تعاني سوريا من أزمة كهرباء مزمنة استمرت نحو 14 عامًا، ولا تزال مستمرة حتى اليوم، بعجز كهربائي بلغ 80% من احتياجاتها الفعلية.
ولا شك أن الكهرباء التي تعد عصب الاقتصاد، ومن أساسيات البنى التحتية، تنتظر الحلول الإسعافية، كون بقاء هذه الأزمة يعني أن الاقتصاد السوري سيبقى مشلولًا، والخدمات ستواجه تدهورًا متزايدًا، وخاصة إذا ما علمنا أن المنظومة الكهربائية متهالكة ومدمرة، وهو تحدٍ بالغ الأهمية أمام الحكومة السورية لإعادة النور لحياة السوريين الذين عايشوا العتمة لساعات طويلة ولسنوات عديدة.
قصة بداية الكهرباء في سوريا
عرفت سوريا الكهرباء عام 1903، وذلك عبر شركة عثمانية تسمى (شركة الجر والتنوير الكهربائي لمدينة دمشق)، ومن ثم تبعتها شركة كهرباء اللاذقية التي أُحدثت عام 1922 بتمويل فرنسي، ثم أخذت الكهرباء طريقها إلى حلب عبر شركة كهرباء حلب، حيث جرى منح الامتياز في عام 1924 وفق اتفاق بين بلدية حلب والمصرف العقاري التونسي الجزائري، وما بين 1936 – 1950 تم إحداث 18 شركة وطنية مساهمة للكهرباء، وبحلول عام 1951 تم تأميم شركات الكهرباء الأجنبية، وفي عام 1965 تم إحداث المؤسسة العامة للكهرباء، ثم عام 1974 أحدثت وزارة الكهرباء بموجب المرسوم التشريعي رقم /94/ لعام 1974.
عام 1990 كانت سوريا مكتفية كهربائيًا، وذلك لعدم وجود استهلاك كبير آنذاك، حيث كان إنتاج سوريا حينها (11.611 مليار كيلو واط ساعي/11611 جيغا واط ساعي)، وفي عام 1994 تم إحداث مؤسستين هما المؤسسة العامة لتوليد ونقل الطاقة الكهربائية والمؤسسة العامة لتوزيع واستثمار الطاقة الكهربائية، إضافةً لشركات التوليد والتوزيع التابعة لهما، وفي عام 1993، ارتفع توليد الكهرباء إلى (12.638 مليار كيلو واط ساعي/12638 جيغا واط).
ذروة الإنتاج والبدء بالتصدير
في عام 2000 بلغ إنتاج سوريا من الكهرباء نحو (25.217 مليار كيلو واط ساعي/ 25217 جيغا واط)، وفي عام 2005 أخذت سوريا بتصدير الكهرباء إلى دول الجوار، رغم زيادة الطلب على الكهرباء والتي بلغت سنويًا 10%، وهي تعد من أكبر النسب عالميًا، بسبب الفاقد الكهربائي والكفاءة المتدنية لاستخدام الطاقة الكهربائية إضافة إلى الهدر، ورغم ذلك قامت سوريا بتصدير الكهرباء إلى العراق بحدود 60 ميجاواط في الساعة، وإلى لبنان باستطاعة تصل إلى ما يقارب 110 ميجا واط في الساعة، وإلى الأردن باستطاعة تصل في وقت الذروة إلى 200 ميجا واط.
وقبل بداية الثورة السورية، وتحديدًا عام 2011 بلغت سوريا ذروة إنتاج الكهرباء، وذلك بحسب بيانات (الوكالة الدولية للطاقة وبيانات وزارة الكهرباء الرسمية) حيث بلغ الإنتاج (49.253 مليار كيلو واط ساعي)، ولم يكن التقنين (ترشيد الكهرباء) يحدث في سوريا إلا في أوقات الذروة ولساعات محدودة، وكانت الشبكة الكهربائية تصل إلى 99% من الأراضي السورية، واستطاعت سوريا توليد ما يقدر بحدود 9000 ميغاواط، عبر 13 محطة كهربائية، ولكن أهمها 6 محطات تعد المحور الرئيس في توليد وتوزيع الكهرباء على شتى أنحاء سوريا، وهي:
1ـ محطة دير علي الحرارية الواقعة جنوب دمشق، بقدرة إنتاج تبلغ 1500 ميغاواط.
2ـ محطة توليد جندر، نقع جنوب محافظة حمص، وتبلغ استطاعتها الإجمالية 1290 ميغاواط.
3ـ محطة حلب الحرارية، بطاقة إجمالية 1100 ميغاواط.
4ـ سدّ الطبقة، ويعتبر أحد أهم مشروعات الطاقة الكهرومائية في سوريا، وتبلغ قدرته الإجمالية 880 ميغاواط.
5ـ محطة بانياس، باستطاعة إجمالية 680 ميغاواط.
6ـ محطة الزارة، باستطاعة إجمالية قدرها 660 ميغاواط.
العودة إلى الوراء 30 عامًا
مع بداية الثورة السورية، تعرضت محطات التوليد بالإضافة إلى شبكة التوزيع إلى أضرار جسيمة، وبدأت مؤشرات إنتاج الكهرباء تنخفض، وتزامن ذلك مع توسع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا عام 2011، والتي شملت التعاملات التجارية لقطاع الطاقة والنفط، فلم يستطع النظام السوري آنذاك باستيراد أي قطع تبديل لصيانة محطات الكهرباء، ما زاد من تهالك محطات التوليد وقدمها وارتفاع فاقد الإنتاج لديها، وتراجع إنتاج الكهرباء من 18.7 مليار كيلوواط ساعي في 2015 إلى 17.6 مليار كيلوواط ساعي في 2016، ثم ارتفع منذئذ إلى 20.3 مليار كيلوواط ساعي في 2017، و27.8 مليار كيلوواط ساعي في 2019.
ويمكن القول إن تراجع إنتاج الكهرباء بلغ ذروته عام 2016، حيث بلغ الإنتاج (17.600 مليار كيلو واط ساعي)، وبلغت خسائر قطاع الكهرباء خلال عام 2020 نحو 6 آلاف مليار ليرة، وبعد أن كانت سوريا تصدر الكهرباء، أصبحت تستوردها من تركيا والأردن، إلا أن هذا الاستيراد توقف في عام 2021.
وخلال السنوات اللاحقة حتى نهاية عام 2022، مرّ إنتاج الكهرباء بحالة عدم استقرار بين ارتفاع وانخفاض، فبعد أن وصل إلى (26.001 مليار كليو واط ساعي) في عام 2019، عاد لينخفض إلى (18.216 مليار كيلو واط ساعي) نهاية عام 2022، بحسب بيانات خاصة من وزارة الكهرباء في حكومة النظام آنذاك.
وفي عام 2023 بلغ إنتاج وزارة الكهرباء لوحدها نحو (12.9 مليار كيلو واط ساعي/ 12900 جيغا واط)، وهذا يعني أن إنتاج الكهرباء في عام 2023 تراجع بنسبة، 29% مقارنة بإنتاج 2022، وتراجع بنسبة 74% مقارنة بإنتاج عام 2011، أمّا بالمقارنة بالفترة الأبعد، نجد أنّ مستوى إنتاج البلاد عام 2023 عاد إلى إنتاج لما قبل عام 2011، وكان ملامسًا تقريبًا لما كانت تُنتجه البلاد عام 1993، أي تراجع إنتاج الكهرباء إلى ماكن عليه قبل 30 عامًا.
الخسائر المباشرة وغير المباشرة
الخسائر التي لحقت بقطاع الكهرباء لم تقف عنده فقط، بل امتدت لتشمل معظم مفاصل الحياة المعيشية للمواطن السوري، وأيضًا القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية، أي أن هناك خسائر مباشرة وأخرى غير مباشرة تكبدها الاقتصاد السوري نتيجة لانهيار قطاع الكهرباء.
إذ قدرت وزارة الكهرباء في حكومة النظام آنذاك، الخسائر التي تكبدها قطاع الكهرباء منذ بداية الحرب بنحو 2,4 مليار دولار أميركي من حيث القدرة الإنتاجية وتكاليف إعادة إعمار خطوط التغذية، في حين سجلت الأضرار المباشرة لقطاع الكهرباء مع حلول عام 2024 نحو 40 مليار دولار.
أما الأضرار غير المباشرة فقدرت بنحو 80 مليار دولار.
ومن المعروف اقتصاديًا، أن تراجع إنتاج الكهرباء سيؤدي إلى تراجع في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتكبد خسائر اقتصادية نتيجة فوات الإنتاج وزيادة التكاليف وضعف المنافسة، وقدرت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن التقنين الكهرباء والذي بلغ نحو 22 ساعة يوميًا في الكثير من المناطق السورية، بنحو 30 مليار دولار خلال عامين فقط، وهما عام 2020 و2021.
ولم تتوقف الخسائر هنا فقط، بل ونتيجة التقنين الجائر الذي عانت منه معظم المحافظات السورية، فقد زادت وتيرة التعدي على الشبكة الكهربائية وسرقة مكوناتها، فبلغت الخسائر وفق تقديرات وزارة الكهرباء خلال 9 أشهر من العام الماضي 2024 بنحو 74 مليار ليرة، مع غياب إحصائية دقيقة عن خسائر التعدي على الشبكة خلال السنوات الماضية.
التوجه لمصادر الطاقة المتجددة
الحكومة السورية زمن نظام الأسد، سعت لتجميل الواقع البشع للكهرباء، عبر إطلاق مشاريع لإنتاج الطاقة الشمسية، فمنحت إجازات استثمار لـ17 مشروعًا للطاقة المتجددة منذ صدور قانون الاستثمار رقم /18/ لعام 2021، وحتى نهاية العام الماضي بتكلفة تقديرية بلغت /1297/ مليار ليرة، وباستطاعة /300/ ميغاواط، في حين لم يدخل إلا 5 مشاريع مرحلة الإنتاج الفعلي و7 مشاريع أخرى في طور التجهيز، بحسب ما ذكرته هيئة الاستثمار السورية.
في حين ذكر مركز بحوث الطاقة في وزارة الكهرباء، أن المشاريع الكهروضوئية المرخصة بموجب أحكام قانون الكهرباء رقم /32/ لعام 2010 وتعديلاته والتي تم تنفيذها بلغ عددها نحو /150/ مشروعًا باستطاعة إجمالية تصل إلى /130/ ميغاواط، في حين أن المشاريع الريحية المنفذة تقتصر على العنفتين الريحيتين المركبتين على طريق حمص طرطوس باستطاعة /5/ ميغاواط فقط.
ومن خلال هذه الأرقام نجد أن سوريا في مجال الطاقات المتجددة لا تزال تحبوا، وهي في الخطوة رقم صفر لسد حاجتها الطاقوية عبر الطاقة المتجددة، فحاجة سوريا 6500 ميغا واط، والمشاريع المنفذة لم تقدم إلا 130 ميغا واط.
المواطن ومكافحة العتمة
أزمة الكهرباء انعكست بشكل سلبي جدًا على حياة المواطن السوري، فرغم ندرة الكهرباء، رفعت حكومة النظام أسعار الكهرباء على المواطن وعلى الفعاليات الاقتصادية، وتعالت أصوات الصناعيين سابقًا وحاليًا لتخفيض تعرفة الكهرباء الصناعية كونها أعلى من الأسعار العالمية.
أما المواطن السوري فبدأ بمكافحة العتمة عبر أساليب عديدة، بدأت بالشموع ثم الشواحن، فالليدات التي تعمل على كهرباء مقاسم الهاتف، ثم تطور الأمر لشراء بطارية وليدات، ثم الأمبيرات، فمنظومات الطاقة الشمسية، التي أصبحت التجارة الأكثر رواجًا في سوريا.
وطبعًا لم يكن بمقدر معظم المواطنين استخدم مولدات الكهرباء، أو الاشتراك بالأمبيرات، كونها مكلفة للغاية، وانسحب ذلك أيضًا على تكلفة تركيب منظومات الطاقة الشمسية التي اقتصرت على المقتدرين ماديًا، ليبقى المواطن السوري منذ سنوات طويلة وحتى الآن يقود معركته في مواجهة الظلام الحالك، ويتكبد خسائر هائلة في شراء البطاريات وألواح الطاقة الشمسية.
حيث قدرت استطاعة المنظومات الكهروضوئية المستقلة عن الشبكة العامة، التي تم تركيبها من المواطنين في إطار سعيهم لتأمين التغذية الكهربائية خلال ساعات تقنين الكهرباء، بـ/1500/ ميغاواط، مع الإشارة إلى أن أقل منظومة طاقة شمسية منزلية باستطاعة 3 آلاف شمعة، تكلف نحو 30 مليون ليرة، كون الحكومة في النظام السابق كانت قد فرضت ضميمة عالية جدًا على استيراد ألواح الطاقة الشمسية، تقدر بـ 25 دولارًا على كل لوح بحجة حماية المنتج المحلي، ما جعل سعر لوح الطاقة الشمسية في سوريا هو الأعلى عالميًا، وهذا شكل عبئًا إضافيًا على المواطن وحتى المصانع في سوريا في الحصول على الكهرباء.
بداية الأمل في الحصول على النور
مع نهاية حقبة نظام الأسد، تواجه الحكومة السورية الحالية، أزمة مركبة ومزمنة في العثور على حلول إسعافية لتزويد سوريا بالكهرباء، ولكن المؤشرات في التعافي تحسنت وخاصة بعد تعليق الاتحاد الأوروبي للعقوبات المفروضة على قطاعات الطاقة والمصارف والنقل، كما رفعت بريطانيا العقوبات عن 24 كيانا سوريا، وألغت تجميد أصول البنك المركزي السوري، وسمحت كندا بوصول الأموال إلى البنوك السورية، بالإضافة إلى إعلان كل من قطر وتركيا عن عزمهم بتزويد سوريا بالكهرباء عبر بواخر مخصصة لهذا الغرض.
ولكن يبقى العائق مستمرًا وذلك لوجود العقوبات الامريكية، التي لا تزال الدولة السورية والعديد من الجهات الدولية، تطالب برفعها بشكل كامل كونها تعيق المساعدات المالية والاستثمارات الخارجية، وتحسين الاقتصاد السوري، بالإضافة لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء.
حاليًا لا يزال الواقع الكهربائي متردٍ، ولكنه أفضل عما كان عليه سابقًا، حيث ذكر وزير الكهرباء في حكومة تصريف الأعمال، عمر شقروق، أن القدرة الإنتاجية لمحطات التوليد الحالية تبلغ 4000 ميغا واط، ذلك حال توفّر الوقود اللازم لتشغيلها، بينما الاستطاعة المولّدة حاليًا هي بحدود 1300 ميغا واط، في حين أن حاجة البلاد تقدر بـ 6500 ميغا واط.
المدير العام لمؤسسة النقل والتوزيع في وزارة الكهرباء السورية، قال في تصريح له مؤخرًا، أن الوزارة وضعت خطط رفع القدرة الإنتاجية إلى 4000 ميغاواط على المدى القصير من خلال إعادة تأهيل المحطات المتضررة، وتحسين توزيع الكهرباء وتقليل ساعات التقنين، خصوصًا في المناطق الحيوية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع الدول العربية والدولية لتوفير الدعم المالي والتقني اللازم للنهوض بالقطاع.، كما تسعى الوزارة إلى توفير الكهرباء على مدار 24 ساعة مستقبلًا، مع الحاجة إلى استثمارات تُقدر بـ40 مليار دولار لإعادة بناء القطاع بالكامل
كما أشار إلى أن مؤسسة نقل وتوزيع الطاقة الكهربائية تعمل حاليًا على تجهيز خطوط النقل الرئيسية وتهيئة طرق ربطها بالشبكة الكهربائية، لضمان الجاهزية عند تنفيذ أي حلول محتملة، لافتًا إلى أن خط الربط الرئيسي مع تركيا بحاجة إلى إعادة تأهيل ومدة تصل إلى 6 أشهر، ویحتاج إلی توفر المواد اللازمة من أجل إعادة التأهيل.
ومع إعلان الاتفاق بين دمشق وقسد، وقد نصّ على “دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز”، حظي السوريون بجرعة تفاؤل كبيرة، على أمل عودة آبار النفط والغاز، وتحسن الكهرباء.
وقال المدير العام لمؤسسة النقل والتوزيع في وزارة الكهرباء المهندس خالد أبودي في تصريح له، إن استئناف “قسد” إرسال النفط والغاز إلى الحكومة السورية يسهم في تحسين القطاع الكهربائي، ويمكن استخدامه في تشغيل محطات التوليد الغازية، مضيفًا: إن تأثير هذه الخطوة يعتمد على حجم الكميات المرسلة ومدى انتظام الإمدادات، كما أكد أن الاعتماد على النفط المحلي بدلًا من استيراده عبر وسطاء يقلل من التكاليف المالية المرتبطة بتأمين الوقود.
لتأتي الجرعة الثانية من التفاؤل عبر إعلان دولة قطر عن مبادرتها الإنسانية المقدمة من صندوق قطر للتنمية، لتزويد سوريا بالغاز الطبيعي، للمساهمة في توليد طاقة كهربائية بدءأ من 400 ميغا واط ورفعها تدريجيًا، وفعلًا بدأ المواطن السوري يشعر بالتحسن التدريجي للكهرباء، حيث زادت معدلات التوليد إلى نحو 6 ساعات يوميًا في الأرياف بعد أن كانت ساعتين يوميًا فقط.