يشهد العراق فوضى كبيرة في انتشار السلاح بين العراقيين ولدى مختلف شرائح المجتمع في ظاهرة باتت سمة واضحة منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، حيث ينتشر السلاح الخفيف والمتوسط لدى العشائر وفصائل مسلحة وحمايات المسؤولين ولدى المواطنين.
ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومة العراقية في السنوات الخمس الماضية، غير أن الظاهرة لا تزال تؤرق العراقيين، لا سيما بعد الحادثة الأخيرة التي وقعت في منتصف العاصمة بغداد قبل أيام والتي أسفرت عن مقتل صحفي عراقي.
ليس هذا فحسب، فالعراق يعايش حالة فريدة من انفلات السلاح في ظل امتلاك فصائل مسلحة أسلحة متوسطة وثقيلة، وهو ما تسبب بالعديد من الاشتباكات التي كادت أن تؤدي لما لا يحمد عقباه، كان أبرزها التي اندلعت داخل المنطقة الخضراء بين فصائل مسلحة ومسلحي التيار الصدري عام 2022.
فوضى السلاح هذه باتت تؤثر بشكل مباشر على استقرار البلاد بعد تهديد واشنطن لبغداد بضرورة حصر السلاح بيد الدولة وحل الفصائل ونزع أسلحتها، حيث تصاعدت حدة ضغوط الولايات المتحدة بعد تسلم دونالد ترامب سدة الرئاسة في البيت الأبيض قبل نحو شهرين.
فوضى السلاح
قبل أيام أكدت وزارة الداخلية العراقية مقتل الصحفي ليث محمد رضا الذي يعمل في وكالة الأنباء العراقية الرسمية إثر مشاجرة في الشارع، فيما أكدت بعض المواقع الصحفية العراقية أن أحد حمايات المسؤولين العراقيين أطلق النار على الصحفي وأرداه قتيلًا على الفور.
وينقسم السلاح المنفلت في العراق الى قسمين، الأول السلاح التابع للفصائل المسلحة التي تتبع رسميا للحشد الشعبي وتخضع لأوامر رئيس الوزراء وفق القانون، إلا أن الواقع يؤكد أن لا سلطة فعلية للحكومة على بعض هذه الفصائل مع عدم قدرة الدولة العراقية حتى الآن على حصره بسبب نفوذ الأحزاب السياسية وارتباط هذه الفصائل بأيديولوجيا دولة إقليمية مجاورة للعراق، فضلًا عن السلاح المنتشر لدى الحمايات التابعة للمسؤولين والمتنفذين في الأحزاب.
أما القسم الثاني هو السلاح لدى العشائر العراقية في مختلف مناطق البلاد، لا سيما في الوسط والجنوب، حيث تسجل البلاد شهريا اشتباكات دموية بسبب الخلافات العشائرية، وعادة ما يذهب ضحيتها العديد من الأبرياء.
ويشمل السلاح المنفلت في البلاد مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، باستثناء الطائرات الحربية والمروحية، حيث يؤكد مهند حسين وهو ضابط في الجيش العراقي السابق في حديثه لـ “نون بوست” أن مخازن الجيش العراقي تعرضت جميعها للسلب والنهب عقب الغزو الأميركي، وأن الجيش الذي شكلته الولايات المتحدة بعيد الغزو لم يعتمد على السلاح أو الذخيرة القديمة، بما يعني أن هذا السلاح والذخيرة تسربت للعراقيين بمختلف مشاربهم.
ويشكل ذلك تحديًا كبيرًا للسلم الأهلي في البلاد، فضلًا عن تهديده السيادة العراقية ذاتها، حيث أن مؤشر عدم الأمان وانتشار السلاح خارج إطار الدولة لا يزال يؤثر بشكل سلبي على النمو الاقتصادي في البلاد واستقدام الاستثمار الأجنبي الرصين، إضافة إلى أن المستثمرين باتوا متخوفين من الدخول إلى السوق العراقي بسبب عدم استقرار البلاد سياسيًا وأمنيًا وحتى اقتصاديًا.
وكان العراق احتل العام الماضي المرتبة الثامنة عربياً، فيما حل بالمركز 80 عالميا من أصل 146 دولة بمؤشر الجريمة لعام 2024، وفقاً لموقع “نامبيو” المعني بتقديم بيانات ومعدلات الجريمة حول دول العالم.
من جانبه يقول الخبير الأمني “رياض الزبيدي” في حديثه لـ “نون بوست” إن مشكلة انتشار السلاح في العراق تعد مركبة ومعقدة للغاية، إذ أن عدم الاستقرار السياسي ونفوذ الأحزاب الكبير ووجود بعض الفصائل المسلحة التي لا تأتمر بأوامر القيادة العامة للحشد الشعبي والحكومة العراقية، كل هذه العوامل تجعل من الصعوبة بمكان نجاح أي خطة حكومية لحصر السلاح بيد الدولة.
ويرى الزبيدي أنه رغم التحسن الكبير في الوضع الأمني في البلاد وتراجع معدلات الجريمة وتطور وحدات الأدلة الجنائية لدى مديريات الشرطة في المحافظات وتراجع عدد الاشتباكات العشائرية، إلا أن حوادث الاغتيال أو تلك المرتبطة بالفصائل المسلحة والميليشيات والأحزاب عادة ما تكون أكبر من قدرة الأجهزة الشرطية والأمنية على ملاحقتها أو الحد منها بسبب التداعيات السياسية لذلك، وفق تعبيره.
جهود متواضعة
في 15 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي أعلنت وزارة الداخلية العراقية انطلاق حملة رسمية تقودها الوزارة لشراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين في مختلف المحافظات العراقي باستثناء محافظات إقليم كردستان، حيث عرضت الوزارة شراء قطعة السلاح الواحدة بملغ يتراوح بين 1300 دولار صعودا إلى 2700 دولار للقطعة الواحدة وبحسب نوع السلاح وحالته الفنية.
وخصصت الحكومة العراقية نحو 12 مليون دولار لأجل جمع السلاح وشرائه من المواطنين العراقيين، وهو ما يكفي لشراء نحو 6 آلاف قطعة إذا ما تم شراء قطعة السلاح بالحد السعري الأدنى الذي حددته الوزارة.
وتظهر التقديرات غير الرسمية انتشار ما يقرب من 10 ملايين قطعة سلاح غير مرخصة بين العراقيين وأن أكثر من 7 ملايين قطعة منها منتشرة بين عشائر وسط وجنوب البلاد، وهو ما يعلق عليه الباحث الأمني رياض الزبيدي حيث يؤكد أن أي جهود حكومية لحصر السلاح المنفلت لن يكون عن طريق شرائه.
وأوضح أن على الدولة نزع السلاح المتوسط من أيدي العشائر والفصائل ومن المنازل بصورة قسرية، إذ من غير المعقول أن تنفق الدولة ملايين الدولارات على شراء الأسلحة، في الوقت الذي يجب فيه على الدولة حصرها بالقوة.
وفيما يتعلق بإمكانية نجاح هذه التجربة، يرى الزبيدي أن وزارة الداخلية كانت قد أعلنت في أكتوبر الماضي، أنها ستستقبل السلاح الفردي “غير الصالح للعمل” بملغ 400 دولار، وهو ما أدى بالمحصلة لانتعاش السوق السوداء في بيع وشراء الأسلحة وتسليمها للدولة والحصول على أموال طائلة، مبينا أن هذه الخطوة تعد غير مجدية ولن تستطيع الداخلية من خلالها حصر السلاح بيد الدولة أو الحد من انتشاره بين العراقيين على الإطلاق.
وتنص مواد قانون رقم 51 لعام 2017 والمتعلق بحيازة الأسلحة في العراق على شروط حيازة السلاح وتفاصيل ذلك، إضافة إلى تبعات وعقوبات وغرامات مالية لكل من يحوز سلاحا غير مرخص، حيث تناولت المواد 24 و25 و26 العقوبات التي تنوعت ما بين السجن والحبس والغرامات وفق لجسامة الجريمة وكذلك الإجراءات التي على القضاء اتخاذها فيما يتعلق باستيراد الأسلحة وحيازتها.
تداعيات خطرة
ومنذ تولي الرئيس الأميركي الجديد مهامه، تضغط واشنطن على بغداد باتجاه حل الحشد الشعبي ونزع سلاح الميليشيات، إذ يؤكد دبلوماسيون أميركيون أن الفصائل المسلحة تأتمر بأوامر المرشد الأعلى الإيراني، في الوقت الذي بدأ فيه دونالد ترمب بممارسة الضغط الأقصى على إيران دبلوماسيا واقتصاديا.
وفي هذا السياق، يقول الباحث الاقتصادي أنمار العبيدي في حديثه لـ “نون بوست” إن تحذيرات واشنطن لا تزال مستمرة للعراق، بيد أن أي عقوبات على الجانب العراقي فيما يتعلق بعائدات النفط أو عمل المصارف العراقية سيؤدي لتدهور اقتصادي في البلاد وعلى نحو مباشر بما يؤثر على العراقيين في حياتهم اليومية.
ويتابع العبيدي أن الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني تجد نفسها أمام موقف في غاية الصعوبة، بحسب وصفه، مبينا أن مطالب واشنطن بقطع تمويل الحشد الشعبي ومنع وصول الأموال لزعامات الميليشيات يصطدم مباشرةً بالقوانين العراقية التي تعد الحشد الشعبي مؤسسة أمنية رسمية تأتمر بأوامر القائد العام للقوات المسلحة العراقية المتمثل حاليا بشخص رئيس الوزراء.
وفي ختام حديثه، بين العبيدي أن الدبلوماسية العراقية لا تزال صامدة حتى الآن في محاولة إقناع واشنطن بعدم جر العراق لبند العقوبات أو أي عمل أميركي آخر من شأنه أن يقوض العلاقة بين بغداد وواشنطن، بحسبه.
ويترقب العراقيون التطورات السريعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في ظل تعقيدات أمنية كبيرة لم تشهدها المنطقة منذ عقود.