منذ تأسيسها عام 1893، تُعد بلدية غزة واحدةً من أقدم البلديات الفلسطينية، وقد حملت على عاتقها مهمة إدارة شؤون المدينة وخدمة سكانها في مختلف المراحل، رغم تقلبات السياسة والاحتلال والحروب المتعاقبة. وعلى مدار العقود الماضية، واجهت البلدية تحديات كبرى، من الاجتياحات والاعتداءات العسكرية إلى الحصار وتضييق الخناق على مواردها، إلا أن العدوان الإسرائيلي الذي اندلع في السابع من أكتوبر/ تشرين الاول 2023، فاق كل ما سبق من أزمات.
منذ ذلك التاريخ، تحوّلت مدينة غزة إلى هدف رئيسي للعدوان العسكري الإسرائيلي والحصار الخانق، وتعرّضت لأشهر طويلة من القصف والاستهداف المباشر، ما أدى إلى تدمير هائل في البنية التحتية والمرافق الحيوية، وسط أزمة إنسانية خانقة، وانهيار شبه تام للخدمات الأساسية، في واحدة من أصعب حالات الطوارئ التي عرفتها المدينة على مدار تاريخها.
ورغم ذلك، واصلت بلدية غزة أداء واجباتها بجهود استثنائية وبإمكانات شحيحة، في محاولة لتأمين الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين، وسط تكدّس مئات الآلاف من النازحين داخل الأحياء السكنية، وتفاقم الأزمات البيئية والصحية والمالية.
في هذا الحوار الخاص مع “نون بوست”، يستعرض المهندس عاصم النبيه، المتحدث باسم بلدية غزة، الواقع الميداني في المدينة، كاشفًا بالأرقام حجم الدمار، ومستعرضًا أبرز التحديات اليومية التي تواجهها طواقم البلدية، في ظل غياب الدعم الكافي، وتراجع الاستجابة الدولية، كما يتحدث عن خطط الطوارئ، والتواصل مع المؤسسات الدولية، وآفاق إعادة الإعمار، ومطالب البلدية العاجلة للمجتمع الدولي.
بدايةً، كيف تصفون واقع البنية التحتية في مدينة غزة اليوم بعد أشهر من العدوان المتواصل؟ وما أبرز القطاعات المتضررة؟
في الحقيقة، تعاني مدينة غزة من دمار واسع في البنى التحتية والمرافق الحيوية المختلفة جرّاء العدوان المستمر.
بلغة الأرقام، هناك أضرار طالت أكثر من 800 كيلومتر من الشوارع والطرق، فيما تجاوزت نسبة الضرر في الآبار المركزية التابعة للبلدية 75%، كما سُجلت أضرار في أكثر من 100 ألف متر طولي من شبكات المياه، و175 ألف متر طولي من شبكات الصرف الصحي.
أما مضخات ومحطات الصرف الصحي، فقد تضررت جميعها بدرجات متفاوتة، بين أضرار كلية وأخرى جزئية. ولم تقتصر الأضرار على القطاعات الخدمية فحسب، بل شملت أيضًا المراكز الثقافية، والأرشيف المركزي، والحدائق العامة.
عمليًا، يمكن القول إن مختلف مرافق البلدية والبنى التحتية في المدينة إما دُمرت بشكل كامل أو تعرضت لتدمير جزئي.
رغم حجم الدمار والانهيار الكبير في شبكات الخدمات، واصلت بلدية غزة عملها طوال الأشهر الماضية، كيف تمكنتم من الاستمرار في أداء المهام اليومية في ظل هذه الظروف القاسية؟
على الرغم من القصف المكثف والانهيار الواسع الذي طال معظم شبكات البنية التحتية في مدينة غزة، لم تتوقف بلدية غزة عن أداء مهامها الحيوية تجاه السكان، بل واصلت العمل تحت نيران العدوان، في ظروف استثنائية بالغة التعقيد، فقد عملت طواقم البلدية على مدار الساعة لتأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، رغم المخاطر الأمنية ونقص الإمكانيات الحاد.
وضعت البلدية أربع أولويات عاجلة لتحديد مسار العمل في ظل الكارثة الإنسانية: كانت الأولوية الأولى هي تأمين المياه للسكان عبر إعادة تشغيل الآبار وصيانة شبكات المياه المتضررة بالحد الأدنى الممكن، في ظل تدمير أكثر من 75% من آبار المدينة.
أما الأولوية الثانية فتمثلت في جمع وترحيل النفايات من الشوارع والمناطق المكتظة بالسكان، للحد من انتشار الأمراض والأوبئة.
وجاءت معالجة شبكات الصرف الصحي في المرتبة الثالثة، في ظل تعرض المحطات والمضخات لأضرار جسيمة، ما جعل أي خلل فيها تهديدًا بيئيًا مباشرًا.
أما الأولوية الرابعة، فكانت فتح الطرق والشوارع التي أُغلقت بسبب القصف، سواء لتسهيل حركة السكان أو لتمكين سيارات الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إلى المناطق المتضررة.
كل هذا جرى في ظل تدمير الاحتلال لأكثر من 85% من الآليات والمركبات والمعدات الثقيلة والمتوسطة التي تعتمد عليها البلدية في أداء مهامها، ما يعني أن كل عملية ميدانية كانت بمثابة تحدٍّ حقيقي. ومع ذلك، واصل العاملون في البلدية جهودهم بإمكانات محدودة، وبدعم مجتمعي وتنسيق طوعي في بعض المواقع، حفاظًا على الحد الأدنى من الحياة في المدينة المنكوبة.
ما أبرز التحديات المالية التي تواجه بلدية غزة حاليًا؟ وهل وصلتكم أي مساعدات لتغطية النفقات التشغيلية أو احتياجات الطوارئ؟
تُعدّ الأزمة المالية واحدة من أكبر التحديات التي تواجه بلدية غزة في الوقت الراهن، وهي أزمة لم تبدأ مع الحرب، بل كانت قائمة منذ ما قبل العدوان، لكنها تفاقمت بشكل كبير منذ اندلاع حرب الإبادة في نهاية عام 2023.
لقد أدى الانهيار العام في الواقع الاقتصادي، وتوقف معظم الأنشطة الإنتاجية والخدمية، إلى انهيار شبه كامل في الإيرادات الذاتية للبلدية، مما جعلها غير قادرة على تغطية الحد الأدنى من التزاماتها المالية.
ومنذ بداية العدوان وحتى الآن، لم يتقاضَ موظفو البلدية رواتبهم، بما فيهم الطواقم العاملة في فرق الطوارئ الذين واصلوا عملهم دون توقف منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، رغم الظروف القاسية وخطورة الميدان.
لا يحصل هؤلاء على أي حقوق أو مستحقات وظيفية، وكل ما يتلقونه من البلدية عبارة عن سلف مالية رمزية، لا تفي بالحد الأدنى من احتياجاتهم المعيشية، خاصة في ظل الارتفاع الهائل في الأسعار وتدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية في المدينة.
صحيح أن البلدية تلقت في الأشهر الأخيرة بعض المساعدات، أبرزها عبر مشاريع دعم قطاع النظافة التي ساهمت جزئيًا في تغطية أجور عمال النظافة، إلا أن هذه المساعدات ما زالت محدودة جدًا مقارنة بحجم الكارثة، ولا تلامس جوهر الأزمة المالية التي تعاني منها البلدية.
وتعتمد البلدية حاليًا بشكل شبه كامل على الدعم الخارجي والمساعدات الطارئة التي تقدمها بعض المؤسسات الإنسانية والتنموية، لكن هذه التدخلات لا تكفي بأي حال من الأحوال لسد الفجوة الكبيرة في الاحتياجات، سواء على مستوى النفقات التشغيلية أو مشاريع الطوارئ والصيانة، ما يترك البلدية في موقف بالغ الصعوبة، ويهدد قدرتها على مواصلة تقديم الخدمات الأساسية للسكان.
من الناحية البيئية، ما حجم المخاطر الناتجة عن تدمير شبكات الصرف الصحي وتراكم النفايات؟ وكيف تتعاملون مع هذه التهديدات الصحية في ظل ضعف الإمكانيات؟
المدينة تعاني من كوارث صحية وبيئية حقيقية، أبرزها تراكم أكثر من 170 ألف طن من النفايات في شوارع وأحياء مدينة غزة، وهي نفايات لم نتمكن من ترحيلها بسبب نقص الإمكانيات وتدمير آلياتنا.
أيضًا هناك كميات كبيرة جدًا من مياه الصرف الصحي تسربت إلى الشوارع والمناطق السكنية، وهذا يُشكل خطرًا كبيرًا.
على سبيل المثال، بركة الشيخ رضوان التي أنشئت لتجميع مياه الأمطار فقط، اختلطت فيها كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي، وباتت اليوم تُشكّل خطرًا مزدوجًا؛ أولًا على الأحياء السكنية ومراكز الإيواء المحيطة بسبب احتمالية الطفح، وثانيًا على المياه الجوفية نتيجة تسرب هذه المياه الملوثة إلى الخزان الجوفي، وهو مصدر المياه الوحيد المتاح حاليًا للسكان.
كذلك النفايات المتراكمة تُشكل كارثة بيئية وصحية، فبالإضافة إلى الرائحة وانتشار القوارض والحشرات، هناك خطر كبير من تسرب عصارة النفايات إلى باطن الأرض، مما يُهدد المياه الجوفية بالتلوث ويزيد من احتمالية انتشار الأمراض.
نحن في بلدية غزة نحاول منذ بداية العدوان وحتى الآن تنفيذ تدخلات إسعافية للتقليل من حجم الكارثة. نقوم بجهود مستمرة لفتح بعض شبكات الصرف، وتحريك عدد محدود من الآليات لجمع النفايات من المناطق الأكثر تضررًا وكثافة.
لكن للأسف، هذه الحلول مؤقتة وغير كافية. أكثر من 85% من آلياتنا الثقيلة والمتوسطة خرجت عن الخدمة بفعل القصف، ولدينا نقص حاد في الوقود ومواد التعقيم والمعدات الأساسية.
باختصار، نحن نحاول احتواء الكارثة بما لدينا، لكننا بحاجة إلى تدخلات عاجلة ومنظمة من المؤسسات الدولية، لتوفير الإمكانيات التي تُمكّننا من تجنب كارثة صحية شاملة، خاصة مع دخول فصل الصيف الذي سيُضاعف من المخاطر في حال لم تُعالج هذه الأوضاع بالسرعة الممكنة.
مع تكدّس عشرات الآلاف من النازحين في الشوارع والأحياء السكنية داخل المدينة، كيف تتعامل البلدية مع هذا التحدي الإنساني والاجتماعي الكبير؟
لا شك أن نزوح عشرات الآلاف من المواطنين من شمال القطاع إلى مدينة غزة شكّل تحديًا إنسانيًا وخدميًا كبيرًا للغاية، وأضاف عبئًا غير مسبوق على الخدمات الأساسية التي تعاني أصلًا من شحّ حاد نتيجة العدوان المستمر. فعلى سبيل المثال، تغطية خدمات المياه حاليًا لا تتجاوز 40% من إجمالي مساحة المدينة، والكميات التي تصل إلى السكان محدودة ومقطوعة لساعات طويلة. ومع تزايد أعداد النازحين، يتضاعف الضغط على هذه الخدمات ويُنهك شبكات التوزيع الضعيفة أصلًا.
كما أن تكدس عشرات الآلاف من الأسر في شوارع وأحياء المدينة، خاصة في وسط المدينة، فاقم من حجم الكارثة، ليس فقط من ناحية البنية التحتية، بل أيضًا من حيث الضغط على الطواقم العاملة في البلدية، والتي تعمل بإمكانيات شبه معدومة. هؤلاء النازحون في الغالب لا تتوفر لهم أماكن إيواء مناسبة، بل يعيشون في خيام أو أماكن مفتوحة وسط أحياء مكتظة، ما يزيد من المخاطر الصحية.
الأخطر من ذلك، أن أحد أبرز أماكن تجمع النازحين يقع قرب أحد مكبات النفايات العشوائية، وهو ما يشكّل تهديدًا حقيقيًا لحياتهم، في ظل احتمالية تفشي الأمراض والأوبئة، خاصة مع غياب منظومة صحية فعالة تستطيع التعامل مع هذه الكارثة.
نحن نحاول، بجهد الطواقم المتبقية، التعامل مع هذا الواقع الكارثي، عبر إجراءات إسعافية محدودة، كتنظيف بعض المناطق القريبة من تجمعات النازحين، وتزويدهم بكميات مياه وفق المتاح، لكن الإمكانيات شديدة التواضع. نحتاج بشكل عاجل إلى تدخلات حقيقية من الجهات الدولية والمؤسسات ذات العلاقة، سواء لتوفير خدمات إيواء آمنة ومناسبة، أو لدعم القطاعات الحيوية التي باتت غير قادرة على مواكبة هذا الضغط الهائل.
نحن نُقدّر حجم المأساة التي يعيشها النازحون، ونعمل بما نستطيع لتخفيف معاناتهم، لكن المطلوب اليوم أكبر بكثير من قدرات البلدية وحدها.
هل لدى البلدية خطط طوارئ أو استجابة إغاثية منظّمة للتعامل مع الواقع الطارئ؟ وما طبيعة التنسيق القائم مع المؤسسات المحلية والدولية في هذا المجال؟
نعم، لدى بلدية غزة خطط طوارئ جاهزة تم إعدادها مسبقًا بعناية، بالتنسيق مع معظم المؤسسات الدولية العاملة في القطاع. هذه الخطط وُضعت لمواجهة الوضع الكارثي الناتج عن العدوان، وهي تشمل احتياجات تفصيلية تم توثيقها وشرحها بشكل فني وهندسي دقيق.
قمنا أكثر من مرة بتسليم قوائم شاملة تتضمن كميات الوقود اللازمة لتشغيل المرافق الحيوية يوميًا، والآليات الثقيلة المطلوبة لفتح الطرق وإزالة الركام، بالإضافة إلى معدات الصيانة ومواد التشغيل الأساسية التي تُمكّننا من مواصلة الحد الأدنى من تقديم الخدمات.
كما شرحنا بوضوح للجهات الدولية أهمية هذه الاحتياجات، وأنها ليست ترفًا بل ضرورة بقاء لمئات آلاف المواطنين.
قبل اتفاق وقف إطلاق النار في يناير الماضي، تلقّينا وعودًا من بعض المؤسسات الدولية بأن هذه المتطلبات ستُلبّى، وأن هناك تسهيلات مرتقبة لإدخال المعدات واللوازم الفنية اللازمة، لكن للأسف لم يتم إدخال شيء فعلي حتى اللحظة. لا الآليات وصلت، ولا تم توفير كميات الوقود أو مواد الصيانة المطلوبة، وهذا ما يجعلنا نستمر بالعمل في ظروف قاهرة، بإمكانيات متآكلة، وطواقم مرهقة.
رغم ذلك، نحن مستمرون في التواصل والتنسيق مع كل الجهات ذات العلاقة، ونبذل جهدًا كبيرًا لإبقاء هذه الخطط حيّة ومحدثة، على أمل أن يتحول التنسيق إلى استجابة حقيقية وملموسة على الأرض، لأن الواقع لا يحتمل مزيدًا من التأجيل أو الوعود المؤجلة.
هل تواصلت معكم أي جهات دولية أو إقليمية لمناقشة خطط الإعمار وإعادة تأهيل البنية التحتية في مدينة غزة؟ وهل طُرحت مبادرات لإشراك بلدية غزة كشريك أساسي في التخطيط المستقبلي؟
نحن في بلدية غزة نسعى بشكل مستمر للتواصل مع كل الجهات الدولية والإقليمية ذات العلاقة، وقد أرسلنا بالفعل عددًا من الخطط والمقترحات التفصيلية التي تتضمن رؤيتنا لإعادة إعمار المدينة، بما في ذلك الخطوط العريضة وفلسفة الإعمار من وجهة نظر غزية.
قمنا بتقديم هذه الأوراق والمستندات للعديد من المنظمات الدولية، وأبدينا استعدادنا الكامل لنكون طرفًا فاعلًا في أي عملية تخطيط مستقبلية.
نحن ننتظر تحركًا جادًا من الجهات المانحة والدولية، ونشدد على أن أي جهود إعمار مستقبلية مبنية على ضرورات تلبية متطلبات الواقع.
وأخيرًا، ما الرسائل التي تودون توجيهها للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، في ظل الانهيار الكبير في الخدمات الأساسية وتفاقم معاناة السكان؟
رسالتنا اليوم هي ذاتها التي كررناها مرارًا منذ بداية العدوان، لكنها تزداد إلحاحًا مع مرور الوقت: نحن نناشد المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بضرورة التحرك العاجل والجاد لإدخال ما تحتاجه مدينة غزة من معدات وآليات ومواد، وفي مقدمتها الآليات الثقيلة اللازمة لأعمال الطوارئ.
نحن بحاجة ماسة إلى تلك الآليات، سواء لفتح الطرقات المغلقة، أو لتأهيل شبكات المياه والصرف الصحي، أو لجمع وترحيل النفايات المتراكمة، أو حتى لأعمال إزالة الركام التي ما زالت تعيق الحركة وتزيد من مخاطر التلوث والانهيار الصحي في المدينة.
كما نؤكد على ضرورة إدخال مواد الصيانة بمختلف أنواعها، وتوفير الوقود، وإعادة تشغيل مصادر الطاقة، وخاصة الكهرباء، لأن استمرار انقطاعها يعني شللًا شبه كامل في الخدمات الأساسية، ويؤدي إلى تفاقم الوضع البيئي والصحي والمعيشي بشكل خطير.
لقد مضى أكثر من 17 شهرًا على الأزمة، وكل يوم تأخير في تلبية هذه الاحتياجات يعمّق الكارثة. لذلك، فإننا نطالب بأن تكون هناك استجابة فعلية، لا وعودًا مؤجلة.