في مرحلة مبكرة جدًا، أدركت الصهيونية حاجتها إلى صوتٍ، سواء أكان إذاعيًا أم مكتوبًا، للوصول إلى جمهورها الناشئ على أرض فلسطين، والمتزايد بفعل الهجرة غير الطبيعية للجماعات اليهودية من أنحاء العالم.
في ذلك الوقت، لم يكن الصراع هدفها المباشر، بل كان التمترس أولويتها، فانضوت تحت اللغة الإنجليزية وخطابٍ مهادن، حتى أحكمت سيطرتها على المشهد، لتكشف لاحقًا عن عدائية مفرطة لا تهدأ جرائمها.
وإذا كنت تعرف كيف تحوَّل “بنك فلسطين” إلى “بنك إسرائيل”، والجنيه الفلسطيني إلى الجنيه الإسرائيلي، فستختصر على نفسك نصف الطريق إلى الحقيقة، وكل المسافة إلى الآلة الإعلامية الصهيونية ورسائلها، أما إذا لم تكن تعرف، فستجد في هذا الملف سطورًا ممتدة تسبر أغوار تاريخ صحيفةٍ تطورت إلى مجموعةٍ إعلامية، ثم شبكةٍ دولية، تحافظ على خطٍ تحريريٍ واحد، يُنتج رسالةً موحدة بأوجهٍ إعلامية مختلفة.
هذه المرة، يسلط ملف “هآرتس وأخواتها” الضوء على صحيفة “جيروزاليم بوست“، باعتبارها الخطوة الأكثر خفاءً في مسار تهويد الصحافة في فلسطين التاريخية، متتبعًا بداياتها ومساراتها وسياستها، وتموضعها داخليًا ودوليًا، وموقع العرب والفلسطينيين فيها وبين سطورها.
آغرونيسكي يُحقق حُلمه
لا يمكن تحديد نقطة انطلاق واضحة لصحيفة “جيروزاليم بوست” أو نسبتها إلى لحظة بعينها، ذلك أن تاريخ صدورها لا يعكس حقيقتها، ولا يعبر عن التكوين الأيديولوجي الذي تنطوي عليه، فهي مزيجٌ معقد من الاتجاهات الغربية الصهيونية الإمبريالية، التي حرص مؤسسها، جيرشون هاري آغرونسكي، على ترسيخها ونشرها، في خطٍّ يمتد حتى اليوم.
تبدأ حكاية الصحيفة من آغرونسكي نفسه، ذلك اليهودي الروسي الذي نشأ في أسرة يهودية تقليدية في أوروبا الشرقية، حيث كان مقدّرًا له أن يصبح حاخامًا، لكن مساراته قادته بعيدًا عن هذا المسار، حينما قذفته الأحداث من أوروبا إلى الولايات المتحدة، حيث التقى في فيلادلفيا بصديقه إسرائيل جولدشتاين، ليؤسسا معًا هناك “نادي الأولاد الصهيوني”، وكان عمره آنذاك أربعة عشر عامًا.
بحلول عام 1908، كان جيرشون هاري آغرونسكي قد بلور نمط صهيونيته وبدأ البحث عن طريقه الخاص في استيطان فلسطين، فكتب إلى آرثر روبين، الذي انتدبته المنظمة الصهيونية لتأسيس مكتبٍ لها في فلسطين وتنظيم الهجرة اليهودية، يسأله عن المسار الوظيفي الأكثر فائدة للمشروع الصهيوني. فجاءه الرد باقتراح دراسة الهندسة.
وبينما كان آغرونسكي يتنقل بين الجامعات الأمريكية، من جامعة تيمبل إلى كلية جراتز، ثم كلية دروبسي وجامعة بنسلفانيا، وجد في نفسه ميلاً للعمل الصحفي، فبدأ الكتابة في الصحف اليهودية الناطقة بالإنجليزية واليديشية (اليهودية الألمانية). ومع مرور الوقت، طور مهاراته وعلاقاته حتى أصبح محررًا لصحيفة “الشعب اليهودي” (Das Jüdische Volk)، التي أسستها المنظمة الصهيونية العالمية عام 1917 في نيويورك.
بعد عامٍ واحد، انضم آغرونسكي إلى جمعية النشر اليهودي، وانغمس في جهود توفير الكتب الدينية اليهودية للشبان اليهود المشاركين في الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يكتفِ بذلك، إذ سرعان ما انضم إلى صفوفهم مقاتلًا في الفيلق اليهودي، الذي كان أول تشكيل عسكري يهودي منذ سقوط مملكة يهوذا قبل 1800 عام.
داخل الفيلق، التحق آغرونسكي بالكتيبة الأربعين، حيث كُلّف بمهمة التجنيد إلى جانب جوزيف ترمبلدور، وكان من بين المجندين الذين ضموهم إلى الفيلق ديفيد بن غوريون، الذي أُلحق بالكتيبة التاسعة والثلاثين، إضافة إلى لويس فيشر وآخرين، كما تم تعيين آغرونسكي ناطقًا باسم الجنود اليهود الأمريكيين في الفيلق.
أتاح التواجد في الفيلق اليهودي لآغرونسكي عدة مزايا، فمن الناحية الشخصية، تمكن من زيارة فلسطين العثمانية لأول مرة، وهو ما عمّق ارتباطه بالمشروع الصهيوني على الأرض. وعلى الصعيد التنظيمي، عزز مكانته داخل المنظمة الصهيونية الأمريكية عبر تسليطه الضوء على مشاركة اليهود الأمريكيين في الحرب.
كما استفاد من موقعه في الفيلق ليقوم بـ”استعارة” سجلاته والاحتفاظ بها بحجة الأمن، إضافة إلى ذلك، ألّف كتيبًا بعنوان “مسح الكتائب اليهودية”، ورفعه إلى المنظمة الصهيونية الأمريكية، ما عزز من دوره الإعلامي والتنظيمي داخل الحركة.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وإعلان الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، انطلق آغرونسكي لترسيخ مكانة اليهود الأمريكيين في المشروع الصهيوني، فعاد إلى الولايات المتحدة كعضو في وفد المنظمة الصهيونية العالمية، الذي ترأسه حاييم وايزمان، وضم شخصيات بارزة مثل ألبرت أينشتاين، ومناحيم أوسيشكين (الذي أصبح لاحقًا أول مدير للصندوق القومي اليهودي)، وشلومو جينوسار (مدير الجامعة العبرية لاحقًا)، وموسنسيون (مؤسس الحزب التقدمي).
وأسفر هذا الوفد عن تأسيس منظمة “كيرين هايسود”، التي أصبحت المظلة الكبرى لجمع التبرعات لصالح “الوطن القومي اليهودي”، ونمت لاحقًا لتشمل منظمات دعم مالي في أكثر من 45 بلدًا حول العالم.
بينما كان آغرونسكي يرسّخ موقعه داخل المشروع الصهيوني، انشغل بتأسيس منظمة الفيلق اليهودي الأمريكي، التي جعلت الاستيطان في فلسطين على رأس أولوياتها، إلى جانب إطلاق وكالة الأنباء اليهودية (JTA)، التي لم تلبث أن توسعت لتصبح واحدة من أبرز مصادر الأخبار عن الشأن اليهودي، حيث اشتركت أكثر من 400 صحيفة، يهودية وغير يهودية حول العالم، في خدمة أخبارها.
وإمعانًا في مدّ أذرعه، استغل علاقاته السياسية والإعلامية للترويج للهجرة اليهودية إلى فلسطين، فنشر مراسلات مع الرئيس الأمريكي التاسع والعشرين، وارن هاردينغ، ونائبه كالفين كوليدج، إضافة إلى السفير البريطاني في واشنطن، جيديس، تُظهر دعمهم العلني لإقامة دولة يهودية في فلسطين.
لم يكتفِ بذلك، بل سعى إلى إبراز الدعم الشعبي الأمريكي للمشروع الصهيوني، مستعرضًا جمع أكثر من 4 ملايين دولار من التبرعات الأمريكية لصالح الهجرة اليهودية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشرعية السياسية والمالية للهجرة والاستيطان.
خلال عمله محررًا في وكالة الأنباء اليهودية (JTA)، لم يغفل آغرونسكي عن المجتمعات اليهودية الناشئة في فلسطين، فكرّس جهوده للكتابة عن “اليشوف” (المستوطنات اليهودية) و”الكيبوتسات”، ناشرًا مقالاته في صحف مثل التايمز، ومانشستر غارديان، وديلي إكسبريس، ويونايتد برس إنترناشونال، مستغلًا علاقاته الدولية للترويج للمشروع الصهيوني داخل فلسطين وخارجها.
لكن إيمانه بحاجة العالم إلى مزيدٍ من “الوعي” حول الدور اليهودي في فلسطين دفعه إلى خطوة جديدة، ففي عام 1924، أسس مكتبًا للصحافة تابعًا للمنظمة الصهيونية، تحت غطاء “مكتب علاقات عامة” لها في القدس، حيث شغل منصب “مفوض العلاقات الصحفية في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية”، بينما تطوّر المكتب لاحقًا ليصبح “مكتب الصحافة الحكومي”، الذي لعب دورًا رئيسيًا في صياغة الخطاب الإعلامي الصهيوني في العقود اللاحقة.
أنشأ آغرونسكي نشرة أسبوعية متعددة اللغات تدافع عن اليشوف، وتروج للسياحة والهجرة اليهودية إلى فلسطين، معززًا من علاقاته الإعلامية لخدمة المنظمة الصهيونية، ومع ذلك اصطدم بجدار التجاهل الذي فرضته وكالة الأسوشيتد برس، حيث رفضت نشر مقالاته، متمسكة بسياسة عدم التدخل في الشؤون اليهودية وتجاهلها لهذا الجزء من العالم.
بحلول عام 1927، لعبت الأحداث لصالحه، إذ تصدر اسمه المشهد الإعلامي بفضل إتقانه الإنجليزية وعلاقاته الواسعة مع الصحافة الدولية، وعندما ضرب زلزال أريحا، لاقت تقاريره اهتمامًا كبيرًا من وكالات الأنباء العالمية، كما نجح في إبرام اتفاقية تعاون مع وكالة الأنباء الدولية (INS)، التي كانت ثالث أكبر وكالة أنباء أمريكية في ذلك الوقت.
وبينما تولى آغرونسكي مهام المراسل الصحفي من القدس لعدة صحف ووكالات أنباء، أطلق “نشرة فلسطين” التابعة لوكالة الأنباء اليهودية، وحرص على توزيعها بين يهود العالم العربي، لكن القيود التحريرية المفروضة، إضافة إلى ثورة البراق عام 1929، دفعته إلى التفكير في إصدار صحيفة خاصة تعكس نهجه السياسي، وتدعو صراحة إلى تسليح المهاجرين اليهود.
في عام 1932، عرض فكرته على صديقه تيد لوري، رجل الأعمال اليهودي الأمريكي، واقترح عليه الاستثمار في صحيفة فلسطينية باللغة الإنجليزية، غير أن العقبات المالية أخّرت المشروع، إلى أن نجح في إطلاقه أخيرًا في 1 ديسمبر/كانون الأول 1932، حين صدرت أولى طبعات صحيفة “فلسطين بوست”.
“فلسطين بوست”: صوت الوكالة اليهودية
في وقتٍ كانت الصحافة اليهودية الناطقة بالإنجليزية شبه معدومة، جاءت صحيفة “فلسطين بوست” لتمنح مشروع “الوطن القومي اليهودي” في فلسطين صوته الإعلامي باللغة الإنجليزية، حاملةً مضامين صهيونية واضحة، متجاهلةً تمامًا السكان العرب الأصليين.
بهذا المزيج، استطاعت الصحيفة لفت الأنظار سريعًا، خاصة بين المهاجرين اليهود الأشكناز، ورغم أن عددها الأول صدر بـ1200 نسخة، وخصص مساحة كبيرة لبيانات الانتداب البريطاني وأخبار الجيش البريطاني في مصر، مع عددٍ من عمال الطباعة يفوق عدد كتّابها، إلا أنها سرعان ما توسعت، فخلال عامها الأول، تضاعف توزيعها أربع مرات، وأصبحت أكثر انتظامًا في الصدور، وأكثر تنوعًا في مواضيعها.
في غضون عامين فقط، أصبحت “فلسطين بوست” الصحيفة الأولى في حيفا وتل أبيب ويافا، حيث تمركز المهاجرون اليهود القادمون من أوروبا الغربية وألمانيا والولايات المتحدة، كما لفتت أنظار موظفي الانتداب البريطاني واليهود والمدنيين الغربيين، وامتد تأثيرها إلى خارج فلسطين، حيث حظيت بقراء في مصر، ومراسلين في بعض الدول العربية، ومكتبٍ في بيروت، وتميزت آنذاك بإضافة قسم فني خاص بالرسوم المتحركة، إلى جانب قسم رياضي يركز على لعبة الكريكيت، الرياضة المفضلة للإنجليز.
أما على المستوى السياسي، فقد ارتبطت الصحيفة بحزب “مباي”، الذي أصبح لاحقًا يُعرف باسم حزب العمل، كما حصلت على دعم مالي ومعنوي من الوكالة اليهودية، التي وجدت في صفحاتها منصةً مثالية للترويج للهجرة والاستيطان، والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، بل تجاوزت ذلك إلى ترسيخ الرواية الصهيونية التي زعمت أن فلسطين “أرض بلا شعب”، معززةً المنظور الغربي الذي تجاهل الوجود الفلسطيني التاريخي.
مع مرور الوقت، أصبحت “فلسطين بوست”، أو كما كانت تُعرف اختصارًا “The Post”، الناطق غير الرسمي باسم الوكالة اليهودية، وحظيت بدعمٍ مالي وإعلامي من الانتداب البريطاني، فقد نشرت الصحيفة إعلانات وخطابات الحكومة البريطانية، ما منحها مكانةً مرموقة في الأوساط الصحفية الغربية، وجعلها مصدرًا موثوقًا للأخبار عن الشرق الأوسط، حتى أن المفوض السامي البريطاني، هارولد ماكمايكل، وصفها بأنها صحيفة “تعرض الحقائق بشكل منصف، وتحترم الأسرار، وتتجنب الإثارة والتكبر والتلميح الرخيص على قدم المساواة”.
ومع حلول 1939، تصدرت الصحيفة مشهد انتقاد السياسة البريطانية، خاصةً بعد صدور “الكتاب الأبيض”، الذي فرض قيودًا على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد اعتبرت الصحيفة ذلك “خيانةً لوعد بلفور”، وكرست صفحاتها لتوثيق الصدامات بين المهاجرين اليهود والفلسطينيين، مقدمةً رواية داعمة للصهيونية.
بحلول 1942، قطعت الصحيفة تعاملها مع حكومة الانتداب البريطاني، واتخذت موقفًا عدائيًا منها، خاصةً بعد تصاعد التوتر بين الانتداب والعصابات الصهيونية المسلحة، مثل الأرغون وليحي. وفي الوقت ذاته، ركزت على أوضاع اليهود في أوروبا خلال الهولوكوست، واستخدمت خطابها للدعوة إلى دعم هجرتهم إلى فلسطين، خصوصًا من قبل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، كما غطت الصحيفة أخبار الكتائب اليهودية التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، محاولةً إبراز اليهود كقوة عسكرية مؤهلة لإقامة دولتهم.
وفي عام 1947، مع صدور قرار تقسيم فلسطين، أفردت الصحيفة مساحات واسعة لتفسيره والترويج له، معتبرةً إياه خطوة نحو إقامة الدولة اليهودية، ومع تصاعد المواجهات المسلحة بين العرب واليهود، نشرت الصحيفة يوميات توثق هذه الأحداث، بررها آغرون بأنها “رفعٌ للمعنويات وحشدٌ للهمم”، ليعزز بذلك دورها في خدمة المشروع الصهيوني سياسيًا وإعلاميًا.
مع تصاعد المواجهات وفرض حظر التجول في مناطق عديدة، وجد آغرون وموظفوه أنفسهم يخوضون ما وصفه بـ “المقامرة اليومية”، في محاولة للوصول إلى مقر الصحيفة، ومواصلة إصدارها دعماً لحرب العصابات الصهيونية، ونتيجة لذلك، أصبحت الصحيفة هدفًا لهجمات الفيلق العربي، كما تعرّض آغرون نفسه للملاحقة والهجوم من قبل الشبان العرب.
وفي 1 فبراير 1948، استهدف المقاومون الفلسطينيون مقر الصحيفة، الواقع ضمن مربع يضم أيضًا مقر رقابة الصحافة البريطانية، ومركز الهاجاناه، وشرطة المستوطنات اليهودية، كما فجّر المقاومون حافلة مفخخة، ما أسفر عن مقتل أربعة مستوطنين، بينهم ثلاثة من عمال الصحيفة.
حينها، أعلن عبد القادر الحسيني مسؤولية كتائبه عن الهجوم، فيما كانت بصمات فوزي القطب، مهندس المقاومة الفلسطينية، واضحة لكل من الأمن البريطاني والعصابات اليهودية.
ورغم الضربة القاسية، لم تتوقف الصحيفة سوى أسبوع واحد قبل أن تعود للصدور، منغمسةً أكثر في التحريض على العمل العسكري ضد العرب، والدعوة إلى تجنيد المهاجرين اليهود، استعدادًا لنهاية الانتداب البريطاني، التي اعتبرتها المنظمة الصهيونية ووكالتها اليهودية مرحلة حاسمة في تحقيق أهدافها.
ومع منتصف مايو 1948، أصدرت الصحيفة عددًا خاصًا حمل عنوانًا عريضًا: “ولادة دولة إسرائيل”، مكرسة صفحاتها لخطاب ديفيد بن غوريون، والساعات الأخيرة قبل الإعلان، والاعتراف الأمريكي والفرنسي المبكر بالدولة الجديدة، ورغم إعلان قيام دولة إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية، استمرت الصحيفة في الصدور تحت اسم “فلسطين بوست” لمدة عامين.
تُروى قصة طريفة عن الذكرى الثانية لقيام الدولة، إذ سأل أحد موظفي الصحيفة، مائير رونين، رئيسه آغرونسكي: “لماذا نحتفظ باسم فلسطين، بينما لم تعد فلسطين موجودة منذ عامين؟”، فقرر آغرون تغيير الاسم، ليصدر العدد التالي باسم “جيروزاليم بوست”. تزامن ذلك مع قرار آغرونسكي تغيير اسمه إلى اسم أكثر يهودية، ليُعرف منذ ذلك الحين بـ “آغرون”.
“جيروزاليم بوست” في عين الصحافة الدولية
رغم نشأتها المبكرة، وقبل حتى قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن “جيروزاليم بوست” حددت منذ البداية خطها التحريري وسياستها المعلنة وجمهورها المستهدف، وحافظت عليها دون تغيير يُذكر حتى اليوم، فالصحيفة، التي انطلقت باللغة الإنجليزية، كانت في البداية لسان حال الوكالة اليهودية، ثم لاحقًا مدافعة عن سياسات الحكومة الإسرائيلية، مكرسةً صفحاتها لتشجيع الهجرة اليهودية، والقوة العسكرية ضد الفلسطينيين، والاستيطان، وطرد العرب.
وقد ساهمت علاقاتها بالصحافة الدولية في تعزيز انتشارها، حيث تمتعت بروابط مع صحيفة التايمز، ومانشستر غارديان، وديلي إكسبريس، ووكالة يونايتد برس إنترناشونال، وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت الصحيفة الأكثر انتشارًا في الشرق الأوسط، والمفضلة لدى جنود الحلفاء.
تعامل آغرون مع الصحيفة وكأنها ملكه الخاص، فلم يفوّت فرصة تغطية الأحداث التاريخية مثل الثورة العربية في فلسطين (1936-1939)، والكتاب الأبيض لعام 1939، وغرق السفينة ستروما قبالة السواحل التركية عام 1942، وترحيل المهاجرين اليهود إلى موريشيوس بأمر من الانتداب البريطاني، ما جعله مراسلًا حربيًا معتمدًا لدى الصحافة الدولية.
وبحلول 1945، كان مراسلًا لكلٍّ من ديلي تلغراف، وإكستشينج تلغراف، بينما أصبحت “جيروزاليم بوست” المصدر الأكثر موثوقية للصحافة الأجنبية حول “إسرائيل”.
أدركت الصحيفة أهميتها كصلة وصل بين السياسات الإسرائيلية والمجتمع الدولي، فأطلقت مجلة “إفريت” (IVRIT)، لتعليم اللغة العبرية وتحسين مهارات قراءتها، ثم في 1959 أصدرت طبعة دولية أسبوعية تلخّص الأخبار المحلية “الإسرائيلية”، وفي 1990، أطلقت مجلة “جيروزاليم ريبورت”، التي سُوّقت في فرنسا، وكندا، والولايات المتحدة، و”إسرائيل”. ومع تطور الإعلام، أضافت الصحيفة مجلات إلكترونية لمواكبة الثورة الرقمية.
فيما لم تتوقف الصحيفة على مدى الأعوام اللاحقة، عن تطوير شراكاتها الدولية، رغم تبنيها لخطٍ داعمٍ بشكلٍ كامل للحكومة الإسرائيلية، وإجراءاتها القمعية بحق فلسطيني الـ 1948، واحتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، وتوسيع المستوطنات، وتهويد المناطق المقدسة.
وعلى الرغم من التزامها التام بدعم الحكومة الإسرائيلية، وتبريرها للقمع ضد فلسطينيي 1948، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، والتوسع الاستيطاني، وتهويد المناطق المقدسة، إلا أنها لم تتوقف عن بناء شراكاتها الدولية.
وفي 2008، عقدت شراكة مع وول ستريت جورنال، تضمنت التسويق المشترك ونشر الصحيفة الأمريكية حصريًا في “إسرائيل”، وكانت قد سبقت ذلك بإطلاق مجلة شهرية بالعبرية المبسطة.
اتباعًا لنهج صحيفة التايمز، أطلقت جيروزاليم بوست في 2010 قائمة “أكثر 50 يهوديًا تأثيرًا حول العالم”، تُنشر سنويًا في رأس السنة العبرية. وفي 2012، دشنت سلسلة فعاليات دولية، أبرزها مؤتمر سنوي في نيويورك، يجمع أهم الشخصيات اليهودية العالمية مع الحكومة الإسرائيلية، لبحث الأثر الإعلامي والسياسي اليهودي، بإدارة الرئيس التنفيذي للمجموعة، إنبار أشكنازي.
لم تقتصر الروابط الدولية على الشراكات الإعلامية، بل شملت أيضًا الملكية والسياسة التحريرية، ففي 1989، بيعت الصحيفة إلى شركة هولينجر إنترناشونال الكندية، ثالث أكبر إمبراطورية إعلامية في العالم، والتي امتلكت صحفًا مثل ديلي تلغراف (بريطانيا)، وشيكاغو صن تايمز (أمريكا)، وناشيونال بوست (كندا)، إضافة إلى مئات الصحف الإقليمية في أمريكا الشمالية.
وخلال الفترة من 1990 حتى بداية الألفية، تعاقب على منصب إدارة التحرير بضعة صحفيين، يهود وأمريكيين، ومراسلين دوليين وعسكريين سابقين، وسياسيين من محور الوسط وفاليمين، كان من أبرزهم الصحفي الأمريكي بريت ستيفنز، كاتب عمود في نيويورك تايمز، ومساهم في NBC News، ورئيس تحرير سابق في وول ستريت جورنال، إلى جانب يعقوب كاتس الذي عمل كمراسل عسكري ومحرر دفاعي.
الفلسطينون في حواشي “جيروزاليم بوست”
منذ أن أسسها غيرشون آغرون عام 1932، ومرورًا بتطورها إلى إحدى أهم الصحف الإسرائيلية المؤثرة، وحتى اليوم، لم تحد “جيروزاليم بوست” عن نهجها الصهيوني المطلق، سواءً في دعم الاستيطان، أو تسويغ العدوان الإسرائيلي، أو التلاعب بالسردية الإعلامية لصالح الاحتلال.
من آغرون، الذي قاد الصحيفة لمدة 23 عامًا متتبعًا خط حزب مباي وزعيمه ديفيد بن غوريون، إلى الفترة الفاصلة بين 1990 و2004 التي شهدت اضطرابًا إداريًا مع تعاقب سبعة رؤساء تحرير وتغييرات متكررة في طاقم التحرير والطباعة، لم تتغير الرؤية التحريرية الموحدة ضد الفلسطينيين.
ورغم انتقال إدارة التحرير بين الوسط مع ديفيد ماكوفسكي وديفيد هورويتز، واليمين المتطرف مع بار إيلان وبريت ستيفنز، ظل الموقف ثابتًا في رفض الاعتراف بالفلسطينيين، ومعارضة أي وجود رسمي لهم.
يمكن التعبير عن ذلك، بالقول أن الصحيفة التي اتسعت للتنوع السياسي “الإسرائيلي”، وروجت لنفسها في حقبةٍ من الحقب باعتبارها صحيفة مستقلة، غير خاضعةٍ للانتداب أولًا، ولا لسلطة الحكومة العمالية ثانيًا، ولا لتجاذبات الليكود اليميني ثالثًا، رفضت أي اعتراف أو انفتاحٍ على الفلسطينيين، محافظة على صهيونية مطلقة منذ نشأتها وحتى اليوم.
على صعيد الاستيطان، تبنت الصحيفة موقفًا داعمًا ومتساهلًا مع الأقلام المدافعة عنه والداعمة لتوسعه، أما على مستوى حل الدولتين والذي يرتبط باستمرار سياسة الضم أو انعكاسها، فأجمع جميع رؤساء تحريرها على اعتباره “غير عملي وغير مرغوب فيه”، بينما أبدى يعقوب كاتس – الذي كان مراسلًا عسكريًا للصحيفة، قبل أن يُرشح للعمل في حكومة نفتالي بينت، ثم يعود إليها رئيسًا للتحرير عام 2016- بالإعلان الصريح عن معارضته، ورفض أي وجود رسمي أو سياسي فلسطيني.
أما بريت ستيفنز، فقد دفع الخطاب العدائي إلى مستويات غير مسبوقة، واصفًا العرب بأنهم “مرضى عقليون بمعاداة السامية”، فيما تبنى نظرة تمييزية لصالح اليهود الأشكناز، معتبرًا أنهم يتمتعون “بميزة عقلية على غير اليهود”.
لكنها استخدمت نمطًا إعلاميًا شديد اللباقة في توصيف التهجير ودعمه، واصفة إياه بـ”الإخلاء”، و”إعادة التوطين”، و”الانتقال”، مبررة الحاجة الأمنية له، ومزاوجة إياها مع نظرة قانونية تتعلق برؤيتها للحق “الإسرائيلي”، في ملكية الأرض، ومحاسبة الفلسطينيين على الوجود، والبناء والتوسع “غير القانوني فيها”.
ينسحب هذا النمط على التغطية الإعلامية للإبادة، إذ تتجاهل الصحيفة جرائم الحرب الإسرائيلية، وتحوّل الحديث عنها إلى “تحريض ضد إسرائيل”، وبدلًا من توصيف الجرائم الإسرائيلية، تروج لفكرة “الحرب الدفاعية المشروعة”، وتصف العمليات العسكرية بأنها “حملة لمكافحة الإرهاب تستلزم اقتلاعه من جذوره”.
لطالما شككت الصحيفة في جدوى اتفاقيات السلام مع مصر والأردن، رغم إبرازها للفوائد الاقتصادية والأمنية للتطبيع مع دول الخليج والمغرب العربي، ومع ذلك كشفت تحقيقات صحفية عن تورطها في حملات تلاعب إعلامي لصالح بعض الأنظمة العربية.
في 2020، نشرت رويترز تحقيقًا يوثق تورط “جيروزاليم بوست” مع ثلاث وسائل إعلام إسرائيلية أخرى في نشر مقالات كتبها أشخاص غير موجودين، ضمن حملة دعاية منظمة، وكشفت صحيفة ديلي بيست أن الصحيفة كانت جزءًا من شبكة تضم 19 شخصية وهمية، نشرت أكثر من 90 مقالًا تمجّد حكومة الإمارات، وتروّج لدبي كواحة استقرار، وتهاجم خصومها الإقليميين، مثل قطر وتركيا وإيران.
في حين قامت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية بحذف المواد والاعتذار، تجاهلت “جيروزاليم بوست” الواقعة تمامًا، ما يعكس نهجها في استغلال الدعاية الإعلامية لصالح القوى السياسية الصديقة لـ”إسرائيل”.
في الواقع، فإن نتائج التحقيقات تشي بأهمية الصحيفة في التأثير على الرأي العام الغربي، وقدرتها على التلاعب في موازين الأقطاب لصالح الرواية الإسرائيلية، كما تشي بضعف الإعلام العربي مقارنة بها، وعقدة النقص التي تتلبسه في النقل عنها، خاصةً في وسائل الإعلام التي تُصنف إسرائيليًا بصفتها “معتدلة”.
ينطبق ذلك على كلٍّ من الشرق الأوسط والحياة وسكاي نيوز والعربية والحرة، التي كثيرًا ما استعارت أخبار “جيروزاليم بوست” وتحليلاتها، وسلطت الضوء على خطابها الإعلامي. وبينما تلجأ بعضُها إلى إعادة الصياغة بما يناسب الجمهور العربي، تفضّل وسائل إعلام أخرى، خاصةً البحرينية والإماراتية بعد اتفاقات أبراهام، النقل الحرفي واعتبار الصحيفة مصدرًا للمعلومات، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية والتعاون الأمني والاقتصادي.
عن هذا يُجيب الباحث في الشأن الإسرائيلي، كريم قرط: بأن صحيفة “جيروزاليم بوست” قد لا تختلف بالضرورة عن بقية الصحف الإسرائيلية، لكنها تتميز بمصداقية عالية أمام الرأي العام العالمي على غرار الصحافة الغربية عمومًا، ويُعزز من موقعها صدورها باللغة الإنجليزية، ما يجعلها أكثر قدرة على الوصول إلى جمهور دولي.
وبمثل هذه الميزات، فمن الطبيعي أن تجذب مواد “جيروزاليم بوست” اهتمام الإعلام العربي، خاصة في ظل المساحة الديمقراطية التي تتحرك ضمنها، واستقطابها لأقلام غربية رائدة.
ويُشدد قرط في الوقت ذاته على أن نظرتنا إلى الإعلام الإسرائيلي يجب أن تكون محايدة، إذ إن ما يُنشر فيه يُعبّر عن انتمائه لبيئته وخدمته لجمهوره المحلي، وبالتالي فإن تنافيه مع السردية الفلسطينية أمر طبيعي ومفهوم، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن ما يُنشر لا يخرج عن موافقة الرقابة العسكرية، مشيرًا إلى أنها تشكل “مظلة” تحكم عمل الإعلام الإسرائيلي، بعكس ما يظنه كثيرون من أن الإعلام مستقل تمامًا أو معبّر فقط عن التوجهات السياسية والعسكرية.
وفي ما يتعلق بسياسة الصحيفة، يرى قرط أن هناك خطوطًا عامة يلتزم بها الإعلام الإسرائيلي بشكل ذاتي، وهي تتجاوز حدود السياسة الخاصة بكل صحيفة، ويأتي الأمن على رأس هذه الخطوط، باعتباره بمثابة “ديانة أخرى” إلى جانب الديانة اليهودية بالنسبة لغالبية الإسرائيليين.
من هنا، يطرح قرط أبعادًا محددة للتعاطي مع الإعلام الإسرائيلي، من بينها: الحذر الشديد والتيقظ عند التعامل مع ما يُنشر فيه، والحد من التهافت الفلسطيني والعربي على النقل عنه، وعدم تجاهل خضوعه للرقابة العسكرية الصارمة، خصوصًا في أوقات الحروب.
ويُعرب عن أسفه لأن الواقع الإعلامي الفلسطيني والعربي ينغمس بشكل كامل في النقل عن الإعلام العبري، ويتعامل معه بثقة ومصداقية عالية، ما يؤدي إلى تسلل سرديات إسرائيلية إلى النقاش السياسي العربي والفلسطيني.
في المحصلة، لا تبدو “جيروزاليم بوست” منفصلة عن منظومة إعلامية إسرائيلية متكاملة، تخدم جمهورها وقضاياه واهتماماته بالحد الأدنى، وتسعى إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية محليًا وإقليميًا ودوليًا، حيث تمتلك هذه المنظومة مقومات واسعة للتأثير والتلاعب في المحيط الإعلامي والفكري والسياسي العربي والفلسطيني، فهي منظومة مركبة، تشمل صحفًا يسارية وأخرى يمينية، بعضها ناطق بالعبرية وأخرى بالإنجليزية، لكنها في النهاية تعمل كمسننات داخل ماكينة واحدة.