في العاشر من مارس الجاري، شهدت الساحة السورية توقيع اتفاق بين الرئاسة السورية، ممثلة بالرئيس أحمد الشرع، وقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بقيادة مظلوم عبدي، يقضي بدمج مؤسسات الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ضمن إطار الدولة السورية.
وُصف هذا الاتفاق بأنه حدث تاريخي، وحدد ثمانية بنود رئيسية تمثل خارطة طريق لدمج المؤسسات العسكرية والمدنية التابعة لـ”قسد” ضمن مؤسسات الدولة.
وتبعًا للاتفاق، تم تشكيل لجنة مشتركة من الجانبين للإشراف على تنفيذ عملية الاندماج، والتي من المقرر أن تُستكمل بحلول نهاية عام 2025، وهي المهلة التي حددها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تمهيداً لانسحاب كامل أو إعادة انتشار في سوريا مع تقليص نفوذ، مع التركيز على ملف السجون والمخيمات التي تضم عناصر وعائلات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، والتي كانت “قسد” تديرها منذ عام 2019 بدعم من التحالف.
وفي هذا السياق، أعلنت الرئاسة السورية عن تشكيل لجنة للإشراف على تنفيذ الاتفاق، برئاسة حسين السلامة، المحافظ السابق لدير الزور، والتي من المقرر أن تعقد اجتماعًا اليوم، 19 مارس، في الحسكة مع قائد “قسد” مظلوم عبدي.
ومن المتوقع أن تُنبثق عن هذا اللقاء لجان متخصصة لبحث الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والصحية، بهدف تسهيل عملية الاندماج.
لا تغيرات على الأرض
حتى الآن، لا يزال الاتفاق السابق وتشكيل اللجان مجرد بنود مدونة على الورق، دون أي انعكاس فعلي على الأرض، حيث لا تزال المنطقة تشهد عمليات قصف وتصاعد حملة اعتقالات تعسفية تنفذها “قسد”، مما يعكس فجوة واضحة بين ما تم الاتفاق عليه وما يجري على أرض الواقع.
من ضمن بنود الاتفاق بين الشرع وعبدي كان وقف شامل لإطلاق النار في جبهات سد تشرين وجسر قره قوزاق، وهو مالم يحدث للآن، فما زالت المناوشات جارية بين الجيش الوطني و”قسد”.
كما تواصلت عمليات القصف التركية ضد مواقع “قسد” فبعد دقائق فقط من توقيع الاتفاق استهدفت غارات جوية تركية مناطق الاشتباك بين الجيش الوطني و”قسد” بمحيط السد.
وإلى جانب العمليات العسكرية، شهدت المنطقة حملة اعتقالات واسعة من قبل استخبارات قسد والتشكيلات المنضوية تحت رايتها طالت أشخاص شاركوا بالاحتفالات التي عمت المحافظات السورية عقب توقيع الاتفاق.
وشملت حملة الاعتقالات الأشخاص الذين رفعوا أعلام الدولة السورية، ثم تلاها اعتقال كل من أحتفل بذكرى الثورة السورية وكتب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تشيد بالثورة ووحدة البلاد.
ووثقت شبكات محلية اعتقال العشرات من المدنيين في شرقي سوريا من بينهم أطفال وكبار بالسن في محافظات دير الزور والرقة والحسكة.
وفقًا لمصادر عسكرية داخل “قسد”، لم تصدر القيادة العسكرية أي تعميم جديد لعناصرها عقب الاتفاق، مما يعكس غياب أي تغيير ملموس على الأرض، في المقابل، أفادت مصادر حكومية سورية بأن الوضع لا يزال على ما كان عليه قبل الاتفاق، محذرةً السكان من التنقل العشوائي، خاصةً في المناطق الحدودية مع “قسد”.
كما أصدرت السلطات الحكومية تعميمًا للعناصر العسكرية التابعة لها بضرورة تجنب عبور نهر الفرات باتجاه مناطق سيطرة “قسد”، وذلك بعد قيام الأخيرة باعتقال عدة عناصر من الأمن العام الحكومي في بلدة أبو حمام قبل أسبوع، أثناء محاولتهم زيارة عائلاتهم بعد غياب لسنوات.
وتشير تقارير محلية إلى أن “قسد” صعّدت من حملة الاعتقالات العشوائية في المحافظات الشرقية، حيث تم توثيق اعتقال أكثر من 250 شخصًا خلال أسبوع واحد فقط.
واللافت أن هذه الاعتقالات نُفذت بطريقة تعسفية وشاركت فيها عدة جهات أمنية تابعة لـ”قسد”، منها ميليشيا “جوانين شورشكر” (الشبيبة الثورية)، وقوات HAT، ومكافحة المخدرات، والاستخبارات العسكرية.
ولم تقتصر الاعتقالات على الشباب والنشطاء، بل شملت أيضًا مداهمة البسطات والمكتبات التي تبيع العلم السوري، إلى جانب نصب حواجز تفتيش مفاجئة على الطرقات لفحص الهواتف المحمولة بحثًا عن أي محتوى يعتبر مخالفًا لسياسة “قسد”.
في موازاة ذلك، استمرت عمليات حفر الأنفاق في مدينتي الحسكة والرقة، مما يعكس توجه “قسد” نحو تعزيز مواقعها العسكرية، بالتزامن مع تصاعد عمليات خطف الأطفال من قبل ميليشيا “الشبيبة الثورية”، حيث وثّقت التقارير اختطاف الطفلة فريدة محمد (16 عامًا) في حلب، ليتم اقتيادها إلى معسكرات التجنيد الإجباري في حي الشيخ مقصود.
أما آخر موجات الاعتقالات، فقد سُجّلت فجر الأربعاء 19 مارس، حيث شنت قوات “قسد” مداهمات واسعة في قرى ريف الرقة، مثل مزارع تشرين، الغسانية، حزيمة، كبش، ما أسفر عن اعتقال 24 شخصًا، بينهم رجل مُسنّ. الغالبية العظمى من المعتقلين هم أعضاء سابقون في “لواء ثوار الرقة”، وتم استهدافهم على خلفية تهنئة قائد الفصيل السابق أحمد العلوش بذكرى الثورة السورية الـ14، وذلك رغم أن الفصيل نفسه تم تفكيكه من قِبل “قسد” قبل سنوات.
وكان لواء ثوار الرقة من أبرز التشكيلات العسكرية في محافظة الرقة وتأسس منذ بداية الثورة السورية على يد قائده “أحمد العلوش” الملقب “أبو عيسى”، وشارك في جميع معارك السيطرة على الرقة من قوات النظام السوري.
ودخل كحليف مع قسد في المعارك ضد تنظيم “داعش” قبل ملاحقته والتضييق عليه وحل فصيله في 2018، وإجبار قائده أحمد العلوش على تسليم نفسه واعتقاله مع عدد من عناصره حتى الآن.
مستقبل الاتفاق
الانتهاكات من قبل “قسد”، كان أمرًا متوقعًا لعدة أسباب: أولًا، لم يحدث أي تحول جوهري في سياسة “قسد”، ما يجعلها تواصل نهجها القائم.
ثانيًا، عملية دمج هيكل عسكري وأمني معقد مثل “قسد” تحتاج إلى وقت طويل لتنفيذها، وثالثًا، هناك انقسام داخلي واضح داخل “قسد”، حيث يرفض الجناح المتطرف التابع لحزب العمال الكردستاني (PKK) هذا الاتفاق، ومن ثم ستكون ردود فعلهم عنيفة تجاه أي مظاهر للترحيب به.
وستقع على عاتق مظلوم عبدي مسؤولية فصل العناصر المتطرفة في الـ PKK التي تهيمن على “قسد”، إذ يتعين عليه العمل على إبعاد الأكراد عن مواجهة مباشرة مع تركيا.
وتتركز جهوده في ثلاثة محاور: التنسيق مع دمشق، التفاهم مع حكومة إقليم كردستان العراق، والعمل تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية.
بالتوازي مع ذلك، يشكل التصعيد التركي ضغطًا إضافيًا على عبدي، خاصة بعد أن دعا عبد الله أوجلان، الزعيم الروحي للـ PKK، كوادر الحزب إلى التخلي عن السلاح والانخراط في المفاوضات مع أنقرة.
وتعد محاولة الفصل بين حزب العمال الكردستاني (PKK) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) من أكبر التحديات التي تواجه تنفيذ الاتفاق، فالـ PYD هو امتداد للـ PKK في سوريا.
منذ تأسيس “وحدات حماية الشعب” (YPG/YPJ) على يد كوادر من حزب العمال القادمين من قنديل، أصبحت “قسد” تحت تأثير مباشر من الحزب، بل إن مظلوم عبدي نفسه يعتبر أحد أبرز قادة حزب العمال الكردستاني، ويمتلك تاريخًا حافلًا داخل التنظيم، ومع ذلك الأنظار موجهة الآن نحو عبدي، وما إذا كان سيتمكن من تحييد قادة الحزب وإبعادهم عن سوريا أم لا.
وتشكل المخاوف التركية من تحركات “قسد” السبب الرئيسي وراء دفع عبدي إلى دمشق، وذلك بتشجيع مباشر من واشنطن، فقد لعبت الولايات المتحدة دورًا أساسيًا في دفع هذا الاتفاق، حيث توسطت لإنجازه وراقبت تفاصيله، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، التي أكدت أن الجيش الأمريكي يقود جهود التقارب بين الحكومة السورية و”قسد”.
وتُمثلُ الرغبة الأمريكية بالانسحاب من سوريا ورقة ضغط كبيرة على «قسد» بموازاة التهديدات التركية، وبالتأكيد تهدف كذلك إلى منح واشنطن دورًا في تشكيل مستقبل سوريا واحتواء خطر تنظيم “داعش”.
وأفادت مصادر خاصة لنون بوست أن قوات التحالف الدولي قد باشرت منذ بداية مارس الجاري بسحب كميات من الأسلحة التي كانت مقدمة لقوات قسد بفترات سابقة، وكذلك تجري منذ فبراير عمليات سحب لعدد من الآليات من قواعد الشدادي وكونيكو بإتجاه العراق بشكل دوري.
الموقف التركي: مراقبة حذرة وخيار التصعيد قائم
تتابع تركيا التطورات عن كثب، حيث أكدت الحكومة التركية أنها ستراقب تنفيذ الاتفاق بين دمشق و”قسد” بدقة، خاصة فيما يتعلق بتفكيك “وحدات حماية الشعب” YPG، وإخراج المقاتلين الأجانب من سوريا.
خلال زيارة رفيعة المستوى أجراها وفد تركي إلى دمشق في 13 مارس، جرى بحث ملامح المرحلة المقبلة بعد توقيع الاتفاق والإعلان الدستوري الجديد، وقال مصدر مسؤول بوزارة الدفاع التركية: “سنراقب كيفية تنفيذ الاتفاق بين الإدارة السورية وتنظيم قسد الإرهابي عن كثب، وسنتابع التطورات على أرض الواقع، وسنرى مخرجاته سواء كانت إيجابية أم سلبية”.
يبدو جلياً الأصرار التركي على نزع سلاح حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بسرعة، وإخراج المقاتلين الأجانب التابعين لحزب العمال الكردستاني من سوريا، وذلك من خلال الزيارات المكوكية نحو دمشق للمسؤولين الأتراك، وكذلك عبر تصريحاتهم المتكررة بهذا الصدد.
ورغم الاتفاق بين عبدي والشرع إلا أن تركيا لا زالت تنظر بحذر لما يحصل في القامشلي ودمشق، ولازالت فرضية العملية العسكرية ضد قسد مطروحة.
ورغم ما سيحدث خلال هذه الفترة التي سيُطبق فيها الاتفاق، إلا أنه بالفعل يعتبر نقطة تحول تاريخية في العلاقة بين الأكراد السوريين مع بقية الشعب السوري، من كافة النواحي الاجتماعية أو السياسية، ويعدُ لبنِةَ البناء لسوريا الحديثة بدون مبالغات، ويشكِّل ضربة لكل المشاريع الانفصالية التي تهدد وحدة البلاد وسينهي حالة الانفصال بين مناطق الجزيرة وبقية سوريا.
وفي هذا السياق يقول الكاتب والصحفي فراس العلاوي: “يحملُ هذا الاتفاق في فحواه ثلاثة جوانب إيجابية من النواحي الأمنية والاقتصادية والسياسية، وهو حوار “سوري – سوري” من ناحية الجوهر ومهم لحقن الدماء وإيقاف مزيد من الحروب، وهو خطوة مهمة نحو استقرار سوريا، إذ يُنهي حالة الاحتقان ويتيحُ عودة المهجَّرين إلى مناطقهم، مثل الرقة والحسكة ودير الزور وعفرين، مما يعزز شرعية الحكومة السورية”.