مع استمرار حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي خلفت عشرات آلاف الضحايا من شهداء وجرحى ونازحين وبلدًا مدمرًا بالكامل، وفي ظل تصدي الحليف الأمريكي لأي جهود من شأنها محاسبة المحتل على تلك الجرائم أمام المحاكم الدولية، وتوفير الغطاء القانوني والسياسي له للإفلات من العقاب، كان لابد من البحث عن آليات أخرى لملاحقة المتورطين في الجرائم الإسرائيلية ضد الغزيين.
لأجل ذلك، ظهرت العديد من المبادرات حول العالم، دشنها مناصرون للقضية الفلسطينية، تهدف إلى الملاحقة القانونية والجنائية لمرتكبي الانتهاكات بحق الفلسطينيين من العسكريين الإسرائيليين، ومحاسبتهم أمام المحاكم الخاضعة للدول وليس أمام المنظمات والكيانات المُدجنة أمريكيًا، بعد إعداد ملفات كاملة توثق جرائمهم بالصوت والصورة، ومن أبرز تلك المبادرات، مؤسسة “هند رجب”، التحالف القانوني العالمي “غلوبال 195″، وحركة “30 مارس”.
وعلى الجانب الآخر، أحدث هذا الحراك، المدفوع بتصاعد الغضب العالمي من حجم الإجرام المرتكب ضد الغزيين، قلقًا كبيرًا لدى الشارع الإسرائيلي، إذ بات يشكل كابوسًا للجنود المنخرطين في جيش الاحتلال، ما دفعهم لإعادة النظر في تحركاتهم وسفرهم خارج الكيان المحتل، خشية الاعتقال والتوقيف، فيما جيّشت “إسرائيل” نفوذها الدبلوماسي لوأد مثل تلك المبادرات التي قد تضع جنودها في مرمى الاستهداف، كسلاح نافذ لتفكيك استراتيجية الإفلات من العقاب، التي تعهدت بها واشنطن لحماية حليفتها ومنحها الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من جرائم الإبادة بحق الشعب الفلسطيني.
التحالف القانوني العالمي “غلوبال 195”
يُعد التحالف القانوني العالمي، المعروف إعلاميًا بـ”غلوبال 195″ والذي أنشئ في العاصمة البريطانية لندن الأسبوع الماضي، أحدث تلك المبادرات التي تستهدف محاسبة الأفراد الإسرائيليين ومزدوجي الجنسية المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
وحسبما أعلن القائمون على هذا التحالف فإنه سيعمل ضمن ولايات قضائية متعددة لتقديم طلبات إصدار أوامر اعتقال خاصة، وبدء إجراءات قانونية ضد المتورطين، ومن أبرز الدول الممثلة في هذا الكيان، ماليزيا وتركيا والنرويج وكندا والبوسنة والهرسك وبريطانيا، مع توقع انضمام دول أخرى بعد بدء التحركات العلمية له.
ويقع تحت قائمة المستهدفين لهذا التحالف الأفراد الذين قاتلوا في صفوف جيش الاحتلال، إلى جانب شخصيات من مختلف مستويات القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، من كبار صانعي السياسات إلى موظفي العمليات، المسؤولين بشكل مباشر أو غير مباشر عن انتهاكات القانون الدولي.
ولن يقتصر نشاط “غلوبال 195” على تقديم شكاوى جنائية إلى أجهزة إنفاذ القانون الوطنية فحسب، بل سيُباشرون أيضًا دعاوى قضائية خاصة في المحاكم الوطنية ضد المشتبه بهم في جرائم الحرب، سواء كانوا من مواطني تلك الدول أو موجودين ضمن ولايتها القضائية، مستخدمين مكتبة من الأدلة الشاملة مُجمّعة وفقًا لمعايير القانون الجنائي، وفق ما صرح به المتحدث عن المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين، جوناثان بورسيل.
وتعليقًا على فلسفة تدشين تلك المبادرة، قال مدير المركز الدولي للعدالة والسلام، المحامي البريطاني، طيب علي، إن “عرقلة المؤسسات القانونية الدولية في ملاحقة الأفراد المسؤولين عن جرائم الحرب في فلسطين، إلى جانب فشل قوات الشرطة الوطنية في الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الإنساني ومبادئ الولاية القضائية العالمية، قد سمحت باستمرار إفلات مجرمي الحرب الإسرائيليين المشتبه فيهم من العقاب”.
وأضاف في مداخلته بالمؤتمر الصحافي الخاص بالإعلان عن التحالف أنه: “بموجب القانون الدولي، يقع على عاتق الدول واجب التحقيق في جرائم الحرب ومقاضاة مرتكبيها، إلا أن هذه الالتزامات أُهملت بشكل ممنهج”، وأن الإفلات من العقاب “على الجرائم الدولية الجسيمة ليس مستدامًا من الناحية القانونية”، مشددًا على وجوب أن تلتزم الدول بالتحرك، وفي حال إخفاقها، يجب على المجتمع المدني التدخل لضمان تحقيق العدالة”.
المحامي البريطاني طيب علي، مدير المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين،: "نعلن إطلاق المبادرة الجديدة للمركز الدولي للعدالة للفلسطينيين غلوبال 195. تحالف قانوني دولي غير مسبوق ملتزم بضمان محاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي". التحالف يوظف محققين يمكنونه من تجاوز… pic.twitter.com/BsXrHhx7qa
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) March 22, 2025
وبالفعل بدأ المحامون والقانونيون العاملون في هذا التحالف في مباشرة عملهم حيث تجميع الأدلة وتوثيقها وإعداد الملفات الكاملة التي تدين المتهمين، وفق ما ذهب المحامي أوانغ أرمادغايا، الذي قال إنه خلال الأشهر الماضية “أتيحت لنا فرصة الاطلاع على الأدلة الدامغة على جرائم الحرب المرتكبة في غزة، والتي جمعتها المحكمة الدولية للعدالة والسلام”، وأضاف: “نؤكد على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ونعارض جميع أشكال القمع ضدهم، بما في ذلك ارتكاب جرائم دولية مروعة في غزة والضفة الغربية”.
وتابع: “ندعو حكومتنا إلى تكثيف التنسيق القانوني والدبلوماسي اللازم بين الدول للتحقيق مع مجرمي الحرب المزعومين الذين وردت أسماؤهم في الشكوى ومحاكمتهم. كما قدمنا توصيات إلى الحكومة تتعلق بمراقبة الحدود وتقييدها، وتجميد الأصول، وربما فرض عقوبات مالية، وندعو القانونيين الماليزيين للانضمام إلى هذه القضية والانضمام إلى حركة “المحامين الماليزيين من أجل فلسطين”. وتسعى الحركة حاليًا إلى الحصول على اعتراف رسمي، ونأمل أن تجذب المزيد من المواهب والتفاني في خدمة القضية الفلسطينية”.
من جانبه، قال الحقوقي حسين ديسلي، نائب رئيس رابطة المحامين العالمية (WOLAS) المشاركة في هذا التحالف: “تلتزم الرابطة بدعم مساعي الشعب الفلسطيني نحو الحرية والعدالة والتعويضات والعودة الآمنة، وتدعم حقه في المقاومة، ومنع أعمال الإبادة الجماعية والفصل العنصري وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتصدي لها”.
“مؤسسة هند رجب”
ومن الكيانات التي لعبت دورًا محوريًا في هذا المسار، مؤسسة “هند رجب” الحقوقية، والتي تأسست في بروكسيل في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2024 أي بعد عام واحد تقريبًا من اندلاع الحرب في غزة، في خضم الحرب الإسرائيلية في غزة، واتخذت من الطفلة هند رجب التي استشهدت مع عائلتها في غزة اسمها لها.
المؤسسة يديرها مجموعة من النشطاء المناهضين لـ”إسرائيل”، من بينهم رئيسها التنفيذي، دياب أبو جهجه، وأمينها العام كريم حسون، وتركز في المقام الأول على الملاحقة القانونية لمرتكبي الجرائم والمتواطئين معهم، وتستند في عملها على توثيق الانتهاكات الإسرائيلية، وتحديد هوية الجنود الإسرائيليين المشاركين في تلك الانتهاكات ثم إعداد ملفات كاملة تمهيدًا لتقديمها للجهات القضائية في مختلف البلدان.
وبالفعل استطاعت المؤسسة في وقت قصير للغاية من إحداث حراك كبير نحو تحقيق أهدافها، فبعد شهر واحد فقط من تدشينها تقدمت بطلب إلى المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال بحق نحو ألف جندي من الجيش الإسرائيلي وردت أسماؤهم في وثيقة قدمتها إلى المحكمة.
وتتبنى المؤسسة مسارًا قانونيًا مباشرًا في اختصام المتورطين في الانتهاكات جنائيًا، حيث انضمام العائلات المتضررة التي دُمرت منازلها واستشهد أبنائها كطرف مدعي في القضايا المرفوعة، ثم تمنح المؤسسة وكالة الدفاع عن تلك العائلات لفريق الدفاع القانوني الخاص بها، وهو ما يسهل من عملها ويٌسرع في الحصول على الأحكام.
"هند رجب" تلاحق وزير الخارجية الإسرائيلي
التفاصيل مع دياب أبو جهجه رئيس مؤسسة "هند رجب" الحقوقية pic.twitter.com/ucjF0FjGkO
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 17, 2025
ففي كانون الثاني/يناير الماضي وبناء عل شكوى جنائية تقدمت بها المؤسسة، أصدرت السلطات القضائية في البرازيل أمرًا عاجلًا للشرطة بتوقيف جندي إسرائيلي والتحقيق معه بتهم تتعلق بارتكابه جرائم في غزة، حيث جاء في عريضة الشكوى اتهام الجندي بـ”المشاركة في هدم أحياء مدنية كاملة في غزة في أثناء حملة ممنهجة”، واعتبرت أن هذه الأفعال “جزء من جهد أوسع لفرض ظروف معيشية غير محتملة للمدنيين الفلسطينيين، كما تشكل إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي”.
واستهدفت المؤسسة خلال الأشهر الماضية جنودًا إسرائيليين يسافرون إلى سريلانكا وتايلاند والأرجنتين والسويد وإسبانيا، حيث تقدمت بشكاوى جنائية ضدهم استنادًا إلى المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، الذي يسمح للدول بمحاكمة الأفراد على جرائم الحرب حتى لو لم يكونوا من مواطني الدولة ولم يرتكبوا الجرائم في ذلك البلد.
“حركة 30 مارس“
هي المنظمة الأم التي خرجت من بين ثناياها مؤسسة “هند رجب”، أسسها نشطاء داعمين للقضية الفلسطينية في أوروبا عقب عملية طوفان الأقصى مباشرة، واتخذت من يوم الأرض الفلسطيني مٌسمًا لها، وتهدف إلى الدفاع عن حقوق الفلسطينيين وتحقيق العدالة القانونية لهم، وتركز على توثيق ارتكاب إسرائيل “إبادة جماعية” في حق سكان قطاع غزة.
في بيانها التأسيسي أكدت المنظمة اعترافها بالإبادة الجماعية في غزة ومحاكمة المسؤولين عنها، والالتزام بالعمل على إنهاء نظام الإبادة الجماعية والفصل العنصري الاستعماري في فلسطين، كذلك معارضة جميع أشكال التمييز والكراهية، بما في ذلك كراهية الإسلام ومعاداة السامية.
وتتخذ المنظمة من محاربة الاستعمار بكافة أشكاله شعارًا لها، دون استهداف تاريخ أوروبا كما يحاول البعض أن يشوهها، مضيفة في بيانها “إن نيتنا ليست تشويه سمعة ماضي أوروبا، بل متابعة عملية إعادة تقييمه وإعادة تفسيره من منظور شامل وعادل، نحن ندرك أن التاريخ الأوروبي يتضمن فترات من التقدم والقمع والاستعمار. وفي سعينا إلى إجراء تقييم عادل لهذا الماضي، فإننا نسعى إلى اتباع نهج متوازن يعترف ويتقبل بشكل كامل التعقيدات الغنية والفروق الدقيقة في تاريخنا الأوروبي.
في 30 أذار/مارس 2024 وفي الذكرى الـ48 ليوم الأرض، قدّمت الحركة شكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس الكيان إسحاق هرتسوغ، و17 جنديًا إسرائيليًا وعدد من المستوطنين، اتهمتهم فيها بسرقة الأراضي وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم الممنهجة في فلسطين، فيما أكد القائمون عليها أن نشاط استهدافها سيتوسع ليشمل معظم دول أوروبا.
إجهاض إفلات “إسرائيل” من العقاب
نجحت الولايات المتحدة، منذ بداية حرب غزة، في تدشين حائط صد قوي أمام مساعي ملاحقة قادة الكيان الإسرائيلي، من مسؤولين وجنرالات ومجندين، أمام المحاكم الدولية، بسبب انتهاكاتهم وجرائمهم بحق الفلسطينيين في غزة، فمارست ضغوطا قاسية على محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، وابتزت إداراتهما ولوحت بورقة التمويل كسلاح رادع في مواجهة أي حراك من شأنها إدانة الحليف الإسرائيلي ورموزه.
هذا التمترس الأمريكي خلف المحتل في مواجهة الملاحقات الدولية أغرى نتنياهو وجنرالاته ومنحهم الضوء الأخضر لارتكاب المزيد من الجرائم دون أي قلق من محاسبة أو عقاب، لتتدحرج كرة الجرائم من غزة إلى الضفة ومنها إلى لبنان وسوريا واليمن، وسط حالة احتفاء فجة من قبل جنود الاحتلال المشاركين في تلك الجرائم على منصات التواصل الاجتماعي.
ومن ثم تأتي تلك المبادرات لتكسر -ولو بنسبة بسيطة- منهجية إفلات المحتل وعناصره من الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، بما يفرض حالة من العزلة النسبية على جنود الاحتلال الذين باتوا يتحسسون خطواتهم كلما فكروا في السفر للخارج لقضاء عطلاتهم السنوية كما اعتادوا طيلة السنوات الماضية.
هذا بخلاف الزخم المتوقع أن يخلقه هذا الحراك لدعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني على المستوى العالمي، وتحشيد الرأي العام بشأنها، وفي المقابل فضح همجية الاحتلال ووحشيته وإسقاط الأقنعة المزيفة التي طالما ارتداها وخدع بها الكثيرين بشأن ديمقراطيته وحضارته وإنسانيته.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية قد أعربت عن قلقها إزاء تلك المبادرات وما يمكن أن تخلقه من قلق ورعب في نفوس الجنود الإسرائيليين، حيث نقلت عن مصادرها الأمنية ارتفاع محاولات استهداف جنود الجيش قانونيًا بمختلف دول العالم، مضيفة أن نحو 50 شكوى ضد جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي رُفعت في الخارج، وفُتحت تحقيقات في 10 دول، ورغم أنه لم يُعتقل حتى الآن أي جندي لكن هناك ترقب وخوف من تداعيات هذا الحراك.
بسبب هذا، حذر الجيش جنود احتياط موجودين في الخارج من تعرضهم للاعتقال بسبب مشاركتهم في الحرب على غزة، كما شدد على منع نشر أي صور أو مقاطع فيديو توثق مشاركة هؤلاء الجنود في أي عمل عسكري في القطاع، فيما أضطر كثير منهم إلى حذف صوره الشخصية التي يبدو فيها مرتديًا الزي العسكري خوفًا من الملاحقة والاستهداف.
وتبقى مثل تلك المبادرات، رغم قلتها، خطوة مهمة في اتجاه محاسبة الكيان المحتل ومجرميه المشاركين في حرب غزة، والتأكيد على أن الإفلات من العقاب، لن يكون شيكًا على بياض طول الأبد، وأن هكذا نوع من الجرائم -مهما غُطي عليها وطُمست وهُمشت- لا يسقط بالتقادم، المهم استمرارية الحراك وتوسيع قاعدته رأسيًا بضمه للقامات من الحقوقيين والقانونيين العرب والأجانب، والكيانات المعنية بذلك، وأفقيًا بتوسعة رقعة انتشاره ليشمل معظم بلدان العالم، مع الدعم الرسمي العربي والإسلامي له.