ما بين احتلال بنما عسكريًا، والمطالبة بجرينلاند من الدنمارك، وصولًا إلى فتح “أبواب الجحيم” في الشرق الأوسط، وعشرات التهديدات بالعقوبات الاقتصادية والتعريفات الجمركية، والانسحاب من الناتو، انتهاءً بـضم كندا إلى أمريكا… كل هذه التصريحات شكّلت علامة فارقة في سياسة ترامب، منذ تولّيه الفترة الثانية في الانتخابات الأمريكية عام 2024، ورغم ما يبدو من استحالة تحقق كل ذلك، إلا أن ترامب كان يُنادي بهذه المطالب بجدّية، من موقعه كرئيس للولايات المتحدة.
تشير بعض التحليلات إلى أن ترامب رجل مزاجي، يخضع لتقلّبات وضعه السياسي الداخلي، خصوصًا وأنه تراجع عن كثير من هذه التصريحات، تمامًا كما فعل في فترة رئاسته الأولى بخصوص جدار المكسيك – حيث طالب حينها بأن تتولّى المكسيك بناء الجدار لمنع المهاجرين، على أن تتحمّل هي تكلفته بالكامل!
في الحقيقة، ليست هذه السياسة جديدة في الولايات المتحدة؛ فسياسة تصعيد الأزمات ورفع سقف المطالب إلى حافة المستحيل لم تبدأ مع ترامب، وإنما تعود جذورها إلى عهد ريتشارد نيكسون، وهي سياسة معروفة في الأوساط الأمريكية باسم: “عقيدة الرجل المجنون”!
نيكسون المجنون الأول
في صيف عام 1968، كشف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمساعده بوب هالدمان عن استراتيجيته لإنهاء حرب فيتنام، قائلًا: “أنا أُسميها نظرية الرجل المجنون، بوب. أريد أن أجعل الفيتناميين الشماليين يصدقون أنني وصلت إلى النقطة التي سأفعل فيها أي شيء لوقف الحرب. سنرسل لهم رسالة مفادها: يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية. لا يمكننا كبح جماحه عندما يكون غاضبًا – ويده على الزر النووي. سيصل هو تشي مينه بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام”.
لقد تبلورت نظرية الرجل المجنون في ذهن نيكسون بعد تجربته نائبًا للرئيس دوايت أيزنهاور (1953–1961)، فقد تذكّر كيف نقل أيزنهاور سرًا إلى الصينيين رسالة مفادها أنه سيلقي قنابل نووية على كوريا الشمالية ما لم يتم توقيع اتفاقية هدنة فورًا، وبعد أسابيع قليلة، دعت الصين إلى هدنة، وانتهت الحرب الكورية، كما كتب هالدمان في مذكراته.
سعى نيكسون إلى تطبيق استراتيجية مشابهة – التهديد باستخدام قوة مفرطة لتقويض الخصوم – لكنه عدّلها لتتناسب مع واقع حرب فيتنام. وبصفته رئيسًا، حرص على رسم صورة الزعيم غير المتوقع، غير التقليدي، بل والخطير أحيانًا.
“نظرية الرجل المجنون” هي استراتيجية يقوم فيها القائد بإظهار نفسه كزعيم متطرّف أو غير متوقّع بشكل خطير، بهدف ردع الخصوم ودفعهم إلى الاستسلام أو تقديم تنازلات، وتفترض هذه النظرية أن العدو، إذا شعر أن القائد متهور بما يكفي لاستخدام القوة العسكرية الهائلة أو حتى الأسلحة النووية، فسيفضّل التفاوض بدلًا من المخاطرة بالعواقب الكارثية. وهكذا يصبح عدم اليقين بحد ذاته أداة استراتيجية.
حدود “الجنون” في عهد ترامب
بعد حوالي سبعين عامًا من نيكسون، طبّق رئيس أمريكي آخر – دونالد ترامب – نسخته الخاصة من نظرية الرجل المجنون، وقد ظهرت بوضوح في تصريحاته حول غزة.،ورغم أن تأثير تهديداته كان محدودًا على الفلسطينيين، إلا أنها أسفرت في نهاية المطاف عن هدنة مؤقتة استمرت نحو شهر ونصف.
في الواقع، سبق أن طبّق ترامب هذه النظرية خلال ولايته الأولى، عندما صعّد من لهجته تجاه كوريا الشمالية، وهدّد بقوله: “رجل الصواريخ الصغير سوف يُسبب دمارًا كاملًا لبلاده”.
وفي مقابلة مع الكاتب دوغ ويد، الذي كتب التاريخ الرسمي لولاية ترامب الأولى، وصف ترامب ردّه على تهديدات كيم جونغ أون: “قال كيم إن لديه زرًّا أحمر على مكتبه. وكان من الواضح ما الذي يعنيه. فأجبته: هذا صحيح، ولديّ زرّ أكبر بكثير من زرّك – وزرّي يعمل أيضًا”.
قال ترامب إن أوباما حذّره، قبل تسلّمه منصبه، بأن أعظم تهديد سيواجهه سيكون احتمال اندلاع حرب مع كوريا الشمالية. وأضاف: “أخبرني بشكل خاص أن هناك حربًا ستندلع في عهدي”. لكن الحرب لم تقع – ويعزو البعض ذلك إلى تطبيق ترامب لنظرية الرجل المجنون. فبحسب دوغ ويد: “الديكتاتوريون الشيوعيون مثلهم مثل الحيوانات المفترسة؛ لا يستهدفون الأقوياء بل الضعفاء. وقد أظهر ترامب القوة وعدم القدرة على التنبؤ، وهو ما جعل كيم يفكّر مرتين قبل تصعيد الموقف”.
وعلى عكس نيكسون، الذي طبّق النظرية ضد الخصوم فقط، وسّع ترامب نطاق استخدامها لتشمل الحلفاء أيضًا، إذ يقول الصحفي الأمريكي جيم سيتو في كتابه نظرية الرجل المجنون: “لقد أخذ ترامب النظرية إلى اتجاهات لم يجرؤ حتى نيكسون على استكشافها”، فبينما خصّص نيكسون تهديداته للدول المعادية، طبّق ترامب نفس النهج على أقرب حلفاء أمريكا، مهدّدًا بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واصفًا إياه بأنه “عفا عليه الزمن”، ورافضًا التأكيد على أن الولايات المتحدة ستدافع عن حلفائها.
ويُشير سيتو إلى أن كلاً من جورج دبليو بوش وباراك أوباما طالبا بزيادة الإنفاق الدفاعي لحلفاء الناتو، لكن استراتيجيتهما كانت تعتمد على الإقناع، لا التهديد، ففي قمة بوخارست 2008، قال بوش: “سأشجّع شركاءنا الأوروبيين على زيادة الاستثمار في أمنهم لدعم جهود الناتو والاتحاد الأوروبي”.
أما أوباما، فقد كثّف هذا المطلب بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014، قائلًا من بروكسل: “إذا كان لدينا دفاع جماعي، فهذا يعني أن على الجميع المشاركة”، ورغم ذلك، لم تستجب معظم الدول الأوروبية لنداءات الزيادة الجدية في ميزانياتها الدفاعية.
في المقابل، لجأ ترامب إلى تطبيق “نظرية الرجل المجنون” بشكل مباشر، مُهدّدًا بالانسحاب من الناتو، وهو ما أثمر بالفعل، فقد ارتفع عدد الدول التي بلغت عتبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي المُخصصة للدفاع من 4 إلى 9 دول خلال ولايته الأولى، ومع الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، ارتفع العدد لاحقًا إلى 23 دولة.
ولم يكن الناتو وحده هدفًا لهذه المقاربة، بل امتدّ سلوك ترامب إلى كوريا الجنوبية كذلك، فبحسب تقرير لموقع “أكسيوس” للصحفي جوناثان سوان، فقد أمر ترامب، خلال مفاوضات تعديل اتفاقية التجارة الحرة عام 2017، كبير المفاوضين روبرت لايتهايزر، بأن يوصل رسالة واضحة للكوريين: “ترامب مجنون!”
وقال له: “لديك 30 يومًا، وإذا لم تحصل على تنازلات، فسأنسحب من الاتفاق”، فأجابه لايتهايزر: “سأبلغهم أن أمامهم 30 يومًا”، فقاطعه ترامب: “هذه ليست طريقة تفاوض! لا تمنحهم مهلة. فقط قل لهم إن هذا الرجل مجنون بما يكفي للانسحاب في أي لحظة. هذا ما يجب أن تقوله. لأكون صريحًا، قد أنسحب فعليًا”.
الجنون لا يجلب النجاح بالضرورة
هناك أسباب عديدة تدعو للشكّ في قدرة دونالد ترامب على لعب دور “الرجل المجنون” بفعالية خلال ولايته الثانية، لعل أبرزها أن جهوده السابقة في التفاوض القسري باءت بالفشل؛ فقد كان سجل إدارته في استخدام الإكراه الاقتصادي أقل من أن يُوصف بالمتميز، أما أعظم إنجازاته في السياسة الخارجية – اتفاقيات أبراهام – فقد تحقّقت من خلال تقديم الحوافز لا التهديدات المجنونة بالعصا.
لقد نجحت حيلة ترامب المجنونة مع الحلفاء أكثر منها مع الخصوم، إذ أبدت مجموعة من الدول الحليفة، التي أزعجتها تهديداته بالانسحاب من التحالفات والمعاهدات طويلة الأمد، بعض مظاهر الولاء العلني على الأقل، ومع ذلك كان ترامب مشغولًا جدًا بمحاولة التقرّب من حكّام مستبدّين في الصين وروسيا، لدرجة أنه لم يُظهر كثيرًا من “الجنون” أمامهم.
من غير المرجّح أن ينجح ترامب في إعادة تفعيل “نظرية الرجل المجنون” خلال ولايته الثانية، لكنه سيُحاول على أي حال وهذا هو المقلق، فهو قد يظن الآن، بعد كل ما نجا منه، أنه قادر على تحقيق ذلك
أما محاولته تطبيق “نظرية الرجل المجنون” مع إيران فقد جاءت مختلطة النتائج، فقد وافق على تنفيذ الضربة الجوية التي قتلت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عن الردّ على الهجمات الإيرانية على السعودية. وفي مقابلة أُجريت معه مؤخرًا، وصف ترامب نفسه بأنه كان الطرف الهادئ والعقلاني مقارنة بمستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون.
هذا يُسلّط الضوء على مشكلة أخرى: معظم القادة الأجانب باتوا الآن على دراية تامة بـ”دليل ترامب”، وهي أحد أسباب فشل “مناورة نيكسون المجنونة” هو أن المسؤولين السوفييت – بعد عقود من متابعة نيكسون – أصبحوا يعرفون متى يتظاهر بلعب دور المجنون. وكما قال أحدهم: “اعتاد السيد نيكسون المبالغة في نواياه بانتظام”.
كذلك الحال مع ترامب، الذي بات أكثر قابلية للتنبؤ به من قبل قادة العالم، الذين تعاملوا معه في ولايته الأولى، والأدهى أن القاعدة الأولى لنظرية المجنون هي أنك لا تتحدث عن استخدام نظرية المجنون، لكن توقّع أن يلتزم ترامب بالصمت حيال مثل هذه الأمور يبدو أمرًا عبثيًا.
في دراسة أجرتها أستاذة في جامعة بنسلفانيا، زوران ماكمينوس، حول “الرجل المجنون”، تقول إن المساومة القسرية الناجحة تتطلب نوعين من الالتزام الموثوق: أن يصدق الخصم أن الطرف الآخر سينفّذ تهديداته مهما كانت الكلفة، وأن يصدق كذلك أن الطرف الآخر سيتوقف عن الإكراه بمجرد الوصول إلى اتفاق.
ربما يُعزّز التصرف كمجنون النوع الأول من الالتزام، لكنه يُضعف النوع الثاني. أو بصيغة أبسط: ما مدى احتمال أن يصدق أي زعيم في العالم ترامب عندما يُعطي كلمته؟
من غير المرجّح أن تنجح محاولة ترامب في إعادة تفعيل “نظرية الرجل المجنون” خلال ولايته الثانية، لكنه سيُحاول على أي حال وهذا هو المقلق، فهو قد يظن الآن، بعد كل ما نجا منه، أنه قادر على تحقيق ذلك، حتى في ظل انعدام الثقة من قادة العالم.
نظرًا لأن رحلة ترامب غير المتوقعة من مُدان جنائيًا إلى رئيسٍ لولاية ثانية قد تُقنعه بأن الوقت قد حان للمخاطرة أكثر من أي وقت مضى. وكما قال أحد مستشاريه لموقع بوليتيكو في نوفمبر/ تشرين الثاني: “انظروا، لقد نجا من محاولتي اغتيال، ووجّهت إليه اتهامات عدة مرات – إنه، في هذه اللحظة، يشعر بأنه لا يُقهر نوعًا ما، وبجرأة لم يشعر بها من قبل”.
لكن المشكلة هي أنه إذا عجز ترامب عن إقناع أحد بأنه مجنون حقًا، فإن الطريقة الوحيدة لإثبات ذلك قد تكون تنفيذ تهديداته الأكثر تطرفًا وغرابةً، وربما ينجح ذلك… لكن الاحتمال الأخطر هو أن يقود ذلك إلى صراعٍ خارج عن السيطرة، وهي فكرة جنونية قد تُغري “الرجل المجنون”!