إذا كان الرحالة ابن بطوطة قد قام برحلته الشهيرة شرقًا صوب الصين، فإن الزموري، أو سعيد بن حدو، أو مصطفى الأزموري، أو استيفانيكو، وهي تسميات مختلفة للشخص نفسه، قد قادته الأقدار لاستكشاف العالم الجديد غربًا، ليُخلَّد اسمه في كتب التاريخ كأول مغربي ومغاربي وإفريقي يصل إلى أمريكا.
مغامرة بدأها “عبدًا” مرافقًا لسيده الإسباني مع 400 شخص آخر، بحثًا عن مدن الذهب، وأنهاها وحيدًا مقتولًا في سيبولا، بعد رحلة مرعبة تحول فيها من غازٍ إلى طبيب يداوي مرضى العالم الجديد.
العالم الجديد
لا تحمل المصادر التاريخية الكثير من التفاصيل حول طفولة سعيد بن حدو، باستثناء معلومات قليلة؛ فقد وُلد سنة 1503 في مدينة أزمور المطلة على المحيط الأطلسي، في فترة قاسية من تاريخ المنطقة.
واختلفت الروايات بشأن الأسباب التي أدت إلى ترحيله إلى أوروبا؛ ففي الوقت الذي ذهب فيه باحثون إلى القول إن الأزموري بيع للمستعمرين عندما كان أهل مدينة أزمور يعانون من المجاعة التي ضربت المنطقة بين عامي 1500 و1521م، والتي دفعت كثيرين إلى بيع أبنائهم مقابل قليلٍ مما يسد جوعهم.
قال آخرون إن التدخلات العسكرية للبرتغاليين في السواحل المغربية، واحتلال المدينة في شتنبر من العام 1513م، نتج عنها أسرُ واختطافُ آلافٍ من المغاربة ونقلُهم إلى أوروبا لبيعهم في أسواق العبيد، وكان سعيد بن حدو – الأزموري – واحدًا منهم.
وفي مدينة قادش في إسبانيا، كما قال بعض الباحثين، أو في إشبيلية كما زعم آخرون، بيع الأزموري إلى قبطان إسباني يدعى أندري دورانتيس، ومنه أخذ اسمًا جديدًا عُرف به في إسبانيا، وهو إستيبان دي دورانتيس.
توطدت علاقة العبد بسيده دورانتيس، الذي أصبح قائدًا لفيلق مشاة في رحلتهما ضمن أسطول يضم 5 سفن تحمل على متنها 400 رجل، بغرض البحث عن الذهب في العالم الجديد، بدايةً من جزر الكاريبي، التي كانت – بالإضافة إلى كونها مستعمرة إسبانية حينذاك – محطة عبور نحو ما يُعرف حاليًا بفلوريدا، ومنها إلى الغرب، بحثًا عن المناطق التي يُعتقد أنها تزخر بالذهب والأحجار الكريمة.
قُسّم الرجال إلى قسمين: أولهما كُلِّف بحراسة السفن الخمس، أما الآخر، الذي كان الأزموري أحد أفراده، فدشّن رحلة البحث عن الذهب، وهي الرحلة التي عاشوا خلالها واقعًا مرعبًا؛ إذ واجهوا صعوبات في التنقل، خاصةً في المناطق المليئة بالمستنقعات، وتعرضوا لهجمات متكررة من السكان الأصليين في أمريكا، ليتقلص عددهم إلى 240 شخصًا، ويجدوا أنفسهم مضطرين للعودة إلى نقطة البداية، قبل أن يتفاجأوا بهروب القسم المكلف بالحراسة.
وتقلص عدد الرجال مرة أخرى حين اضطروا إلى الإبحار هربًا نحو المكسيك عبر قوارب بدائية، صنعوا أشرعتها من ملابسهم، حيث استغرقت رحلتهم 40 يومًا، عانوا خلالها من الجوع والعطش والرياح العاتية التي فرّقت قواربهم في خليج المكسيك، ليصل قاربان فقط إلى جزيرة كالفستون قرب تكساس، فلم ينجُ من البعثة كاملة في النهاية سوى الأزموري وثلاثة من رفاقه.
عاش الناجون في الجزيرة واقعًا لا يقل رعبًا عمّا عاشوه في البداية، إذ أُسروا من قبل الهنود الحمر لمدة خمس سنوات كاملة، اقتاتوا خلالها على جذور النباتات والطحالب، قبل أن يتمكنوا من الفرار سنة 1534م، مستغلين غياب أهل القرية التي كانوا أسرى فيها، ليبدأ الأزموري ومن معه مجددًا رحلة أخرى نحو غرب أمريكا، ليس كغزاة هذه المرة، بل كأطباء يعالجون المرضى من السكان الأصليين.
“ابن الشمس”
بعد السنوات التي قضاها في أمريكا، تمكن سعيد بن حدو من إتقان اللهجات المحلية، واتفق مع رفاقه على أن يوهموا سكان القرى التي سيعبرون منها بامتلاكهم القدرة على علاج المرضى.
وهو ما نجح فيه الأربعة صدفةً، إذ عالجوا بعض الهنود المرضى مرتّلين أدعيةً باللغة اللاتينية، وأنقذوا آخرين من الموت، فذاع صيتهم بين القبائل ونالوا لقب “أبناء الشمس”، نظير ما اعتبره الهنود الحمر قدرة خارقة على إشفاء المرضى، حتى إن من عجز الأزموري ورفاقه عن علاجه، يُنظر إليه باعتباره ملعونًا من “أبناء الشمس”، لأن القدر – حسب بعض الروايات – انتقم منه.
هكذا، انتقل الأزموري في أعين السكان المحليين من غازٍ ينتمي إلى سلالة البشر، إلى سلالة “أبناء الشمس” – سلالة الآلهة – التي قدّسها الهنود الحمر، على حد تعبير الباحث المغربي المختص في أدب الرحلات عبد الرحيم مؤدن.
وفي العام 1539م، وبعد ثلاث سنوات على وصولهم إلى المكسيك، افترق الرفاق الأربعة؛ فعاد ثلاثة منهم إلى بلادهم، إسبانيا، بينما ظل هو هناك ليبدأ “أهم رحلة مغامرة في تاريخ الاستكشافات الأميركية غير الدموية، بهدف البحث عن مدن الذهب”.
في المكسيك، التقى سعيد بن حدو بأنطونيو مندوزا، نائب الملك الأول لإسبانيا آنذاك، فعَيّنه ليرافق الحملة الجديدة نحو مدن سيبولا الأسطورية السبع، والتي كان المستكشفون الإسبان في المكسيك يعتقدون أنها غنية بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وهو الاعتقاد الذي زكّاه الأزموري حين أكد لهم أنها موجودة بالفعل، وأنه رآها بعينيه.
اضطلع الأزموري في هذه الرحلة بدور المستطلع والمترجم في آن واحد، وبسبب شهرته، رافقه – إلى جانب الإسبان – عدد كبير من الهنود، وعلى غرار الرحلة الأولى، انقسم أعضاء الحملة الثانية إلى قسمين: قسم يقوده الأزموري والهنود المرافقون، وكانوا في المقدمة، وقسم آخر يقوده المبشّر الراهب الفرنسيسكاني فراي ماركوس، غير أن الأزموري انفصل عن فريقه في منتصف الطريق، ليختفي إلى الأبد.
حين قاده الذهب إلى الفناء
في طريقهم إلى سيبولا، تمكّن سعيد بن حدو ورفاقه من استكشاف أراضٍ جديدة، من بينها ما يُعرف حاليًا بولايات فلوريدا وألاباما ولويزيانا وتكساس وأريزونا ونيو مكسيكو.
ويتناقل باحثون وثيقةً تاريخية إسبانية تعود إلى العام 1540، بشأن نهاية الأزموري وأسباب انفصاله عن البعثة، حيث يُعتقد أنه كان يرغب في الاستحواذ على شرف اكتشاف مدن الذهب بمفرده، فترك مسافةً بينه وبين الآخرين، وحلّ في سيبولا مع مرافقيه من الهنود، الذين رأوا في مرافقته حمايةً لهم من الأخطار.
ويُضاف إلى ذلك أن سكان سيبولا فرضوا عليه الإقامة الجبرية في كهف خارج مدينتهم، وأخضعوه للاستنطاق لمدة ثلاثة أيام لمعرفة أسباب زيارته، قبل أن يجتمعوا لتقرير مصيره.
وتضيف الوثيقة أن زعماء المدينة لم يصدقوا ادعاءات المغربي بكونه رسولًا من طرف “نبيلٍ يعرف ما في السماوات”، وأن راهبين سيلتحقان به “مكلفين بتلقين الهنود أصول الدين”، فظنوه جاسوسًا لقبيلة تنوي غزو أراضيهم، وزاد من غضبهم تكرار طلباته بالحصول على أحجار الفيروز والنساء، فقرروا قتله.
وعلى خلاف هذه الرواية، تقول مصادر أخرى إن أهالي إحدى القبائل قتلوه بسبب جرابه الطبي المصنوع من ريش البوم، إذ تُعدّ البومة، بالنسبة إليهم، طائر موتٍ ونذير شؤم، وتُضيف أن زعيم القبيلة أمر بقطع أطراف استيفانيكو، وبعث بها إلى زعماء القبائل الأخرى “حتى يتأكدوا بأن المغربي مجرد إنسان، وليس ابنًا للشمس”.
إرث رجلٍ واحد في ذاكرة بلدين
إلى اليوم، ما زال الاحتفاء بالأزموري مستمرًا، حيث يقيم سكان ولاية فلوريدا احتفالًا سنويًا باسم الرجل الذي يُنسب إليه اكتشاف مدينتهم، بينما نُصّب له تمثال برونزي في ولاية تكساس، باعتباره أحد أبرز الشخصيات التي عبرت هذه المنطقة خلال حملات الاستكشاف في الجنوب الغربي لأمريكا.
أما في المغرب، فيُعرف سعيد بن حدو بكونه أول مغربي وإفريقي تطأ قدماه أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد حاول باحثون اقتفاء أثره في عدد من الكتب، أبرزها كتاب “إستيفانيكو: على خطى مستكشف أفريقي ملهم” للكاتب المغربي القنصل العام للمملكة المغربية في نيويورك عبد القادر الجموسي، والباحث احساين إلحيان.
كما تمحورت حوله عدة أعمال روائية، من بينها “استيبانيكو” للكاتب المغربي محمد البوعبيدي، و”جزيرة البكاء الطويل” لعبد الرحيم الخصار، ويتردد اسم الأزموري كذلك في الخطابات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، تعبيرًا عن عراقة العلاقة بين البلدين ومتانتها، باعتبار المملكة أول بلدٍ اعترف باستقلال بلاد العم سام.
هكذا انتهت مغامرة سعيد بن حدو الفريدة باكتشاف مناطق جديدة من العالم الجديد، غير أنها تركت بياضات في سجلات التاريخ تحتاج من يملأها، خاصة ما يتعلق بتفاصيل طفولته التي تضاربت الروايات بشأنها، وموته الذي لا يبدو أن الباحثين قد توصّلوا إلى الرواية الحاسمة حوله.