اليوم إذن، هو أول عيد للسوريين منذ عشرات السنوات، وعامنا هذا مزدحم بأوائل ما بعد التحرير، أول رمضان وأول ذكرى للثورة وأول عودة لمنازلنا بعد 11 عامًا وأول مرة يدخل جارنا لسوريا بعد 45 عامًا وأول مرة نحي ذكرى شهداء المجزرة بعد سقوط النظام.
منذ الثامن من ديسمبر/كانون الثاني الماضي 2024 والتحرير الكبير، ونحن في أعياد لا تنقضي، رغم الإرث الثقيل الذي خلفته عقود طويلة من الاستبداد والظلم. ومع كل المشاكل والمنغصات التي تحاصر السوريين من كل حدب وصوب، يتساءل أصدقاؤنا العرب: ما كل هذا الفرح.. والتحديات تطمر بلادكم والخراب يضرب كل مدينة فيها؟، لكننا نشرد بعيدًا ونبتسم: لكن نظام الأسد سقط، هل يخشى الميت شيئًا إن عاد إلى الحياة بعد انقطاع الرجاء وطول الأمد؟ نحن كذلك.
في هذي البلاد قصص لا تنتهي ومشاهد ستبقى في الذاكرة إلى ما شاء الله، وفي أول أيام العيد ستختلط دموع الفرح بندوب الذاكرة المثقلة، لكن “الحمد لله على فضله وتمام نعمته” سيبقى لسان حال السوريين في كل أصقاع الأرض.
نور حصلت أخيرًا على عيديتها بعد 48 عام
في ساحة المدرسة الإعدادية، كانت تجلس نور مع صديقاتها السعوديات اللواتي عدن توًا من زيارة سوريا، وتنصت لهنّ بشغف وهن يحكين لها ما شاهدنه في حمص، المدينة التي تنتمي لها وتتخيل حاراتها من تفاصيل الحكايات التي نسجتها والدتها، لكن ما رأتها قط.
وُلدت نور في السعودية، لوالد هُجر قسرًا من وطنه، وورثت عنه غصة لم تكن تعرف كيف تصوغ كلماتها، لكنها كانت تشعر بها في كل عيد.
مرت سنوات طويلة، وانتقلت بين السعودية وتركيا ثم الأردن. أربعون عامًا من المنفى الطويل، والأعياد تمر بلا “أهل”، بلا “بيت نزوره”، بلا عيدية من الجدة، ولا صباحات تعجّ بالأقارب والضحكات.
تقول: “كنا نلعب لعبة الضيوف بين بعضنا نحن الإخوة، نرن جرس الباب، نفتح لبعضنا ونقدم معمول العيد في أطباق الضيافة فقط لنشعر أن هناك عيدًا… فقط حتى لا ننسى شكله.”
لكن كل شيء تغير في تلك المكالمة: “يا نور، صار لدينا وطن.”
قالها أحد زملائها عندما سقط النظام، فارتج في داخلها صدى صوت الفتاة التي كانت في الإعدادية، تقف بين صديقاتها ولا تعرف كيف يبدو شارع حيّها في حمص. وتذكرت صوت صديقتها أسماء تتساءل بأسى: لماذا لا نستطيع نحن أبناء هذا الوطن زيارته كما تفعل صديقاتنا الأخريات؟
كبرت نور، وكبر معها الحنين، وها هي اليوم، بعد 48 عامًا من الغربة، ستُعيّد للمرة الأولى مع عائلتها في سوريا.
تضحك بحرارة وتقول: “اليوم سأحصل على عيديتي من عمتي وخالتي!” ثم تستدرك بألم: “للأسف، حرمت من عيدية الجد والجدة.” عيديات متأخرة، لكنها مليئة بالحب المتراكم، بأشواق السنوات الضائعة.
نزلت نور إلى سوريا بعد التحرير، زيارة خاطفة، لكنها أرادت أن تستنشق رائحة النصر في أولها بملء رئتيها، حرصت على أن ترى الدمار جيدًا، أن ترسمه في ذاكرتها، لتتذكر دائمًا كم دُفع من دماء كي نصل إلى هذه اللحظة.
ثم شاء الله أن تعود بعدها إلى حمص، مع والدها الذي حُرم من أرضه خمسين سنة، تروي نور كيف كان يمشي في أزقة المدينة كطفل يتفقد ألعابه القديمة، ولم تكن المدينة في عينيه مكانًا فقط، بل ذاكرة حيّة، وأخذ يفتح أبواب الدكاكين، ويسأل الناس بابتسامة تغالبها الدهشة: “كانت هاي صيدلية فلان؟ هذا ابن عمي… هذا جاري… هذا صديقي.”
تقول نور التي تعيش حلمها في زراعة هذه الأرض وردّ دين الشهداء: “عدت إلى حمص لأضع خبرتي في خدمة كل مؤسسة تحتاج يدًا تعمل بصدق. اكتشفت أن الطريق طويل، والثغرات كثيرة، لكننا بدأنا، وأقسمنا ألا نتوقف.”
يأتي العيد على أطفالها الأربعة هذا العام وهم يعرفون أن هناك أبوابًا تُفتح للزيارة، أناسًا ينتظرونهم، وأطباق ضيافة حقيقة، تقول ابنتها الصغيرة بدهشة: “يعني حنشوف ناس كتير بالعيد؟” وتردّ نور في قلبها: نعم يا صغيرتي، سنرى سوريا كلها.
هذا العيد سيقضيه محمد وعائلته في رحاب الأموي
يخطط محمد أن يقضي هذا العيد مع زوجته وطفليه في دمشق، ويصلوا العيد في رحاب الجامع الأموي، سيوقظ ولديه باكرًا، ويُلبسهما ملابس العيد الجديدة، ويخرجوا سويًا إلى الطريق العام ويقود سيارته بعيدًا خارج قريته للمرة الأولى منذ سنوات طويلة نحو العاصمة، بلا حواجز ولا اعتقال ولا خوف، سيرى فقط أصدقاءه القدامى، أولئك الذين هُجروا إلى إدلب وقاتلوا ثم عادوا منتصرين، يقفون على الطريق الآن يحرسونه من فلول النظام.
لا شيء عاديّ في هذا المشهد: لا العيد ولا الطريق ولا حتى ضحكته وهو يُلقي التحية على الحواجز الصديقة.
على مدى من عشر سنوات، لم يكن هذا ممكنًا، لم يكن لمحمد أن يغادر قريته الواقعة في ريف دمشق، إذ بقي هناك حين ركب أصدقاؤه الباصات الخضراء باتجاه إدلب، بعد اتفاقٍ أنهى سنوات من الحصار والقصف والخيارات المستحيلة.
بقي من أجل أمه وأبيه المسنّين وزوجته وطفليه، ومن أجل ذكرى شقيقيه اللذين غيّبتهما المعتقلات ولم يعد منهما سوى بلاغ بارد من شعبة النفوس. كان يعرف تمامًا أنه لم يعد حرًا لا في حركته ولا في أحلامه، كل شيء خارج حدود القرية كان محظورًا، لكنه قضى الشهور الطويلة معللًا نفسه بالأمل.
“كل عيد كنت بحلم آخد ولادي يلعبوا بالألعاب اللي بيشوفوها عالتلفزيون… نطلع مشوار، نتمشى، نفرح. بس ما كان في غير السوق الصغير تبع الضيعة، وما كان بإيدي شي غير إني وعدهم بالعيد الجاي… والعيد الجاي كان دايمًا بعيد.”
في صباحات العيد يتذكر السوريين موتاهم ويبدؤون نهارهم بزيارة القبور ووضع الزهور والورود على قبور أحبتهم. لكن والدة محمد كانت تكتفي بالجلوس قرب النافذة، تتأمل النساء الخارجات نحو المقابر. ترثي ولديها بحسرة، فليس لهما قبر تزوره، فقط اسمين منقوشين في القلب، وورقتين رسميتين تقولان إن فلذتي كبدها “توفيا في السجن”، دون أن تُرى أجسادهما أو يُغلق عليهما قبر.
“كانت أمي تقول لي: يا ريت بس قبر نزوره… ونرش عليه مي وورد”.
عاش محمد في سجن مفتوح، لم تكن قضبانه من حديد، بل من خوف وفقر ومنع وشبيحة تمسك بأنفاسك قبل أن تمسك بهويتك.
لكن هذا العام… تغير كل شيء، سقط النظام واستعاد السوريون حقهم في الحياة.
سيصلي محمد والآلاف غيره هذا العيد في المسجد الأموي، وسيمشي بأطفاله في سوق الحميدية، وسيشتري لهم غزل البنات من باعة العيد، سيصوّرهم أمام قلعة دمشق، ويضحك معهم دون أن يتلفت حوله.
لكن الأهم من كل ذلك، أن أمه ستسقبل نساء القرية وتفخر بولدين قدمتهما فداء لحرية هذا البلد، أم محمد هذا العيد هي أم البطلين وليست “أم الإرهابيين”.
هذا العيد، لمحمد وأم محمد وكل السوريين الذين يشبهونهما، عيد الطريق الذي فُتح، رغم صعوبته ووعورته إلا أنه فُتح.
المهم إنّا بالبيت
لا تنتهي قصصنا وذكرياتنا، فما حملته هذه السنوات لنا من أحداث يفوق أيامها وشهورها تعدادًا، في كل مشهد يومي نجد قصة مختلفة وعند كل صديق هناك تفاصيل مختلفة، تتشابه العناوين وتختلف المعاناة والآمال والظروف.
في اسطنبول حيث أقيم منذ أكثر من 10 سنوات، يغادر الجميع إلى قراهم ومدنهم الأم، ليحظوا بأجواء العائلة وفرحة العيد، وتفرغ المدينة إلا من المهاجرين واللاجئين.
وتحكي لي صديقة تقيم في بريطانيا أن إحدى رفيقاتها في الدراسة سألتها فجأة في زحمة تجهيزات العيد بدهشة: فيما لو اشترت تذكرة لقضاء الإجازة مع عائلتها في بلدها. لم يكن لدى صديقتي جواز سفر تستطيع السفر من خلاله بعد، وأصلًا لم يكن لدينا وطن نستطيع العودة إليه حينها، وعائلتها مقطعة أوصالها بين ثلاث قارات.
في نشرة الأخبار رأيت قصة رجل عاد من مخيمات الشمال لمنزله في جوبر، لم يجد بيتًا… فنصب خيمة على أنقاض منزله المدمر.
وقبيل العيد وضع شتلات الزهور والنبات الأخضر على أطراف الخيمة، وجهز طاولة العيد لأحفاده، قال لجاره: “مو مشكلة… المهم إنّا بالبيت.”
في درعا، حمّالة الأسيّة، ما تزال الجنازات تمشي خلف نعوش الشهداء، هذه المرة، شهداء الغدر الإسرائيلي. لكن هناك معمول العيد، وصورة لانتصار فتية على طاغية، وأمل بهزيمة العدو المتربص.
في مخيمات الشمال، لم تُرفع كل الخيام، ولم يحظَ كل الأولاد بعيدية وطقم جديد.
لكن أحد الأطفال كتب على ورقة صغيرة: “العيد الجاي ما بدي خيمة.”
اعتدنا طويلًا أن نقول:
“العيد الجاي بسوريا إن شاء الله.”
قلناها كثيرًا.
قلناها بدمعة وبانتظار وبخوف أن يمر العيد القادم مثل الذي قبله.
واليوم… شاء الله، واجتمع آلاف السوريين في بلدهم، على أمل عودة كريمة سعيدة للبقية.
زيّنوا الشوراع المدمرة بالبلالين وأعلام النصر، رسموا فرحة العيد على الجدران المتصدعة، ونصبوا المراجيح بدلًا من الخيام.