منذ اندلاع الثورة السورية، شكّل المقاتلون الأجانب عنصرًا فاعلًا في المشهد الميداني، لا سيما في صفوف هيئة تحرير الشام، التي باتت تمثّل الركيزة الأساسية في هيكل الحكومة السورية الجديدة.
ورغم تراجع الحديث عن هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، عادت قضية “المقاتلين الأجانب” إلى الواجهة مؤخرًا، بوصفها إحدى أكثر الملفات حساسيةً وتعقيدًا، وذلك بعد تداول مزاعم تفيد بتورّط بعضهم في عمليات قتل استهدفت مدنيين خلال أحداث الساحل السوري.
خلال الأيام التي أعقبت محاولة الانقلاب على الحكومة السورية الجديدة في الساحل السوري وما رافقها من عمليات قتل وانتهاكات بحق المدنيين، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية لاستثمار الموقف، والتحدث عن وجود مقاتلين أجانب متشدّدين ينتمون رسميًا إلى صفوف الحكومة السورية.
وقالت الخارجية الأمريكية في بيان على منصة “إكس”: “تدين الولايات المتحدة قيام إرهابيين إسلاميين متطرفين، وبما فيهم جهاديّون أجانب، بعمليات قتل في غرب سوريا في الأيام الأخيرة”.
المقاتلون الأجانب في سوريا
لا يُشكّل المقاتلون الأجانب سوى جزء ضئيل من إجمالي القوة القتالية للجيش السوري الجديد، إذ يُقدّر عددهم بـ 2500 شخص، وكانوا موزّعين على الألوية والمجموعات التابعة لهيئة تحرير الشام على أساس غير عرقي، كالمصريين والأوروبيين، وعلى أساس عرقي، كالشيشان والأوزبك والطاجيك والكُزَخ وغيرهم.
وشهد بقاؤهم، الذي شكّل نوعًا ما تأثيرًا في التوازن العسكري، تحوّلات أيديولوجية مع الهيئة المرتبطين بها، والتي تبنّت القتال ضد النظام البائد على الأراضي السورية فقط، وتقديمه على الجهادية العالمية، وعدم النشاط العابر للحدود، وهو ما أدّى بالحكومة السورية الحالية إلى اعتبارها مسؤولةً عن حمايتهم، ولا سيما أنهم بقوا على الحياد خلال السنوات الفائتة، التي شدّدت فيها تحرير الشام الخناق على الجماعات الجهادية العاملة في جبهات إدلب وريف اللاذقية، والرافضة لتحوّلاتها آنذاك.
يُعدّ الحزب “التركستاني الإسلامي”، من أكبر الأحزاب التي تضمّ مقاتلين متمرّسين في القتال، منحدرين من إقليم تركستان الشرقية، الذي تسيطر عليه الصين، وهو مرفوع من قائمة الإرهاب الأمريكية لأن عداءهم مع الصين، كما يُعتبرون من أكثر المقاتلين المرحّب بهم في سوريا، لتمتعهم بعلاقات جيدة مع تركيا، وعدم تشكيلهم أيّ ضغط على “تحرير الشام” سابقًا.
خلال مقابلة سابقة للرئيس السوري “أحمد الشرع” مع موقع “Crisis Group” (مجموعة الأزمات الدولية)، في العام 2020، أشار إلى أن الحزب التركستاني لم يُشكّل تهديدًا للعالم الخارجي، وهو ملتزم فقط بالدفاع عن إدلب ضد هجوم النظام.
واعتبر أن “مقاتلي الحزب، وكونهم من الإيغور، واجهوا الاضطهاد في الصين، وبالتالي ليس لديهم أيّ مكان آخر يذهبون إليه، لذلك هم مرحّبٌ بهم طالما أنهم يلتزمون بقواعدنا”.
خلال الشهر الأول من إسقاط النظام، عيّنت القيادة السورية الجديدة بعض المقاتلين الأجانب في مناصب رفيعة ضمن مرتبات وزارة الدفاع بالجيش السوري الجديد، كعبد العزيز داود خدابردي، وهو من الأويغور من منطقة شينجيانغ الصينية، الذي تمّ تعيينه برتبة عميد، إضافةً إلى مولان طرسون عبد الصمد وعبد السلام ياسين أحمد، اللذَين حصلا على رتبة عقيد.
ووفق حديث للرئيس السوري أحمد الشرع، فإن “المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون في صفوف المعارضة المسلحة يستحقّون المكافأة، إذ ساعدوا هيئة تحرير الشام في الإطاحة بنظام بشار الأسد”.
وأضاف، خلال اجتماع بمقر مجلس الوزراء، أنه: “إذا أخذنا في الاعتبار أن الأشخاص الذين كانوا في بلد آخر مدة سبعة أعوام، يحصلون على الجنسية، فيجب أن يكون ذلك خارج نطاق المستحيلات، ويمكن دمجهم في المجتمع السوري إذا كانوا يحملون أيديولوجية وقيم السوريين نفسها”.
إحراج دمشق
بحسب وكالة “رويترز”، فقد أثار كلّ من وزيري خارجية فرنسا وألمانيا، جان نويل بارو وأنالينا بيربوك، قضية المقاتلين الأجانب الذين تمّ تجنيدهم في الجيش، خلال لقائهما مع الرئيس السوري أحمد الشرع، في 3 كانون الثاني/ يناير الفائت.
من جانبه، قال المستشار السابق للشؤون العربية في وزارة الأمن الإسرائيلية، ألون أفيتار، إن وجود المقاتلين الأجانب في سوريا يُشكّل تهديدًا للأمن الإسرائيلي، بسبب غياب الدولة السورية، وحالة عدم الاستقرار التي يعاني منها البلد.
في ذات السياق، وضمن سعي الحكومة الجديدة لإحداث تحوّل في هذه المرحلة الحسّاسة، خرج “أحمد المنصور”، وهو أحد المقاتلين المصريين، داعيًا للإطاحة بالحكومة المصرية من الأراضي السورية، لتُسارع الحكومة إلى اعتقاله، في رسالة موجّهة لكلّ الأجانب في سوريا، تحمل فحوى هامة أن “سوريا لا يمكن أن تكون منصة لتصدير الصراعات والمشاكل الأمنية إلى الدول الأخرى”.
سبق اعتقال المنصور، حادثة إقدام مقاتلين أجانب على إحراق شجرة عيد الميلاد في مدينة السقيلبية بريف حماة ذات الأغلبية المسيحية، فبحسب مقطعٍ مصوّر لقيادي في هيئة “تحرير الشام”، أن من قام بهذا العمل التخريبي هم مقاتلون أجانب، وليسوا سوريين.
وفي مقطعٍ مصوّرٍ آخر، انتقد صانع محتوى داغستاني ما أسماه “تبرّج النساء” في محافظة إدلب، متوعّدًا أنه لن يبقى فيها بعد الآن، بل سيتوجّه إلى العاصمة دمشق للعيش فيها.
وضمن اجتماع للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب (ICCT) ومعهد T.M.C. Asser، تمّت الإشارة إلى أن تورّط المقاتلين الأجانب في الماضي لم يكن يومًا أمرًا جانبيًا، بل أثّر في المشهد العالمي، كالحرب السوفياتية في أفغانستان بالثمانينات التي أدّت إلى تأسيس تنظيم القاعدة، والحرب العراقية التي ساهمت بتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.
ما يجعل من المقاتلين الأجانب ورطة حقيقية للشرع ولسوريا القادمة، في حال لم تُعالج قضيتهم بالطريقة الصحيحة، وبخاصة أن من بين المقاتلين من يؤمن فعلًا بالفكر الجهادي، ولا تتوافق أفكاره مع أفكار الدولة واحترام الأقليات.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الباحث السوري أحمد أبا زيد، أن “هناك فئة من المقاتلين الأجانب الذين هم جزء من مشروع تحرير الشام وتحوّلها نحو الاعتدال، وجزء من المقاتلين الذين انتقلوا إلى حياة مدنية في إدلب، حتى قبل معركة ردع العدوان”.
وأوضح أن “الإشكال المرتبط بالتشدّد أو تبنّي أفكار عنفية أو ممارسة أعمال عنفية لفرض آراء متطرّفة ضد المجتمع السوري المتنوّع، ليس مرتبطًا بالأجانب فقط، بل بالسوريين أيضًا، لذا لا بدّ من تنظيم أوضاع المتشدّدين، ومن ضمنهم الأجانب، ووجود معايير للإدماج في المجتمع أو في مؤسسات الدولة”.
ويؤكّد أبا زيد على ضرورة وجود حرية لتبنّي أفكار قد يراها البعض متشدّدة، ما دامت لا تدعو إلى عنف، أو تُحرّض على العنف بشكل مباشر.
أمّا أزمة المقاتلين الذين قد يقومون بفرض آرائهم بالعنف، فهؤلاء يُشكّلون مشكلة بالنسبة للدولة في الفترة القادمة، في حال استمرّوا خارج الدمج ضمن وزارة الدفاع، فمشكلة الدمج الحالية ضمن وزارة الدفاع تتعلّق بالجميع، بمعنى أنه لم يحصل دمج في الوزارة، وإنما حصلت انضمامات شكلية على مستوى أجسام عسكرية، حسب رأيه.
واعتبر أبا زيد أن عدم الاندماج هو من أهمّ الأسباب لحصول انتهاكات واسعة النطاق في الساحل السوري مؤخرًا، ما يعني أنّ تأخّر حصول الدمج يتيح ثغرات أكبر لممارسات مستقلة عن الدولة، قد تكون ممارسات عنفية لفرض آراء ذات طابع متشدّد، أو لممارسة انتقامات على أساس هذه الأفكار.
اندماج مع السوريين
تشير القيادة السورية إلى أن هؤلاء المقاتلين الأجانب قد يواجهون الاضطهاد في حال إجبارهم على مغادرة سوريا أو إعادتهم إلى أوطانهم، ومن الأفضل لهم الإبقاء عليهم في سوريا، ودمجهم في الجيش الجديد.
في المقابل، فإنّ الكثير من المقاتلين الأجانب استطاعوا تأسيس حياة جديدة في سوريا، عبر الزواج من نساء سوريات، وإنجاب أطفال، وإنشاء أعمال خاصة بهم، كما لم يعد لهم ذلك النفوذ الإيديولوجي والبرامج الدعوية التي بلغت أوجها في السنوات الأولى للثورة السورية، ورغم عوامل اللغة واختلاف الثقافات التي زادت من صعوبة احتكاكهم بالمجتمع المحلي، إلا أنهم استطاعوا، في حدود ضيّقة، تجاوز تلك المشكلة، والتأثّر بالثقافة السورية.
يقول موسى العمر، وهو صحفي سوري مقرّب من القيادة الجديدة: “علينا أن نتفق على أن المتطوّعين الأجانب قاتلوا معنا لعشر سنوات، وخاضوا معارك على جميع الجبهات، وكانوا دائمًا في الخطوط الأمامية. أعتقد أن القيادة الجديدة ستجد حلًّا جديدًا لهم. لن نطرد من قاتلوا معنا. تعتقد القيادة أننا مدينون لهم، لكن لا ينبغي أن يؤثّر ذلك على التركيبة السكانية للبلاد”.
مضيفًا أن “القيادة ستسحق بقبضة من حديد كلّ من يخالف أوامرها، فهذا هو وقت بناء سوريا، ونسيان الثأر والانتقام، والانتقال إلى العدالة القانونية. نرفض رفضًا قاطعًا أي اقتراح بتحويل سوريا إلى قاعدة للجهاد أو تصدير المسلّحين”.
في البوسنة، كان عدد المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب الجيش البوسني في التسعينيات أكبر مما هو في سوريا، ورغم ذلك منحتهم الحكومة البوسنية الجنسية، وتمّ إدماجهم بعد إصدار قانون تجنيس خاص بهم، كذلك أوكرانيا، فقد منحت الحكومة فيلق “المقاتلين الأجانب” الجنسية الأوكرانية.
من جهة أخرى، يمكن معالجة وجودهم بالنظر إلى السيناريو الأفغاني، وهو عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم، على فرضية قبول الدول التي ينحدر منها هؤلاء المقاتلون استعادتهم مع عوائلهم إلى أوطانهم، ودمجهم دون إجراء محاكمات لهم.
أما السيناريو الثاني، والمستبعد، فهو السيناريو البريطاني والإيراني، عبر منحهم حق اللجوء السياسي، كما فعلت بريطانيا مع عدد من عناصر تنظيم القاعدة سابقًا، أمثال: هاني السباعي وأبو قتادة الفلسطيني.
الباحث في الحركات الجهادية، حسن أبو هنية، يشير إلى أن مشكلة المقاتلين الأجانب ستبقى حاضرة تجاه حكومة “الشرع”، عبر الضغوط الأوروبية والأمريكية، وحتى العربية، إلا أنها معضلة وذريعة جرى تضخيمها جدًّا في سوريا، فالأمر يمكن أن يُعالج، وليس بهذه الخطورة التي تُصوّرها الأطراف الأخرى، فهناك مبالغة في وصف الأدوار التي يلعبها هؤلاء الأجانب.
ويُعلّل أبو هنية سبب تضخيم القضية، بأنّ كلّ المقاتلين الأجانب لا يتجاوز عددهم أربعة آلاف مقاتل، على عكس بدايات الثورة، حين تجاوز عددهم ٤٠ ألف مقاتل، فالمجموعة الكبرى بينهم، التي تمّ رفعها أمريكيًّا من لوائح الإرهاب، هي “الحزب التركستاني”، البالغ عددهم ثلاثة آلاف مع عوائلهم.
أما باقي المجموعات، فهم مجموعات مئوية متناثرة، كبقايا حراس الدين المخترقين، ومجموعات شيشانية وفرنسية من أصول أفريقية، ككتيبة الغرباء، وأوزبك كمجموعة الإمام البخاري، ومجموعتي أنصار الإسلام وأنصار الدين، ومجموعة إيرانية صغيرة من سنّة البلوش والأكراد.
ويضيف أبو هنية لموقع “نون بوست” أن هؤلاء المقاتلين كانوا في شمال غرب سوريا تحت جناح هيئة تحرير الشام التي ضبطت إيقاعهم، فكيف الآن وهم يحتاجون جناحًا وسيطرة الدولة السورية، التي يثق بها زعيمها أحمد الشرع؟
أما ناحية المجتمع السوري المتنوّع عرقيًا ودينيًا وإثنيًا، فهناك سهولة في اندماجهم ضمنه، لأن أعدادهم الصغيرة غير قادرة على تغيير بنية وثقافة المجتمع السوري، ولا مستقبل الدولة السورية.
واعتبر أبو هنية أن “سوريا لديها مشاكل أكبر من وجود هؤلاء المقاتلين على أراضيها، فهناك مشاكل الأكراد، وبعض التيارات الدرزية والعلوية الراغبة بالانفصال والتمرّد على الدولة الناشئة”.
بالنظر إلى ما سبق، يبقى ملف المقاتلين الأجانب في سوريا محطّ اهتمام، ومراقبة لسلوكياتهم في المجتمع المتنوّع من جهة، ومن جهة أخرى انصياعهم لقرارات الإدارة السورية الجديدة، وتوقّعاتهم في شأن شكل الدولة التي ينتظرون منها تطبيق الشريعة الإسلامية، وردّات فعلهم إزاء أيّ تغيير مخالف لتلك التوقّعات.