرية ومن قائد الدعم السريع، ليس هذا فحسب بل إن الشيوعي دأب على توجيه الانتقادات الحادة لشركائه بدعوى خرقهم لقيم ومبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول التي أطاحت بنظام البشير.
ومعروف أن الحزب الذي قرر من قبل عدم المشاركة في الحكومة الانتقالية على مستوى السلطة التنفيذية المركزية وحكومات الولايات، أعلن رفضه من البداية للاتفاق الدستوري مع المجلس العسكري المحلول، معتبرًا أنه كرّس لهيمنة العسكر بوجود 5 منهم في مجلس السيادة، واستحواذهم على منصب الرئيس طيلة الـ21 شهرًا الأولى للفترة الانتقالية، وتعيين وزيري الدفاع والداخلية منهم، وتبعية القوات المسلحة للقائد العام “رئيس المجلس السيادي”.
هجوم جديد من الشيوعي على شركائه والسعودية والإمارات
مساء الجمعة الماضية فَتَح محمد مختار الخطيب الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني النار من جديد، إذ اتهم بشكلٍ علنيٍّ رفاقه في قوى الحرية والتغيير بالتواصل مع المخابرات الدولية والعمل على حرف مسار الثورة وعقد صفقات دون علم الآخرين، موضحًا أن قيادات بارزة “لم يسمها” عملت مع سفراء دول لحرف الثورة عن مسارها وتحقيق الهبوط الناعم. حسب وصفه.
الخطيب الذي كان يتحدث في ندوةٍ بميدان الأهلية بأم درمان، هاجم بصورةٍ لاذعةٍ موقف الإمارات والسعودية من الثورة السودانية قائلًا: “شعارات ديسمبر أرعبت دولًا، لذلك اتجهت للتآمر على الانتفاضة لأنها أرعبتهم بإمكانية انتقال عدوى الثورة السودانية إلى شعوبهم فيفقدون السيطرة عليها”، وتابع بقوله: “لذلك يحاولون أن يحركوا الانتفاضة من مسار التغيير الجذري للهبوط الناعم للنظام السابق، وتدخلت الإمارات والسعودية مبكرًا في أول أيام الانتفاضة، وهما أساسًا حلفاء وأصدقاء للنظام البائد (عمر البشير)”.
تحالف نداء السودان.. لقاءات مكثفة مع محور الثورات المضادة
من الواضح أن سكرتير الحزب الشيوعي السوداني كان يقصد باتهاماته ائتلاف نداء السودان، وأولهم حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، حيث كانت مصادر صحيفة “القدس العربي” قد أكّدت في مايو/أيار الماضي أن القيادية في الحزب مريم الصادق المهدي زارت العاصمة الإماراتية سرًا، وأشارت الصحيفة إلى أن المهدي حضرت إلى أبو ظبي بصحبة قيادات الحركة الشعبية مالك عقار وياسر عرمان، والحركة الشعبية أيضًا منضوية تحت لواء نداء السودان، حيث ذكرت الصحيفة أن مريم المهدي اجتمعت مع محمد دحلان في اجتماع خاص ثم التقت بعد ذلك بالشيخ منصور بن زايد وأن اللقاء مع دحلان كان لقاءً على انفراد.
سُجّلت عدة لقاءات واجتماعات داخل السودان بين عدد من مكونات إعلان الحرية والتغيير وسفيري السعودية والإمارات في الخرطوم
وكشفت مصادر الصحيفة في تلك الفترة وصول قيادات سياسية سودانية لأبو ظبي بدعوة من الأخيرة، من بينها مريم الصادق المهدي، في زيارة سرية ضمن الأجندة الإماراتية، لترتيب الوضع في السودان.
تردد آنذاك على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أن كريمة المهدي التي تشغل منصب نائب رئيس الحزب تلقّت دعمًا ماليًا سخيًا لصالح حزبها من أبو ظبي، لكنها نفت ذلك مبررةً أن زيارتها غير المعلنة كان هدفها “توجيه الشُكر للسلطات الإماراتية على وقوفها وتعاونها معهم واستجابتهم لاستضافة الإمام الصادق المهدي والدها “رئيس حزب الأمة”. حسب تعبيرها.
وإلى جانب حزب الأمة كانت هناك زيارة لأحد مكونات ائتلاف نداء السودان، وهو الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني خالد عمر يوسف للعاصمة الإماراتية في طريق عودته من بريطانيا للخرطوم، التي وصلها في 18 من أبريل/نيسان الماضي.
كذلك، سُجّلت عدة لقاءات واجتماعات داخل السودان بين عدد من مكونات إعلان الحرية والتغيير وسفيري السعودية والإمارات في الخرطوم، حيث قام الأخيران بزيارة مشتركة إلى الصادق المهدي رئيس حزب الأمة في منزله بمدينة أمدرمان منتصف مايو/أيار الماضي.
السفير السعودي علي بن حسن جعفر وسفير الإمارات حمد الجنيبي يزوران الصادق المهدي في منزله
نتائج اللقاءات مع معسكر الثورات المضادة.. مهادنة مع العسكر ودعم لحميدتي
التواصل المكثّف لدولتي الثورات المضادة مع عدد من قيادات قوى الحرية والتغيير أثمر عن مهادنة عدد من أحزاب الحرية والتغيير للشق العسكري، كما أخذ هؤلاء يكيلون المدح لقائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو الذي ينظر إليه السودانيون على أنه المخطط والمدبر الذي أعطى الأوامر لمليشياته التي تورطت في مجزرة القيادة العامة بكل ما فيها من أهوال.. قتل واغتصاب وتعذيب لم يتصوره إنسان.
فضلًا عن أن الثوار لا يرون في حميدتي ولا البرهان رئيس المجلس العسكري إلا مجرد انقلابيين كانوا جزءًا لا يتجزأ من نظام البشير، وينتظرون الفرصة الملائمة للانقضاض على السلطة كاملة، وتنفيذ مخططات دول محور الشر السعودي الإماراتي بعدما رضخوا مؤقتًا للأمر الواقع وقبلوا بتقديم تنازلات لقوى الحرية والتغيير في الاتفاق الدستوري الذي تمّ توقيعه في الـ17 من أغسطس/آب الماضي، فقد جاءت #مليونية 30 يونيو قاصمةً لظهورهم، إذ كان رئيس المجلس العسكري المحلول عبد الفتاح البرهان قد أعلن غداة يوم المجزرة بأنه تم إلغاء جميع الاتفاقات مع قوى الحرية والتغيير، وأن المجلس العسكري سيشكل حكومة بمفرده اعتقادًا منه ومن باقي العسكريين بأنهم كسروا إرادة الثوار بارتكابهم لمجزرة 29 من رمضان وقطعهم لخدمة الإنترنت، لكنّ الأعداد المهولة التي خرجت في ذلك اليوم زلزت العسكر وداعميهم من دول الثورات المضادة ودفعت البرهان وحميدتي إلى التنازل والقبول بالتسوية التي أفضت إلى الاتفاق المشار إليه.
لُوحظ كذلك التطبيع الواضح من الأعضاء المدنيين في مجلس السيادة مع حميدتي الذي هو في نظر الثوار المتهم الرئيس في مجزرة القيادة إلى جانب باقي أعضاء المجلس العسكري، فهناك 3 من مدنيي السيادي شاركوا في تدشين قافلة صحية لقوات الدعم السريع
رئيس حزب الأمة الصادق المهدي كان من أبرز الذين أشادوا بقائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو بعد لقاءاته بسفراء الإمارات والسعودية، وزيارة ابنته مريم لأبو ظبي، رغم أن المهدي لا يخفى عليه تورط قوات حميدتي في مجزرة القيادة العامة وكذلك يعلم طموحاته في اعتلاء كرسي الرئاسة رغم أن الاتفاق الدستوري لا يسمح له بالترشح للانتخابات القادمة بعد نهاية الفترة الانتقالية.
ولُوحظ كذلك التطبيع الواضح من الأعضاء المدنيين في مجلس السيادة مع حميدتي الذي هو في نظر الثوار المتهم الرئيس في مجزرة القيادة إلى جانب باقي أعضاء المجلس العسكري، فهناك 3 من مدنيي السيادي شاركوا في تدشين قافلة صحية لقوات الدعم السريع، وهو الأمر الذي تلقّاه الشارع السوداني بهجومٍ كبيرٍ عليهم، باعتبار أن أعضاء السيادي المدنيين يشاركون في حملة إعلامية لغسل سمعة المليشيا، واللافت أنه للمرة الأولى يصدر تجمع المهنيين السودانيين بيانًا ينتقد فيه عضوية المجلس السيادي المدنيين، حيث قال التجمع في بيانه: “التعامل مع الكوارث الصحية يقع ضمن الاختصاص المباشر لوزارة الصحة الاتحادية ووزارات الولايات المعنية، ويجب أن توضع كل موارد الدولة لمجابهة هذه الكوارث تحت تصرف وزارة الصحة بالأساس”.
بالعودة إلى هجوم الحزب الشيوعي السوداني على السعودية والإمارات نجد أن أبو ظبي لم تتأخر في الرد، فقد غرّد وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش معتبرًا أن “كلمة السكرتير العام الحزب الشيوعي السوداني وتناوله السلبي للدور الإماراتي والسعودي في دعم الاستقرار والانتقال السلمي في السودان مؤسف، ولعلها انطلقت من مفاهيم أيديولوجية قديمة مرتبطة بحزبه”، وتابع قائلًا: “علاقاتنا بالخرطوم تاريخية والدور العربي في دعم السودان في ظروفه الحاليّة ضروري”. حسب وصفه.
كلمة أمين عام الحزب الشيوعي السوداني وتناوله السلبي للدور الإماراتي والسعودي في دعم الاستقرار والانتقال السلمي في السودان مؤسف ولعلها انطلقت من مفاهيم ايديولوجية قديمة مرتبطة بحزبه.
علاقتنا بالخرطوم تاريخية والدور العربي في دعم السودان في ظروفه الحالية ضروري
— د. أنور قرقاش (@AnwarGargash) November 2, 2019
نشير إلى أن موقف الحزب الشيوعي من الإمارات والسعودية ليس جديدًا، فمن أول يوم حذّر من تدخلاتهم ودعمهم من اللحظات الأولى للمجلس العسكري المحلول، ثم محاولة الالتفاف على مطالب الثوار، فضلًا عن الاتهامات الموجهة إليهم بإعطاء الأوامر للبرهان وحميدتي بفض الاعتصام الذي نتجت عنه المجزرة، إذ إن الفض لم يتم إلا بعد زيارات قام بها قيادَيّ العسكري للرياض وأبو ظبي مباشرة.
موقف الشيوعي يرد على تيارات الإسلام السياسي
نتذكر هنا أن الحزب الشيوعي يتعرّض إلى محاولة تشويه تقوم بها كوادر النظام البائد، والقوى السودانية المحسوبة على تيار الإسلام السياسي، كان هؤلاء يزعمون أن الشيوعي لديه علاقات مع محور الثورات المضادة “السعودية والإمارات”، للتآمر على الإسلاميين على حد وصفهم، رغم أن النظام البشير كان الحليف الأقوى لأبو ظبي والرياض وشريكًا لهما في حرب اليمن العبثية، لكنّ الأيام أثبتت نزاهة موقف الحزب الشيوعي، وبالمقابل كشفت انتهازية الإسلاميين الذين لم يجدوا حرجًا في الإشادة بالبرهان وحميدتي رغم علمهم التام بأنهم “حصان طروادة” لدول الثورات المضادة، وآخر المشيدين بالعسكر هو رئيس المؤتمر الوطني المكلف إبراهيم غندور الذي تملّقهم بأنه يقترح رئيسًا عسكريًا للسودان.
في الوقت الذي تسعى فيه معظم القوى السياسية للتقرب من العساكر ومن دول الثورات المضادة من أجل مصالحها الضيّقة لا يتردد الشيوعي في إرسال الرسائل التحذيرية للداخل والخارج حفاظًا على الثورة ومكتسباتها
وللتعليق على خلفيات وأسباب تصريحات السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني تحدّث لـ”نون بوست” الصحفي المهتم بملف الثورة السودانية، حاتم درديري، الذي رأى أن تصريحات الخطيب بمثابة رسالة واضحة متجددة لحلفائه في نداء السودان وحتى لرئيس الوزراء حمدوك، مفادها أنه لا مجال للتلاعب بقيم الثورة، وأن الشعب السوداني لن يقبل بالهبوط الناعم، ولا بالتبعية للقوى الأجنبية.
درديري أضاف “أبو ظبي لم تكتفِ بالرهان على العسكريين فقط بعدما رأت تصميم وعزيمة الشعب السوداني، فسَعَت لصناعة حليف آخر مدني هو قوى نداء السودان، مشيرًا إلى أن الشعب السوداني رأى عداءً سافرًا من المحور الإماراتي السعودي تجاه الثورة أسقط الحجج السابقة للمحور لأنه برر الوقوف ضد الرئيس المصري المعزول مرسي كونه منتميًا لجماعة الإخوان، ويوضح حاتم درديري أن الثورة السودانية أسقطت نظامًا محسوبًا على الإخوان ورغم ذلك وقفت الإمارات ضد هذه الثورة.
تصريحات الخطيب أوجعت الإمارات
يرى درديري أن رد قرقاش السريع على تصريحات سكرتير الحزب الشيوعي يؤكد أن التصريح كان موجعًا للقيادة الإماراتية، ويختتم محدثنا إفاداته بأن السودان لن يكون ساحةً للتنافس أو مرتهنًا للخارج، لكنه في الوقت ذاته يدعو قوى الثورة لأن تكون حذرة من إمكانية اندلاع ثورة مضادة في أي وقت من المكون العسكري أو المحور المناهض للديمقراطية.
أخيرًا، الحزب الشيوعي كل يوم يُثبت أنه حزب لا يبيع مواقفه ولا تتبدل أمام إغراءات السلطة ولا أموال الخارج اختلفنا أو اتفقنا معه، ففي الوقت الذي تسعى فيه معظم القوى السياسية للتقرب من العساكر ومن دول الثورات المضادة من أجل مصالحها الضيّقة لا يتردد الشيوعي في إرسال الرسائل التحذيرية للداخل والخارج حفاظًا على الثورة ومكتسباتها، إذ يبقى ممسكًا بقلم التصحيح يراقب تطورات الساحة السياسية، كما أنه لا يستبعد إمكانية اندلاع ثورة جديدة تُصحح مسار ثورة ديسمبر/كانون الأول إذا لم تحقق تطلعات الشعب السوداني.