طفا على الفضاء العام السوري، بعيد سقوط نظام الأسد بأيام، مصطلح “أقليات”، إذ انساب تداوله بتلقائية غير مسبوقة، بدا كعقيدة متأصّلة، صعدت سريعًا على حساب المواطنة، إيذانًا ببدء مواجهة أول إرث ثقيل لنظام الأسد في الجمهورية الثالثة، عنوانه “الهوية السورية”.
و”الأقلية” هو تصنيف دلالي لما يُعرف بـ”الآخر”، وقد شاع مفهوم “الآخر” كوحدة لقياس بُعد المسافة عن الجغرافيات التي لم تُكتشف بعد، ثم تحوّل استخدامه لاحقًا إلى وحدة لقياس المسافة الاجتماعية بين الأفراد والمجتمعات، وفق نهج سلطوي يقوم على وصم “الآخر” بسمات الاختلاف وقيم “الغيرية”، أو إقصائه، أو تهميشه، أو قتله.
في سوريا، لم يكن تسابق الأصوات في الكشف عن “أقليتها” أو مقدار “مظلوميتها” مفاجئًا، وإنما هو انعكاس حتمي لأيديولوجية نظام ازدهر على العقاب الجماعي، والقمع غير المسبوق لمدن بأكملها، فدفع بالناجين إلى الانغماس في خيال سياسي يوهمهم شعورًا بالرضا، خوفًا من دفع ثمن التذمّر (حسن، 2017)، وحثهم على إنشاء هويات ضمنية تسخر من سكان المناطق المنكوبة. وكنتيجة، أوجدت هذه الأيديولوجية، مع الوقت، تناحرًا دينيًا واجتماعيًا، كرّست سرديات عقائدية تبرر الاختلاف في أكثر الخصائص تشابهًا فيما بينها.
غير أن الأحداث التي شهدها الساحل في مارس/ آذار 2025، رغم تعدد سردياتها، وضعت الهوية السورية على المحك؛ فرغم إجماع معظم الأدبيات والخطابات الوطنية على جرّ النظام أقليات سوريا، أولهم العلويين، إلى معركة تطييف كبرى، إلا أن التعاطف المتردد والخجول مع أحداث الساحل كشف أن المكوّن العلوي، في غالبيته، لم يحظَ بعد بالقبول المنشود في الوعي الجمعي السوري.
ولعل تداول السوريين لأحداث الساحل، وفق سياقات متنافرة، كشف عن شرخ اجتماعي كامن، تجلّى في استعجال سوريين مشاركة المحتوى المناصر لمواقفهم، عبر استجرار تقارير وُثّقت بالصوت والصورة، تُظهر تنكيل نظام الأسد ومواليه بالسوريين، لزجّها جنبًا إلى جنب مع أحداث الساحل “كي لا نقع في فخ النسيان”. بينما رأى البعض أن استمرار سفك الدم السوري بعد سقوط الأسد ما هو إلا “انحراف” عن الثورة و”طعن” بمبادئها.
يعتقد بعضنا أن النظر إلى تجارب دول عايشت استعصاءً نحو وحدة هويتها الوطنية لنقل الفائدة منها سذاجة ومضيعة للوقت، في بلد كسوريا يتعطش لمحاسبة عاجلة عن آلام السوريين المتراكمة منذ عقود. لكنّ هجرة السوريين القسرية نحو دول أكثر استقرارًا، مكّنتهم من فحص مفاهيم مفقودة من الوعي الجمعي السوري، كـ”الولاء” و”الإحساس بالانتماء”، وكاشفتهم بحقيقة هوياتهم المتناحرة.
في هذا الصدد، تشكّل تجربة تركيا في احتوائها عشرات الإثنيات والأديان ودمجها في نسيج اجتماعي متماسك، نموذجًا يمكن الإفادة منه، رغم الفوارق التي تجعل مقاربتها مع سوريا غير متكافئة من بضع نواحٍ، أولها طبيعة التحديات الداخلية والخارجية لكلا البلدين، وغلبة “الدم” بدرجة أكبر في سوريا.
مخاض عسكري نحو “المواطنة”
يُقدَّر عدد سكان تركيا، بحسب أحدث إحصائية، بـ85 مليونًا، وتخلو الإحصاءات الرسمية من تصنيف سكاني تبعًا للعرق أو الدين، إذ تعتبر الحكومة التركية البلاد ملكًا للأتراك بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني. إلا أن جمعيات محلية أحصت 53 إثنية ودينًا تعيش في تركيا، أهمها: القوقازيون، والشركس، والأبخازيون، والشيشان، والداغستانيون، والأوستيون، واللاز، والروم، والعرب، والبلغار، والبوسنيون، والألبان، والآشوريون، والأذريون.
في حين تتمثل المكونات الدينية بالمسلمين، والعلويين، والأرمن، والجعافرة، واليهود، والمسيحيين. بينما يحتل المكون الكردي ثاني أكبر مكون اجتماعي بعد الأتراك، بواقع 21 مليون كردي، يليهم العرب كثالث أكبر تجمع عرقي/لغوي في تركيا بنسبة 2٪ من السكان، وينحدر العديد منهم من المجتمع العلوي السوري.
وسط غزارة التنوع العرقي والديني، لم يكن مسار تركيا نحو وحدتها الوطنية سهلًا؛ فمنذ عام 1919 وحتى إعلانها جمهورية عام 1923، خاضت البلاد معركة ولاء وطني مفتوحة ضد العشرات من حركات التمرد التي عمّت الأناضول، قُدّر عددها بـ(16) واقعة عنوانها “التقسيم”، إلى أرمينيا شرقًا، وقليقيا في قلب الأناضول، واليونان في آيدن وإزمير، ومملكة البنطس على سواحل البحر الأسود، ناهيك عن تمرّد العلويين والأكراد.
ورغم تشعب أسبابها بين الاحتجاج على سياسات التتريك، وبين الرغبة في الانفصال بدعم خارجي، لعب زعماء المناطق ذات النظام القبلي دورًا مركزيًا ومشتركًا في جميع حركات التمرد. ولعلّ أبرز الحركات التي حدثت بدافع الانفصال هي تلك التي وقعت في قلب وجنوب شرق الأناضول، منها: تمرّد علي باتي، وعلي غالب والي إلازيغ (1919)، وتمرد النسطوريين (الآشوريين) (1924)، إضافة إلى تمرد السهوب الأولى (1919)، وتمرد السهوب الثانية من العام نفسه في قونية، تلاها انتفاضة قونية (1920).
في حين صُنّفت حركة أنزافور (1919-1920) كأخطر تمرد نظمته قبائل شركسية، وتمرد دوزجه الأولى (13 أبريل/نيسان – 31 مايو/أيار 1920)، تلتها تمرد دوزجه الثانية من العام نفسه، وكذلك تمرد زيلي (Zile) في توكات، وتمرد يوزغات الأول، وتمرد دميرجي محمد إيفي في أفيون.
“لوزان” الرسالة الحاسمة
أيقن النظام الجمهوري أن نجاح نهجه مرهون بإعادة هندسة هوية العشائر والأقليات وعثمانيي دول البلقان والقوقاز، المنحدرين من أعراق وأديان مختلفة، بما يتوافق مع هوية الجمهورية التركية المنشودة.
نظرت الجمهورية التركية إلى “الأقليات” في معاهدة لوزان، من منظور الدولة، بصفتهم جماعة من المجتمع التركي، وجعلتهم على قدم المساواة مع المواطنين الأتراك، من خلال القواعد القانونية الجديدة التي وضعتها في المجالات “الدينية، والخيرية، والاجتماعية، والتعليمية، والصحية، والثقافية”.
وعليه، جاءت مطالب تركيا في معاهدة لوزان (1923) كرسالة حسم مباشرة للمؤسسات الدينية والثقافية التي تتأتمر بها أقليات وعشائر تركيا منذ مرحلة ما قبل الجمهورية، حيث وجدت أن استمرار عملها بصيغتها الحالية في النظام الجمهوري، دون تقديم تنازل عن امتيازات لها، “أمر غير ممكن.
مضت تركيا نحو أبعد من ذلك، إذ أيقنت أن احتكام المؤسسات الدينية لقوانينها من شأنه أن يخلق ازدواجية قانونية وإدارية تهدد وحدة البلاد، فارتأت تحييد القوانين الدينية لصالح قانون مدني جامع وممثل عن كل مكونات المجتمع.
ومع إعلان المادة (42) من الدستور المدني لعام 1926، بدأت بالفعل بعض الأقليات بالتنازل طوعًا عن حقها في الاحتكام إلى قوانينها الخاصة بالأحوال الشخصية. وفي هذا الصدد، تنازلت الحاخامية الكبرى والبطريركية عن العديد من الامتيازات التي كانت تتمتعان بها سابقًا، في المقام الأول في إطار القانون المدني والممارسات الأخرى.
كذلك، ألزمت تركيا جميع الأقليات بالقبول بسياسات التجانس والاندماج مع السكان الأصليين، وتنحية لغاتهم وثقافاتهم عن الاستخدام والتداول في المدارس ووسائل الإعلام، مقابل الحفاظ على حقوقهم الدينية، والاعتراف باللغة التركية كلغة رسمية للبلاد.
ورغم ذلك، عانى المجتمع التركي من حالة استقطاب متعدد الأبعاد؛ سياسيًا، وعرقيًا، ودينيًا، جعله يتعامل بحزم مع الأقليات، وانقلب تدريجيًا من حالة صلح إلى صراع في المجتمع. ونتيجة لذلك، أصبح مفهوم “الأقلية/الآخر” في نظر المجتمع التركي محصورًا في كل من هو خارج عن محور (تركي، مسلم، سني)، يقابله (كردي، علوي، غير مسلم). ولعل أكثر الأقليات بروزًا في طور الاستقطاب يتصدرها الأكراد والعلويون.
علويون وشركس وأكراد
العلويون
منذ إعلان الجمهورية، عاشت تركيا أحداث تمرد نظمتها قبائل العلويين، أهمها تمرد الشيخ سعيد (1925)، الذي قام بدعم بريطاني ضد التتريك، تلاه تمرد أرارات (1927–1930)، وتمرد درسيم.
شكّلت أحداث درسيم، أو ما تعرف بـ”دار الفضة”، التي تتربع شرق الأناضول، مرحلة مفصلية في تاريخ تركيا. يقطن تلك المنطقة مجتمع كردي علوي ذو طابع قبلي، ذاع صيتها بحركات التمرد، وبأغاني نسائها عن الحرب. فبين عامي 1907 و1908، شهدت المنطقة إحدى عشرة عملية عسكرية، عكست مستوى التنظيم والتسليح الذي وصل إليه الأهالي في المنطقة، بعد حصولهم على إمدادات بسبب الحرب العالمية الأولى.
وفي عهد الجمهورية، بقيت العسكرة هي الحكم الفصل في أحداث التمرد التي عصفت بـ”درسيم”، لإضعاف النفوذ العشائري، وتهميش الاحتكام إلى ثقافة الأضرحة، والقضاء على التمرد المدعوم من دول خارجية، كخطوة للمضي نحو الجمهورية. ولعل أبرز العمليات العسكرية هي حركة بولمور (Pülmür Hareketi)، التي تم تنفيذها عام 1930 بطائرات عسكرية.
في فترة التعددية الحزبية، عاشت الأقليات بحرية دينية واسعة، ازداد التعليم الديني، وأنشطة الطوائف الدينية في المحافظات، وبدأ وصول أصوات الأقليات إلى السياسة عبر “الحزب الديمقراطي” عام 1950، مُنحوا على إثرها امتيازات دينية وسياسية، التي تكللت مع إعلان دستور 1961، الضامن للحقوق وحريات الرأي والتعبير، وأعيد إحياء نشاط عناصر المجتمع المدني، كالجماعات الدينية، وأصحاب العمل، والنقابات العمالية، وجماعات الفلاحين، ووسائل الإعلام، وجرى ترشيح الأقليات ليصبحوا مرشحين برلمانيين في انتخابات عام 1946.
في تلك الفترة، تأسست أولى الجمعيات العلوية، وأقامت جمعية “ترويج حاجي بكتاش” حفل جمعة في أنقرة عام 1963، وبدأت الصحافة المكتوبة العلوية بالظهور أيضًا، وتم تأسيس أولى المجلات والصحف العلوية مثل “جم” و”أهليبايت”، يديرها العلويون وتعمل كوسيلة لهم لمخاطبة الأمة والرأي العام. وفي عام 2003، تأسست “رئاسة الشؤون الدينية العلوية” بتوجيه من الحكومة التركية لخدمة العلويين ونشر تعاليم دينهم، وترافق ذلك مع افتتاح مراكز ثقافية جديدة للبكتاشية.
في الواقع، نجح العلويون في الخروج من عباءة الدين كنهج سياسي سلطوي، والتماهي مع نهج الجمهورية التركية، فاعتمدوا اللغة التركية كوسيط لغوي لعباداتهم على حساب لغتهم العربية، وأدرجوا عناصر أصيلة من الثقافة التركية في طقوسهم، ما جعلهم يُعرفون بأنهم مسلمون أتراك، ونجحوا في إيجاد هامش مشترك للمفاهيم الاجتماعية، مكنهم من الفوز بقبول اجتماعي بدرجة أكبر من باقي الأعراق والإثنيات الدينية المتوزعة في تركيا.
ولعل نجاحهم انعكس في الخسارات المتلاحقة التي مُني بها “حزب التوحيد”، الحزب اليتيم الذي تأسس بدافع تمثيل العلويين كطائفة دينية لا كمواطنين، في عدة مدن بانتخابات أعوام 1968 و1973 و1977.
غير أن الوعي الجمعي التركي واجه اختبارًا سياسيًا مفصليًا أثبت نجاحه في تحييد هوياته المتعددة لصالح إعلاء الهوية الوطنية؛ ففي التاسع من تشرين الأول لعام 1998، أدلى رئيس “حزب الفضيلة” المنحل، رجائي قوطان، تصريحًا أمام البرلمان، قال فيه: “إن سوريا تحكمها أقلية 10٪ تُسمّى النصيريين، ولديهم نوع من الفهم العلوي المنحرف، بينما 90٪ من البلاد هم من السنة”. أثار التصريح موجة استياء بين السياسيين، وتسبب في سخط واسع بين عموم المواطنين، مطالبين إياه بالاعتذار، لما في تصريحه من شرخ للهوية التركية، وطعن بوحدتها.
أما إعلاميًا، بقي العلويون يعيشون في الخفاء، حتى استطاعوا الانخراط في السياسة بشكل أعاد تعريف “العلويين” في الصفحات الأولى من وسائل الإعلام المطبوعة، وهو ما مكّنهم من انتزاع اعتراف من الحكومة التركية بتنظيماتهم الاجتماعية ومؤسساتهم الثقافية في البلاد. وفي هذا الصدد، عكست الصحافة المحلية، بين عامي 1992 و2002، ولاء العلويين للدولة، واصطلحت على منحهم هوية اجتماعية وسياسية بصفتهم “علويين” في الدولة، بعد أن كانوا يُلقبون بـ”النصيريين” كمسمّى ديني.
تميل عدد غير قليل من الأدبيات إلى تأطير صراعات العلويين بأنها نزاعات “علوية” سببها معتقداتهم الدينية، في حين أن حقيقة النزاعات كانت ناتجة عن صراعات سياسية أو اجتماعية، لم يكن دافعها التمييز، وإنما التناحر الاجتماعي والاقتصادي مع الحكومات المتعاقبة على قيادة تركيا، باستخدام الاختلاف الديني والأيديولوجي كأداة لتوجيه التمردات.
الشركس
أما الشركس، فقد واجهوا صراعًا مسلحًا مع سكان الأناضول على الأراضي. ولعل أبرز مشكلاتهم تكمن في سن الدولة إجراءً أمنيًا يقضي بإعادة توطين المهاجرين في مناطق محددة، ضمن هندسة ديمغرافية تهدف إلى التحكم بإقامة كل فئة اجتماعية بشكل يضمن اندماجها في الكل العام، ويمنع من ظهور تكتلات أو دويلات حدودية.
وكما العلويين، نجح الشركس في تحقيق توازن ملموس بين هوياتهم وثقافتهم ولغتهم وبين ثقافة المجتمع التركي، فحفاظهم على لغتهم لم يمنعهم من تعلم اللغة التركية وإتقانها، من خلال الانتساب لجمعيات شركسية أخذت على عاتقها تعليم اللغة والثقافة التركية منذ السنوات الأولى لقيام الجمهورية التركية، في خطوة نحو بناء الثقة مع الدولة.
الأكراد
في حين، عاش الأكراد في عزلة عن الجمهورية التركية حتى عام 1978، حيث اقترنوا بـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي أصبح ثالث أبرز قضية تؤرق المجتمع التركي بعد البطالة والاقتصاد، وخلقت تصورًا لدى 71٪ من المجتمع التركي بأن الكرد انفصاليون.
تسبب هذا الحال في جعل الهوية الكردية أكثر الهويات العرقية بروزًا في تركيا (Milliyet, 2006). ورغم الخلافات السياسية بين المواطنين الأتراك والكرد، إلا أنهم متشابهون في ردود أفعالهم تجاه القضايا الاجتماعية، واستعدادهم لإقامة علاقات (زواج، صداقة، جار في السكن، زميل عمل… إلخ) دون حدوث أي شرخ اجتماعي، وأطّرت حقيقة أن المسافة الاجتماعية القائمة على أساس الأحزاب السياسية المتصارعة في تركيا، أكبر من المسافة الاجتماعية القائمة على أساس العرق (كردي – تركي)، أو الدين (سني – علوي) (Bilgiç, 2014).
في الوقت الذي كان لا يزال استخدام الأقليات للغاتهم في الحياة السياسية والمجال الإعلامي محظورًا، سُمح لوسائل إعلام ناطقة باللغة الكردية بالعمل والبث من الأراضي التركية بدعم حكومي، ولعل أبرزها قناة TRT Kürtçe.
ومع صعود المجتمع المدني في البلاد إلى الواجهة، استعادت الأحزاب والنقابات والجمعيات دورها، وصارت أكثر انفتاحًا على المنظمات غير الحكومية، وأمسى البث الإذاعي والتلفزيوني الخاص متاحًا، وصار ذكر مصطلح “الأقلية/يات” موضع استياء ونفور، حتى لو كان ذلك في سياق البحث العلمي.
سوريا ليست تركيا ولكن..
إن ما تعيشه سوريا ليس مجرد مرحلة انتقالية فحسب، إنما تخوض ما يشبه ميلاد جمهورية تصوغ عقدًا اجتماعيًا جامعًا، تعيد من خلاله تشكيل هويات كل مكونات المجتمع وفق معايير الانتماء والمواطنة.
لكن غلبة المنظور المجتمعي في التعامل مع المكونات الاجتماعية ذات “الأقلية” على منظور الدولة والقانون، قد يجعل الهوية السورية أكثر انقسامًا على نفسها، ويُبطئ من فرص الوصول إلى الاستقرار المأمول في سوريا.
ينطوي المنظور الراهن في تصنيفه لـ”الآخر”، على احتكام السوريين أولًا إلى تجاربهم المباشرة، مع ما كابدوه من اعتقال، وإبادة جماعية، وحصار، وقصف بالبراميل المتفجرة، وتجويع، وتهجير، ومكاشفة المتورطين عن المذبحة السورية في قول، أو فعل، أو صمت، بأي سبيل عقابي أو إقصائي ممكن.
ولطالما أن النظر في مظالم السوريين معطّل على نحو جزئي، بات التصنيف الحالي أكثر صرامة، يوشك أن يُحوّل جميع السوريين في نهاية المطاف إلى أقليات، ليشمل كل من عاش فيما عُرف سابقًا باسم “مناطق النظام”، حتى سقوطه، بتهمة “التواطؤ”.
ولعل صرامة التصنيف الحالي ليست إلا وجهًا من أوجه الألم السوري، الذي لا يزال في حالة حداد مفتوح، ينتظر إنصاف دستور سوريا الجديد، ليكون العروة الوثقى المأمول عقدها لبناء الثقة مع الجميع، وللمضي نحو القبول المجتمعي المنشود.