مع اقتراب الحرب في السودان من دخول عامها الثالث، واصلت القوات المسلحة والفصائل المساندة لها عملياتها العسكرية واسعة النطاق لاستعادة السيطرة على ما تبقى من العاصمة الخرطوم، في ظل مشاعر فرح غير مسبوقة وسط المواطنين بدخول الجيش بعدما ذاقوا الأمرين من مليشيا الدعم السريع.
الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر pic.twitter.com/a85BJPiRCl
— ذوالكــفـل ® (@HkZuk) March 26, 2025
بالمقابل، كشف ناشطون عن موجات فرار كبيرة لعناصر الدعم السريع من مختلف أحياء الخرطوم باتجاه جسر جبل الأولياء، أقصى جنوب العاصمة، والذي شهد ازدحامًا غير مسبوق بالسيارات العسكرية والمدنية قبل أن تغلقه السلطات لاحقًا لقطع الطريق أمام عناصر المليشيا.
انتصارات ملحمية
جاء فرار جنود الدعم السريع من العاصمة تزامنًا مع انتصارات ملحمية للجيش، يمكننا تلخيصها في النقاط التالية، مع العلم أن الوضع قابل للتغير في كل لحظة:
- استعادت القوات المسلحة سيطرتها على منطقتي الجديد عمران والجديد الثورة مما يعني أن ولاية الجزيرة باتت خالية من الدعم السريع بأكملها.
- بسط الجيش سيطرته الكاملة على جسر المنشية، الرابط بين شرق النيل والخرطوم، ما يعني أن الطريق أصبح سالكًا أمام الجيش للانتشار في شارع الستين الحيوي ومناطق واسعة من شرق الخرطوم.
- استعادت القوات المسلحة ممثلة في سلاح المدرعات مناطق واسعة في جنوب الخرطوم مثل الميناء البري والامتداد وشارع الصحافة والسوق الشعبي وحي النزهة ومباني كلية الهندسة جامعة السودان.
- عززت انتشارها في شارع الهوا جنوب الخرطوم وتتقدم لتحرير أحياء الكلاكلة.
- تتقدم قوات الجيش نحو السـوق المركزي وأحياء المدينة الرياضية والإنقاذ والأزهري ومايو في جنوب الحزام.
- سيطرت قوات درع السودان المساندة للجيش على طيبة الحسناب وتقدمت جنوبًا لاستعادة جبل أولياء وهي كبرى محليات الخرطوم ولديها حدود مع ولاية النيل الأبيض.
- كما تقترب قوات سلاح المدرعات من إكمال انتشارها لتأمين حي العمارات والأجزاء المتبقية من مطار الخرطوم.
الجيش في اوماك مع الستين pic.twitter.com/RZB9PsXC1S
— Nasser (@itsnasserr) March 26, 2025
وعلى صعيد المناطق العسكرية تمكنت القوات المسلحة من استعادة الآتي:
- تحرير مقر “اللواء الآلي الأول مشاة” الذي استلمته الدعم السريع بعملية غدر قبل اندلاع الحرب وبالتحديد يوم 14 نيسان/أبريل 2023.
- تمكنت من استعادة قيادة الدفاع الجوي ومقره العمارات شارع 61.
- بسطت سيطرتها على معسكر طيبة أكبر معاقل مليشيا الدعم السريع في ولاية الخرطوم.
- كما استعادت مصنع اليرموك للأسلحة والذخائر بمنطقة الشجرة والكلاكلات جنوب الخرطوم.
- وبسطت القوات المسلحة السودانية سيطرتها على قاعدة النجومي الجوية في جبل أولياء جنوب العاصمة.
كانت تحركات الجيش تُوّجت الأسبوع الماضي باستعادة السيطرة على كامل وسط الخرطوم، بما في ذلك القصر الرئاسي ومقرات الوزارات الاتحادية ومنطقة العاصمة التجارية التي تضم السوق العربي والسوق الإفرنجي ومول الواحة وبرج كورونثيا وغيرهم، لأول مرة منذ اندلاع الحرب.
فمنذ الساعات الأولى من صبيحة يوم 15 أبريل/نيسان 2023 سيطرت الدعم السريع على القصر ووسط الخرطوم بما في ذلك الوزارات والمؤسسات السيادية، في ظل التخطيط الدقيق والهجمات المحكمة التي شنّها الدعم السريع لدرجة أن قائده محمد حمدان دقلو “حميدتي” كان واثقًا من اعتقال القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان في حالة عدم استسلامه، كما صرّح بذلك بعد ظهر ذلك اليوم.
انقلب الحال رأسًا على عقب
بعد مرور نحو عامين على تلك الأيام التي كانت فيها للدعم السريع اليد الطولى في الخرطوم انقلب الحال رأسًا على عقب، إذ نشهد حاليًا تمكُّن الجيش السوداني من استعادة معظم العاصمة بمدنها الثلاث الخرطوم وبحري وأمدرمان، بينما تشهد المناطق التي يقترب منها الجيش مثل ما تبقى من أحياء جنوب وشرق الخرطوم موجات هروب واسعة لعناصر الدعم السريع.
وللمفارقة جاءت استعادة القصر الرئاسي ومنطقة وسط الخرطوم بعد أيام قليلة من تسجيل مصور لقائد الدعم السريع حميدتي تعهد فيه ببقاء قواته من القصر وعدم خروجها من منطقة وسط الخرطوم ومنطقة المقرن، في الوقت الذي كانت فيه قواته محاصرة بالفعل، إذ طوقتها قوات الجيش من كل الاتجاهات، شرقًا من قبل قوات القيادة العامة وغربًا من قوات سلاح المهندسين المتمركزة في منطقة المقرن، فضلًا عن قوات الكدرو التي رابطت على جسر المك نمر شمالًا، فيما كانت قوات سلاح المدرعات تتقدم من اتجاه الجنوب.
البداية من معركة العبور
حتى سبتمبر/أيلول 2024، كانت للدعم السريع اليد العليا ميدانيًا، حيث كانت تسيطر على معظم العاصمة الخرطوم بما فيها القصر الرئاسي والمطار، وعلى ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني وسط البلاد، فضلًا عن 4 ولايات من ولايات إقليم دارفور الخمسة، كما حاصرت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور المتبقية بيد الجيش وحلفائه بالقوة المشتركة المُشكّلة من فصائل دارفور المتمردة سابقا.
وتمكنت الدعم السريع في تلك الفترة من الانتشار غربًا في أجزاء واسعة من ولايات كردفان ومناطق لا يستهان بها في ولايات النيل الأبيض والنيل الأزرق.
أما ذروة تمدد الدعم السريع فكانت في يوليو/تموز الفائت، عندما غزت المليشيا جنوب شرق البلاد لتحتل غالبية مدن ومناطق ولاية سنار وتوشك أن تفتح مسارات تلقي إمداد جديدة عبر الحدود مع إثيوبيا وجنوب السودان، في حين انحصرت سيطرة الجيش على شرق وشمال البلاد.
لكن قيادة الجيش أعادت تموضعها داخليًا وخارجيًا، فانضمّ إليها عشرات الآلاف من المقاتلين المتطوعين تحت مظلة “المقاومة الشعبية” كرد فعل على انتهاكات الدعم السريع بما فيها من قتل خارج نطاق القانون واغتصاب ونهب ممتلكات السكان.
جدير بالذكر أن المقاتلين المتطوعين الذين انضموا للجيش كانوا من كل فئات المجتمع السوداني، منهم الشباب الذين ثاروا على نظام الرئيس السابق عمر البشير مثل المنضوين تحت كيان “غاضبون بلا حدود” وغيرهم من أعضاء لجان المقاومة في الأحياء، إلى جانب الإسلاميين مثل أعضاء كتيبة البراء بن مالك والمقاتلين السابقين بهيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات العامة التي حُلت بقرار سابق من قائد عبد الفتاح البرهان الذي أمر فيه بتسليم معسكراتها وأسلحتها للدعم السريع، قبل الخلاف مع قائدها حميدتي.
كذلك حصل الجيش على إمدادات عسكرية من الصين وروسيا، كما أعادت الحكومة السودانية علاقاتها المقطوعة مع طهران، ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، منحت السعودية أموالًا للجيش السوداني استخدمها لشراء طائرات مسيرة إيرانية بينما أرسلت قطر للجيش ست طائرات حربية صينية.
تزامنًا مع ذلك قامت الحكومة السودانية بتنشيط العلاقات العسكرية مع تركيا التي حصلت منها على طائرات مسيرة، ووطدت العلاقات مع الجزائر التي استشعرت الخطر من تأثير الحرب في السودان على استقرار منطقة الساحل، كل تلك التحركات وازنت التسليح المتطور الذي يصل الدعم السريع من دولة الإمارات.
شعبية الجنرال ياسر العطا
بدأ هجوم الجيش المضاد بعملية عسكرية أُطلق عليها اسم “عملية العبور” نسبة لأن القوات التي شاركت فيها عبرت الجسور النيلية التي تربط مدينة أمدرمان بشقيقتها الشرقية الخرطوم، وجاءت الهجوم بعد أيامٍ من تصريحاتٍ للجنرال ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، قال فيها إن الجيش سيمطر “حجارة من سجيل” على “الدعم السريع”، موضحًا أن العمليات العسكرية انطلقت بالفعل والاستعدادات تتميز بجودة عالية.
وقد حظي الفريق أول العطا بشعبية واسعة داخل وخارج السودان بفعل هجومه المستمر على رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد ووصفه له بـ”شيطان العرب” وتحميله المسؤولية عن اندلاع الحرب وكافة الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها مليشيات حميدتي.
#العطا .. لمن عصى#السودان #ياسر_العطا #السودان_تنتصر pic.twitter.com/0p7eEM9bi2
— عبدالله الملا @قطر (@q6r) March 23, 2025
بالعودة إلى عمليات الجيش السوداني نجد أنه أطلق في أكتوبر/كانون الأول الماضي عملية كبرى تمكن من خلالها من استعادة مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار جنوب شرق البلاد، ثم مدينة “ود مدني” وسط السودان مطلع العام الجاري، وانطلاقًا من الجزيرة بدأ التحرك لدخول الخرطوم، تزامنًا مع فتح محاور قتال شمال العاصمة تمكنت عبرها من استعادة السيطرة على مصفاة الجيلي ومن ثم تحرير وتأمين كافة الحدود الشمالية للخرطوم.
يعلق كاميرون هدسون، الدبلوماسي السابق بوزارة الخارجية الأمريكية والباحث البارز في برنامج أفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية واشنطن العاصمة بقوله: “لقد نجحوا وبشكل باهر في إعادة تسليح أنفسهم، وإعادة تزويد قواتهم الجوية بطائرات مسيرة من تركيا وطائرات مقاتلة صينية وروسية. وفي الوقت نفسه، واجهت قوات الدعم السريع صعوبة في الحفاظ على خطوط الإمداد من الإماراتيين عبر تشاد وليبيا”.
ونجحت القوات المتحركة من محور الخرطوم بحري في يناير/كانون الثاني 2025 بفك الحصار عن مقر “سلاح الإشارة” في الخرطوم بحري ثم عبور النيل الأزرق للالتقاء بالقوات المحاصرة داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بوسط الخرطوم، وزار البرهان مقر القيادة العامة بعد ساعات من فك الحصار معلنًا بدء معركة استعادة الخرطوم والقضاء على الدعم السريع داخلها، وهو ما نشهده بالفعل.
🚨#الخرطوم : مليشيا الدعم السريع تنهار والقوات المسلحة السودانية تتقدم.
— VISTA (@VistaMaps) March 26, 2025
معضلات أمام الحكومة
لكن التحدي المباشر الذي سيواجه الحكومة السودانية، فيتمثل في استعادة النظام والخدمات في مدينة أفرغت من سكانها وضمان توفير الغذاء والماء والاحتياجات الأخرى مع بدء عودة السكان النازحين.
فيما تكمن المعضلة الأخرى في استعادة الدعم الدولي الضروري لإعادة الإعمار مع الحفاظ على تماسك جميع القوى المتفرقة مثل القوة المشتركة لدارفور وكتائب الإسلاميين وكيان غاضبون ودرع السودان وغيرهم، وقد بدأ السودان مباحثات بالفعل مع المملكة العربية السعودية وقطر ومصر وتركيا لإعادة الإعمار.
وثالث المعضلات هي فك حصار مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور والاستعداد ربما لمواجهة تمرد طويل في الإقليم الغربي، فحتى لو استطاع الجيش والقوات المساندة له من استعادة السيطرة على المدن الرئيسية ستبقى الأرياف الشاسعة ملاذًا لمليشيا الدعم السريع تتمركز فيه وتجعله نقطة انطلاق لهجمات وتمرد يسبب إزعاجًا للسلطة المركزية.
أخيرًا، لا يمكن التقليل من انتصار الجيش السوداني الذي بقي صامدًا ومتماسكًا بعكس جيوش أخرى في المنطقة، إذ لم ينهَر رغم أنه واجه موجات بشرية من آلاف المقاتلين بينهم مرتزقة كولومبيون ومن كافة دول الجوار الأفريقي متسلحين بأحدث الأسلحة الأمريكية والأوروبية عبر أبو ظبي، تمكن الجيش من امتصاص تلك الهجمات والصمود، ثم اتبع إستراتيجية أخرى مكنته من هزيمة الدعم السريع ورعاتها الإقليميون.
وانتصارات الجيش السوداني لا تعني استعادة العاصمة الخرطوم فحسب رغم أهميتها وما تعنيه لأهلها وسكانها الأوفياء، بل تعني كذلك هزيمة نكراء وضربةً موجعةً للمشروع الإماراتي من سوريا وليبيا إلى اليمن مرورًا بالسودان.