ترجمة وتحرير: نون بوست
في منشأة متطورة تحت منطقة العلوم والتكنولوجيا في أبوظبي، يعمل خبراء في المختبرات على معالجة العينات عبر أجهزة الطرد المركزي، وتخزينها في مجمدات صناعية، وتشغيل منظومة متقدمة من أجهزة تسلسل الجينات.
وتضم المنشأة 55 جهازاً لتسلسل الجينات، تتراوح قيمتها بين عشرات الآلاف من الدولارات لكل جهاز، ووفقاً لمالكيها، تُعد الأعلى كثافة خارج الولايات المتحدة. وتمثل هذه البنية التحتية استثماراً استراتيجياً من أبوظبي في مورد واعد عالي القيمة: الحمض النووي لمواطنيها.
تعد إم 42 ـ وهي أكبر مجموعة رعاية صحية في أبوظبي ـ لاعباً رئيسياً في هذا المجال، حيث قامت بتسلسل 802,000 جينوم، من بينها 702,000 جينوم إماراتي، ما يجعلها من بين أكثر قواعد البيانات الجينية السكانية شمولاً عالمياً. ويرأس المجموعة الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني في الإمارات وأحد الشخصيات القيادية في أبوظبي.
وتمضي “إم 42” قدماً في تحويل هذه البيانات إلى محرك للابتكار في مجال الرعاية الصحية، مستفيدةً من القوة المتزايدة للبيانات الجينية في تطوير العلاجات الطبية واستقطاب شركات الأدوية، مع تعزيز قطاع علوم الحياة في أبوظبي.
ووفقاً لجورج هابر، الرئيس التنفيذي لمستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي التابعة لـ “إم 42″، فإن برنامج الجينوم الإماراتي يشكل “كنزاً من البيانات” يمكن استثماره لتحقيق عوائد اقتصادية مستدامة.
ويأتي هذا المشروع ضمن إستراتيجية أبوظبي لتعزيز القطاعات المتقدمة، وتنويع الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على إيرادات الوقود الأحفوري.

ويتمتع الشيخ طحنون، وهو أخو الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، بتأثير واسع النطاق على اقتصاد الإمارة والسياسة الخارجية، حيث يمتلك إمبراطورية تجارية تشمل الشركة الأم لـ”إم 42″، وهي “جي 42″، التي تُعتبر المجموعة الرائدة في الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي.
ويُعرف الشيخ طحنون، البالغ من العمر 57 عاماً، بحبه لرياضة الجوجيتسو ويقال إنه يعقد بعض الاجتماعات أثناء ركوبه الدراجة، وهو يُظهر اهتماماً ملحوظاً بالتقنيات التي تُسهم في زيادة متوسط العمر المتوقع.
وتحت إشرافه، قامت “إم 42” باستثمار كبير في مجال الجينات. وقال حسن جاسم النويس، الرئيس التنفيذي للمجموعة، إن الشيخ طحنون كان “مشاركاً بشكل كبير” في تحديد الإستراتيجية، وتوجيه “أين يجب أن نتجه و[قائلاً]”هنا يكمن الهدف النهائي”.
وكان الإماراتيون في البداية مترددين في تسليم شيفرتهم الجينية عندما بدأ المشروع قبل أكثر من خمس سنوات، لكن العديد منهم تبعوا المثال عندما قام أفراد من العائلة المالكة في أبوظبي، بما في ذلك وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد، بأخذ فحوصات الدم اللازمة للبرنامج.
وعززت الجائحة جمع العينات الطوعي، حيث أخذت “إم 42” عينات من المشاركين في برنامج الجينوم الإماراتي جنباً إلى جنب مع اختبارات فيروس كورونا.

وأثار النطاق الواسع للكنز الجيني آمالاً كبيرة في إمكانية استخدامه للمساعدة في معالجة القضايا الصحية السائدة في الإمارات، مثل الأمراض الوراثية الناتجة عن الزواج بين الأقارب، بالإضافة إلى تهديدات صحية دولية أوسع.
وأسهمت منشآت أخرى، مثل بنك الجينات البريطاني الذي يضم حوالي 500,000 شخص منذ 19 عاماً، في تحقيق تقدمات هامة في أمراض مثل السمنة ومرض باركنسون.
وعلى الرغم من أن مسؤولي “إم 42” يشيرون إلى أن جهود الشركة التي تأسست منذ ثلاث سنوات لتحويل هذه البيانات إلى منتج تجاري لا تزال في مراحلها المبكرة، فإن الروابط القوية للمجموعة مع الحكومة وعائلة أبوظبي الحاكمة تمنحها ميزة تنافسية فريدة.
وتم تأسيس “إم 42” في 2022 من دمج الأصول الصحية التابعة للمستثمر السيادي “مبادلة” مع “جي 42” التابعة للشيخ طحنون. في ذلك الوقت، حصلت “مبادلة” على حصة بنسبة 45 بالمئة في المجموعة المدمجة، وفقاً للنشرة الخاصة بالسندات. ورفضت “إم 42” تقديم تفاصيل عن ملكية الشركة.
وتشمل أصول المجموعة الصحية المستشفيات، مثل مستشفى “كليفلاند كلينك” أبوظبي. وعلى الرغم من أن “إم 42” تحقق تقريباً نصف أرباحها قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك من الأسواق الخارجية، إلا أن الشركة كانت تعتمد في البداية على العقود الحكومية، مثل تنفيذ برنامج الجينوم الإماراتي.
وتمتد مجموعة البيانات الضخمة التي تمتلكها “إم 42” أيضاً لتشمل نظام السجلات الصحية الموحدة في أبوظبي، وبنك الجينات، والبيانات البيئية المتعلقة بمراقبة مياه الصرف الصحي للكشف عن تفشي الأمراض. وتستخدم الشركة الذكاء الاصطناعي لتحليل المعلومات عبر هذه المجموعات البيانية، وفقاً لما ذكره مدير العمليات الأول، البراء الخاني.
من جانب آخر، تقوم الشركة بإجراء فحوصات ما قبل الزواج للزوجين الإماراتيين، وهو ما تشجعه الحكومة نظراً للقلق بشأن الزواج بين الأقارب.

وعلى الرغم من أن دائرة الصحة في أبوظبي تملك المعلومات الجينية المجهولة الهوية وتمنح الوصول إليها، إلا أن “إم 42” تتحمل مسؤولية جمع وتخزين البيانات كوصي عليها. وتؤكد “إم 42” أنه لم يُمنح أي طرف آخر موافقة لاستخدام البيانات، مما يتيح لها احتكاراً فعّالاً في الوقت الراهن.
وتقول “إم 42” إنها تتبع بروتوكولات صارمة لحماية بيانات المشاركين وضمان عدم إساءة استخدامها. ومع ذلك، لطالما تم اتهام أبوظبي، بصفتها ملكية مطلقة، بتهديد الخصوصية واستخدام سلطات مراقبة واسعة.
وأبدى بعض المشرعين الأمريكيين حذرهم من علاقات “إم 42” مع الصين. وتعرضت “جي 42” لانتقادات بسبب علاقتها مع كيانات صينية مدرجة في القائمة السوداء الأمريكية نتيجة مزاعم قمع الأقليات، بما في ذلك “معهد بكين لعلم الجينوم”.
ومن أجل التخفيف من المخاوف الأمريكية ـ حيث تعتمد الإمارات على أمريكا للوصول إلى أشباه الموصلات المتطورة ـ أكدت “جي 42” أنها قد تخلصت من استثماراتها في الشركات الصينية وأنها ستقوم بإزالة جميع أجهزة “هواوي” من أنظمتها. في المقابل، أكدت “إم 42” أنها لا ترتبط بأي علاقات مع “بي جي آي” الصينية ولا تستخدم معداتها.

أنشأت دول أخرى مثل آيسلندا قواعد بيانات جينية كبيرة، ولكن قاعدة البيانات الإماراتية تُعتبر من بين الأكثر شمولاً. ويتضمن بنك الجينات البريطاني تسلسل الجينوم الكامل لـ 500,000 مشارك، على الرغم من أن عدد سكان المملكة المتحدة يتجاوز 68 مليوناً.
وقال باول جونز، الرئيس التنفيذي لمركز “أوميكس” في “إم 42″، إن البيانات الإماراتية التي تشمل جزءاً كبيراً من السكان تمكن الباحثين من تتبع الطفرات الجينية عبر أجيال متعددة. وعلى الرغم من أن 90 بالمئة من سكان الإمارات هم من الأجانب، إلا أن الإماراتيين لا يزالون يتزوجون في الغالب ضمن المجتمع المحلي.
وأضاف جونز: “يمكنك مراقبة الأمراض عبر الأجداد، والآباء، والأبناء، ويمكنك البدء في رسم المخطط”، وتابع قائلاً: “من منظور البحث العلمي، تُعد هذه فرصة ذهبية لأنها تمنحك رؤى معمقة حول الطفرات المتعلقة بالأمراض المحددة”.
وأشار جونز إلى أن “الشركات الدوائية تدرك أن القيمة الحقيقية لا تقتصر فقط على الوصول إلى قاعدة البيانات، بل تشمل أيضاً الوصول إلى النظام الصحي نفسه”. ويُذكر أن جونز كان الرئيس التنفيذي السابق لـ “جينوميك إنجلاند”.
وعلى الرغم من عدم توقيع أي اتفاقيات حتى الآن، يقول مسؤولون في مجموعة “إم 42” إن الشركة تجري محادثات مع شركات الأدوية والتكنولوجيا الحيوية الدولية بشأن استخدام البيانات، وهناك سوابق في كيفية بيع الوصول إليها.
وعلى سبيل المثال، أبرم بنك الجينات البريطاني اتفاقيات مع شركات علوم الحياة لتمويل الأعمال التحليلية باستخدام بياناته، مثل مشروع يدرس كيفية ارتباط تغييرات مستويات البروتينات في الجسم بالأمراض. وفي المقابل، تحصل الشركات على وصول حصري للنتائج لمدة تسعة أشهر قبل أن تصبح علنية.
وقال الرئيس التنفيذي النويس إن “إم 42” بدأت في تسلسل جينوم المقيمين من المغتربين في الإمارات بهدف توسيع قاعدة البيانات الجينية، مما يعزز جاذبيتها للشركات التي قد ترغب في الاستفادة منها في تطوير الأدوية.
وتجري “إم 42” حالياً محادثات مع حكومات دول أخرى، وقد وقعت مؤخراً مذكرة تفاهم مع أوزبكستان للتعاون في برنامج الجينوم الخاص بها. وأوضح النويس أن “إم 42” لن تتحكم في البيانات، ولكن “ما سيكون لدينا من وصول هو التحليلات المستخلصة من البيانات”.
وأضاف النويس أن ذلك يعني أن “إم 42” تستطيع إبلاغ شركات الأدوية، قائلاً: “لقد قمنا بتسلسل جينوم “إكس” من الأشخاص في كينيا وماليزيا وإندونيسيا، ولدينا تنوع كبير في بياناتنا”، وتابع: “ولكن إذا كنت ترغب في الحصول على بيانات مرضى أكثر تخصصاً، مثل مرضى السكري، فإنني أملك بيانات سكان أبوظبي”.
المصدر: فاينانشال تايمز