في تطور مفاجئ، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن إطلاق خمسة صواريخ من لبنان باتجاه شمال الأراضي المحتلة، اعترض منها ثلاثة في المطلة (6 كم عن الحدود اللبنانية) التي دوت فيها صفارات الإنذار مرتين على الأقل، فيما سقط اثنان في الأراضي اللبنانية، في عملية هي الأولى منذ سريان اتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
وقال جيش الاحتلال عبر إذاعته الرسمية إن الصواريخ أُطلقت من أرنون ويحمر الشقيف، على بُعد حوالى ستة كيلومترات من المطلة، مضيفًا أن رئيس الأركان العامة إيال زامير ” أجرى تقييمًا للوضع عقب إطلاق الصواريخ من لبنان صباح اليوم، وسيرد جيش الدفاع الإسرائيلي بشدة على الهجوم الذي وقع” محملا تتحمل الدولة اللبنانية مسؤولية الالتزام بالاتفاق.
#عاجل | مصدر عسكري لبناني للجزيرة: تحقيق أولي يظهر أن الصواريخ التي أطلقت باتجاه الأراضي المحتلة هي من طراز قديم، ولا معطيات حاسمة عن الجهة التي أطلقت الصواريخ والتحقيق يشمل جهات عدة pic.twitter.com/4PIvb7rYKM
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 22, 2025
وردًا على تلك الصواريخ الخمسة، شنت مدفعية الاحتلال قصفًا مكثفًا استهدف أطراف يحمر الشقيف، وبين حولا ومركبا بالتزامن مع تمشيط مكثف من قبل قوات المحتل التي نفذت هجوما بالأسلحة الرشاشة من تلة الحمامص باتجاه أطراف الخيام وسهل الخيام، بحسب ما أعلنت مراسلة صحيفة “الأخبار” المقربة من حزب الله، فيما نقلت صحيفة “هآرتس” عن الجيش الإسرائيلي أنّه غير قادر على تحديد الجهة التي أطلقت الصواريخ على المطلة حتى الآن، بشكل دقيق، وأن القصف الذي تم هو خطوة أولى نحو الرد قد تتوسع مستقبلًا.
وفي الوقت الذي لم يتبنَّ فيه “حزب الله” أو أي جهة أخرى حتى الساعة عملية الإطلاق، حمّل وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، الحكومة اللبنانية مسؤولية أي إطلاق نار من أراضيها، منوهًا أنّ “المطلة مقابل بيروت”، وأضاف : “لن نسمح بحقيقة تكرار إطلاق النار من لبنان على البلدات الإسرائيلية في الجليل”، وتابع “لقد وعدنا بتوفير الأمن لبلدات الجليل وهذا ما سيحدث بالضبط”.
سياق مهم
لا يمكن قراءة التطورات على المشهد اللبناني بمعزل عما يدور في المحيط الإقليمي حيث استفاقة مفاجئة لغزة و”جبهات الإسناد” خلال الساعات القليلة الماضية، بعد فترة تهدئة دامت لعدة أشهر:
– على الجبهة الغزية.. قصفت كتائب القسام تل أبيب، ظهر الخميس 20 أذار/ مارس الجاري، برشقة صاروخية، للمرة الأولى منذ أشهر، “ردًا على المجازر الصهيونية بحق المدنيين” حسب بيانها المقتضب، لتدوي صافرات الإنذار في الداخل الإسرائيلي، وذلك بعدما استأنف الاحتلال عملياته ضد القطاع فجر الثلاثاء 18 آذار/مارس الجاري، والتي أسفرت عن ارتقاء 710 شهيدًا وأكثر من 900 جريح، 70% منهم من الأطفال والنساء، معظم إصابتهم خطيرة.
– على الجبهة اليمنية.. قصف الحوثيون الأراضي المحتلة بثلاثة صواريخ في غضون الـ 48 ساعة الأخيرة، حيث دوت صافرات الإنذار في تل أبيب والقدس واللد وبات يام وجفعتايم وهرتسليا وحولون وجفعات شموئيل ومبسيرت تسيون وموديعين، مما أسفر عن إصابة 13 شخصًا أثناء توجههم إلى الملاجئ، وعانى ثلاثة من نوبات هلع، دون تسجيل إصابات خطيرة، بحسب ما أفادت هيئة الإسعاف الإسرائيلية.
فيما وجهت القوات المسلحة اليمنية التابعة للحوثيين تنبيها لكافة شركات الطيران، مشددة على أن مطار بن جوريون أصبح غير آمن لحركة الملاحة الجوية وسيستمر على حالته تلك حتى وقف العدوان على غزة ورفعِ الحصارِ عنها، وفي ذات السياق هاجم الحوثيون أكثر من مرة حاملة الطائرات الأمريكية هاري ترومان في البحر الأحمر.
وكان المتحدث العسكري باسم “الحوثيين” العميد يحيى سريع، قد كشف في بيان مصور له أن تلك العمليات تأت “نصرة للشعب الفلسطيني المظلوم وإسنادًا لمقاومته العزيزة الباسلة” وأن الجماعة لن تتوقف عن عملياتها حتى يٌرفع الحصار المفروض على شعب غزة ووقف إطلاق النار بشكل كامل.
بيروت تحذر من الاستدراج
العملية أثارت قلق وحفيظة السلطات اللبنانية التي حذرت من خروج الوضع عن السيطرة، حيث أدان رئيس الجمهورية، جوزاف عون، ما أسماه “محاولات استدراج” لبنان مجددًا إلى دوامة العنف، معتبرًا أنّ “ما حصل اليوم في الجنوب، وما يستمر هناك منذ 18 شباط/فبراير الماضي، يشكل اعتداءً متماديًا على لبنان وضربًا لمشروع انقاذه الذي أجمع عليه اللبنانيون”، داعيًا القوى المعنية في الجنوب اللبناني كافة، ولاسيما لجنة المراقبة المنبثقة عن اتفاق تشرين الثاني/نوفمبر 2024، والجيش “إلى متابعة ما يحصل بجدية قصوى لتلافي أي تداعيات، وضبط أي خرق او تسيّب يمكن أن يهدد الوطن في هذه الظروف الدقيقة”.
من جانبه حذر رئيس الوزراء، نواف سلام من تجدد العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية لما تحمله من مخاطر جرّ البلاد إلى حرب جديدة تعود بالويلات على لبنان واللبنانيين، وبحسب رئاسة الوزراء اللبنانية فإنه أجرى اتصالًا بوزير الدفاع، ميشال منسى، شدد خلاله على ضرورة اتخاذ كل الإجراءات الأمنية والعسكرية اللازمة، بما يؤكد أن الدولة وحدها هي من يمتلك قرار الحرب والسلم.
كما اتصل بالممثلة الشخصية للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، جانين بلاسخارت، مطالبًا الأمم المتحدة بمضاعفة الضغط الدولي على إسرائيل للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة بشكل كامل، لما يشكله هذا الاحتلال من خرق للقرار الدولي 1701 وللترتيبات الخاصة بوقف الأعمال العدائية الذي أقرته الحكومة السابقة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ويلتزم به لبنان.
الرئيس اللبناني #جوزيف_عون: ما حصل اليوم في الجنوب يشكل اعتداء متماديا على البلاد وضربا لمشروع إنقاذها#لبنان #الحدث #قناة_الحدث pic.twitter.com/SkkMLCiuLd
— ا لـحـدث (@AlHadath) March 22, 2025
وكان رئيس الجمهورية قد طالب من قائد الجيش رودولف هيكل، اتخاذ الاجراءات الميدانية الضرورية للمحافظة على سلامة المواطنين، والتحقيق لجلاء ملابسات ما حصل، ليعلن الجيش بعد ساعات قليلة من هذا التكليف عن عملية مسح شاملة أسفرت عن العثور على 3 منصات صواريخ بدائية الصنع في المنطقة الواقعة شمال نهر الليطاني، بين بلدتَي كفرتبنيت وأرنون – النبطية، حيث عمل على تفكيكها، متعهدًا باستمرار الوحدات العسكرية في اتخاذ التدابير اللازمة لضبط الوضع في الجنوب.
ولاشك أن حكومة الاحتلال ستحاول توظيف هذا التطور كورقة ضغط ضد الرئيس عون وحكومته لدفعهما لبذل جهود مكثفة لتطهير الجنوب من أي نقاط ارتكاز لـ”حزب الله”، والعمل على توسيع عمليات الجيش هناك بما يجهض أي مساعي أو محاولات حزبية للنهوض مرة أخرى، وفي الوقت ذاته استغلاله كذريعة لبقاء قوات الاحتلال في النقاط الخمسة التي حددها في الجنوب اللبناني.
مقاربات ثلاثة
تأت العملية، التي لم يتبناها أي فصيل حتى كتابة تلك السطور، مستندة إلى 3 مقاربات رئيسية:
أولها: الضغوط الأمريكية الممارسة على الحكومة اللبنانية لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، حيث الأنباء التي أثيرت مؤخرًا بشأن محادثات أجرتها الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس مع السلطة اللبنانية، طلبًا للتفاوض السياسي مع تل أبيب، والتي قيل إن الموفدة الأمريكية استخدمت خلالها لغة التهديد لتفعيل هذه المفاوضات، وهي الضغوط التي أثارت جدلًا كبيرًا لدى الشارع اللبناني الرافض لمثل تلك الابتزازات التي تنتهك السيادة اللبنانية وتقوض استقلالية قرارها السياسي.
ثانيها: الانتهاكات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني.. ارتكبت قوات الاحتلال منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أكثر من 1091 خرقا، خلّف 84 شهيدا و284 جريحا على الأقل، وفق بيانات رسمية لبنانية، وذلك رغم التزام الجانب اللبناني الذي اضطر لابتلاع تلك الخروقات حفاظا على الاتفاق.
وبدلا من إتمام انسحاب عناصر الاحتلال من الجنوب اللبناني، بحلول فجر 26 كانون الثاني/يناير الماضي، بحسب الاتفاق، تنصلت حكومة الاحتلال من التزاماتها وماطلت بالإبقاء في 5 تلال داخل الأراضي اللبنانية على طول الخط الأزرق، بدعوى ترتيبات أمنية وضمان ألا يشكل الجنوب نقطة تهديد للأراضي المحتلة، وهو ما قوبل بالرفض اللبناني الذي طالب المجتمع الدولي بالتدخل لإجبار الإسرائيليين على الانسحاب.
ثالثها: العربدة الإسرائيلية والانتهاكات الممارسة على أكثر من جبهة، حيث استئناف الحرب في غزة ونسف الاتفاق بعد انتهاء المرحلة الأولى وعرقلة كافة الجهود الرامية للدخول في بقية المراحل، وسقوط المئات من الشهداء بعد ساعات قليلة من عمليات القصف في مناطق مختلفة من القطاع، هذا بخلاف التغول أكثر في العمق السوري والتمدد البري في العديد من المناطق وصولا إلى ريف دمشق.
خلق معادلة جديدة
بعيدًا عن الجهة التي تقف وراء تلك العملية، وما إذا كانت “حزب الله” أو أي فصيل آخر حديث النشأة، فإن ما حدث أربك حسابات حكومة الاحتلال بشكل كبير، ووضع نتنياهو والجيش في مأزق، خاصة فيما يتعلق بمسألة عودة سكان الشمال، حيث نسفت الصواريخ الثلاثة التي انفجر إحداها في المطلة بحسب ما نشرته بعض الوسائل الإعلامية المقاربة الأمنية المطروحة على الطاولة وشككت في السردية الإسرائيلية الخاصة بتطويق الجليل وأجوارها بحزام أمني لا يمكن اختراقه.
وهذا ما أكده رئيس مستوطنة المطلة ديفيد أزولاي، الذي قال إن نسبة العودة إلى البلدة منذ إعلان وقف إطلاق النار لا تتجاوز 10% من السكان، مشيرًا إلى أن الوضع الأمني لا يزال غير مستقر، وأضاف خلال حديثه لموقع “واينت” العبري أنه : “يجب القضاء على حزب الله، وهذا ما يجب أن نسعى إليه”، موجّهًا رسالة مباشرة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قال فيها: “انشغل بتوفير الأمن لمواطني إسرائيل بدلًا من الانشغال بأمور فارغة”.
وتابع أزولاي “نزور أولئك الذين عادوا إلى بيوتهم، لنستوضح كيف يشعرون.. قائد المنطقة الشمالية أوري غودين أعلن مطلع الشهر عن أنه لا يوجد ما يمنع عودة السكان.. لكننا لن نقبل بالعودة إلى واقع 6 أكتوبر، وأرغب في تذكير الجميع، 23 عامًا من التقطير (إطلاق نار متقطع من لبنان)، وهذا ما يحاول الجيش والقيادة الشمالية وحكومة إسرائيل تطبيعه، لن نسمح لهم بذلك”.
الصواريخ اللبنانية رغم عدم إحداثها لأي خسائر في الأرواح، لكنها بثت الرعب في نفوس المستوطنين في الشمال، ما أسفر عن إصابة 13 منهم بسبب التدافع أثناء الهرولة نحو الملاجئ، وهي المعادلة التي تحاول الجهة التي تقف خلف تلك العملية -أيا كان مسماها وهويتها- فرضها على المشهد، تلك المعادلة التي تقر بأنه لا أمان ولا ضمانات لعودة الشماليين طالما استمرت الانتهاكات الإسرائيلية.
يسرائيل هيوم عن رئيس بلدية المطلة: التهديد الأمني حقيقي وعودة السكان للبلدة في ظل الظروف الحالية أمر غير مقبول pic.twitter.com/WIyweI3TMG
— Sawt Beirut International (@SawtBeirut) March 22, 2025
وأثارت الرسالة الواضحة والمباشرة لتلك الرشقة الصاروخية، والتي تفند بشكل كبير مزاعم الاحتلال بالقضاء على “محور المقاومة” بشكل كامل، قلق وحفيظة وزير الحرب الإسرائيلي الذي يسابق الزمن للتصدي لتلك المعادلة المطروحة عبر معادلة أخرى تتفق والرؤية الإسرائيلية، “المطلة مقابل بيروت”، وذلك بعد أشهر قليلة من المعادلة السابقة التي كان قد حاولها “حزب الله” اللبناني “تل أبيب مقابل بيروت”، قبل أن يتعرض لما تعرض له جراء الضربات المتتالية التي تلقاها وأحدثت خللًا كبيرًا في بنيته التنظيمية والتسليحية.
ستحاول حكومة نتنياهو بطبيعة الحال قطع الطريق أمام أي محاولة لفرض معادلات جديدة مغايرة لتلك التي فرضها المحتل بالقوة العسكرية، سواء في الجنوب اللبناني أو في قطاع غزة، أو حتى في البحر الأحمر، وسيتوقف هذا الأمر على مدى التناغم والتنسيق بين الجبهات الثلاثة، لبنان واليمن وغزة، وقدرتها على خلق معادلة مختلفة، تضغط على الحكومة العبرية للجلوس على مائدة المفاوضات وإبداء المزيد من المرونة تعاطيًا مع الجهود الدبلوماسية المبذولة لوقف إطلاق النار.