كشف السلاح الجوي في الحرس الثوري الإيراني، الثلاثاء 25 آذار/مارس الجاري، عن واحدة من المدن الصاروخية الموجودة في أعماق الأرض، والتي تضم العديد من الصواريخ الباليستية التي تعمل بالوقود الصلب من نوع “فاتح خيبر” و”حاج قاسم” و”عماد” و”سجيل” و”قدرH” و”كروز باوه”.
وفي تقرير مصور بثه التلفزيون الإيراني، ظهر رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، الجنرال محمد باقري، وهو يتفقد المدينة الصاروخية الجديدة، رفقة قائد القوات الجوفضائية للحرس العميد أمير علي حاجي زادة، الذي أشار إلى أن بلاده تمتلك عددًا كبيرًا من هذه القواعد الصاروخية في أعماق الأرض، قائلًا: “إن أزحنا الستار عن مدينة صاروخية في كل أسبوع، لن تنتهي إزاحة السُّتر عن هذه المدن حتى قبل عامين”.
يأتي هذا الاستعراض للقدرات الصاروخية الإيرانية على وقع تصاعد خطاب التهديد والوعيد الأمريكي، وممارسة إدارة ترامب أقصى مستويات الضغط على طهران لإثنائها عن برنامجها النووي والتلويح باستخدام القوة ضده من جانب، ودعم الحوثيين من جانب آخر، بالتزامن مع تهديد إسرائيلي مواز، هذا في الوقت الذي يتعرض فيه النفوذ الإيراني لانحسار غير مسبوق جراء تقليم أظافر أذرعها الإقليمية في لبنان وسوريا واليمن.
استعراض قوة
تسعى طهران باستعراضها لقواتها وقدراتها العسكرية، إلى لملمة صورتها بعد الضربات التي تلقتها مؤخرًا وأحدثت أضرارًا كبيرة في ترسانتها التسليحية، وتسببت في حالة قلق وشك، وهي تبعث رسائل طمأنة للداخل الإيراني من جهة، وللخارج بشأن قدرة الجمهورية الإسلامية على التصدي لأي هجمات معادية محتملة، في ظل تصاعد التحذيرات والتهديدات المتكررة بشأن اعتداءات جديدة.
الكشف عن المدينة الصاروخية الجديدة، ذات القدرات الهجومية المتطورة، متوسطة وبعيدة المدى، سبقته خطوات أخرى في ذات السياق، منها ما عرضه التلفزيون الرسمي الإيراني في العاشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، حين أظهر قائد الحرس الثوري حسين سلامي يزور قاعدة صاروخية تحت الأرض، وهي القاعدة التي استُخدمت لشن هجوم على “إسرائيل” بنحو 200 صاروخ، تضمنت لأول مرة صواريخ فرط صوتية، في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، بحسب القناة.
كما كشفت القوة البحرية التابعة للحرس الثوري عن موقع جديد لتخزين السفن الحربية تحت الأرض تقع على 500 متر في المياه الجنوبية للبلاد، حيث أظهرت لقطات بثها التلفزيون الرسمي عشرات السفن الصغيرة المجهزة برشاشات وصواريخ في أنفاق المنشأة تحت الأرض، على أهبة الاستعداد للانطلاق في أي وقت، وأكد التلفزيون أن “بعض هذه السفن قادر على ضرب سفن ومدمرات أميركية”.
بالفيديو | إزاحة الستار عن #مدينة_صاروخية جديدة للحرس الثوري في أعماق الأرض#sonarmediacenter pic.twitter.com/Skn2mY4iGj
— Sonar Media Center (@SonarCenter) March 25, 2025
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في تصريحات له أمام مسؤولي جمعية الهلال الأحمر الإيرانية، الاثنين 24 آذار/مارس الجاري أشار إلى ثقته بأن حربًا لن تحدث، لكن بلاده “على أهبة الاستعداد والجهوزية” لدفع أي اعتداء، قائلًا إن مدى استعداد القوات الإيرانية “يكون على نحو يمنع أي طرف من مجرد التفكير بالعدوان على إيران”.
وكانت طهران قد تلقت ضربات موجعة خلال العام الأخير تحديدًا، حيث تساقط أذرعها الطولى في المنطقة، بداية من “حزب الله” الذي خرج بنسبة كبيرة عن المشهد بعد الخسائر التي تعرض لها على أيدي الإسرائيليين، مرورًا بسقوط نظام بشار الأسد، أحد أهم الحلفاء الإيرانيين في المنطقة، وصولًا إلى الاستهداف العنيف لجماعة الحوثي في اليمن، والتي تحاول الصمود والثبات رغم ما تتعرض له من عمليات وأضرار بالغة في بنيتها العسكرية والتحتية.
وكان نتاجًا لهذا التساقط أن مُني النفوذ الإيراني بحالة تقزم غير مسبوقة، وضعت طهران في مرمى الانتقادات والهجوم والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية على حد سواء، يتزامن هذا التقزيم مع التراجع النسبي لدعم حلفاء إيران من المعسكر الشرقي، على رأسهم روسيا، في ظل التفاهمات والتقاربات الأخيرة مع واشنطن والتي من المحتمل أن يكون لها تبعاتها على قوة ومتانة التحالف معها.
كل هذا أظهر إيران في موقف الدولة الضعيفة، التي رضخت -أمام مقارباتها الأمنية والسياسية- للضغوط الغربية، وتسبب في تصاعد مشاعر الشك والريبة في قدرة الدولة، التي كانت تتمتع قبل عام فقط بالنفوذ الأكبر في الشرق الأوسط، أن تكون ندًا قويًا للولايات المتحدة كما كان يزعم نظامها عبر سنوات، وهو ما دفعها لمثل تلك الاستعراضات التي تحاول من خلالها أن تثبت أنها قادرة على الصمود وأنها لا تزال تتمتع بالإمكانيات والقدرات التي تؤهلها للدفاع عن أمنها ومصالحها في الداخل والخارج.
رسائل لأمريكا و”إسرائيل”
حمل هذا الاستعراض رسائل مباشرة لكل من الولايات المتحدة و”إسرائيل”، كونهما الأكثر تهديدًا لإيران، تصريحًا وتلميحًا، وهو ما حرص جنرالات طهران على إيصاله من خلال مثل تلك المشاهد وما يعقبها من تصريحات، ففي كلمته خلال لقاء له مع ضباط إيرانيين داخل المدينة الصاروخية المعلن عنها قال رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، إن سرعة تطوير القدرات العسكرية الإيرانية “أكثر بكثير من سرعة العدو في ترميم مواطن ضعفه”.
وأضاف باقري أن هذه المدينة الصاروخية “جاهزة لتدمير العدو”، و”أعددنا قدرات (صاروخية) تفوق عشرات أضعاف الوعد الصادق 2″، في إشارة إلى الهجوم الصاروخي الذي نفذته القوات الإيرانية ضد الاحتلال في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2024، وذلك ردًا على ما أثير بشأن منح ترامب الضوء الأخضر لرئيس الوزراء الإسرائيلي لضرب مواقع إيران النووية، بالتزامن مع تشديد العقوبات الأميركية على صناعة النفط الإيرانية من خلال سياسة “الضغوط القصوى”.
ومنذ توليه السلطة في ولايته الثانية لم يتوقف ترامب عن ممارسة ضغوطه الرامية لعزل إيران عن الاقتصاد العالمي، من خلال وقف عائداتها من النفط الخام، وفرض عقوبات أخرى مشددة على نشاطها الاقتصادي في الداخل والخارج، هذا بخلاف تجريدها من أذرعها في المنطقة وتهميش تحالفاتها الإقليمية، وصولًا إلى ذروة التأزم حين بعث برسالة إلى المرشد الإيراني، على خامنئي، يُخيّره بين “الاتفاق حول البرنامج النووي خلال مهلة شهرين أو استخدام الخيار العسكري”.
وقوبل هذا التهديد باستنكار خامنئي الذي رفض التفاوض تحت ضغط “البلطجة” الأميركية، على حد قوله، فيما قال الرئيس مسعود بزشكيان “لا نقبل أن تصدر أميركا الأوامر وتوجه التهديدات، لن أتفاوض معك يا ترامب، افعل ما تريد”، وهو الرد الذي فتح باب التكهنات حول ما لدى طهران من أوراق ضغط يمكن الاستعانة بها في التعامل مع الضغوط الأمريكية، والتي من بينها بطبيعة الحال الخيار العسكري حتى وإن كان مستبعدًا، وعليه كان لابد من توصيل مثل تلك الرسائل بشأن قدرة إيران العسكرية وإمكانياتها التسليحية التي تؤهلها للتعاطي مع جميع الاحتمالات.
رفض التهديد الأوروبي
بلغ التوتر بين أوروبا وإيران خلال الآونة الأخيرة مستوياته القصوى في ظل تلويح قادة القارة العجوز بفرض عقوبات جديدة ومتصاعدة على طهران بسبب برنامجها النووي من جانب، ومزاعم دعمها لروسيا في حربها ضد أوكرانيا من جانب آخر، وكان الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قد فرضا حزمة من العقوبات الإضافية تضمنت حظر تصدير أو نقل أو توريد معدات تستخدم في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة إلى إيران، ومنع استخدام الموانئ الإيرانية مثل مينائي أمير آباد وأنزلي على بحر قزوين التي يُشتبه في استخدامها لنقل هذه المعدات، كما تم منع تقديم أي دعم للسفن التي تشارك في هذه الأنشطة، باستثناء المساعدات الإنسانية، هذا بخلاف مساعي تجفيف موارد النفط والحظر المفروض على شركات الطيران والنقل البحري.
وترفض طهران تهديد أوروبا تفعيل ما يُعرف بـ”آلية الزناد” (إمكانية إعادة العقوبات المفروضة على إيران تلقائيًا في غضون 30 يومًا، ووردت في مشروع القرار رقم 2231 في البند الـ11 منه وتستمر صلاحية تنفيذه حتى 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2025) كسلاح ضغط يٌشهر في وجه الجمهورية الإسلامية لإثنائها عن برنامجها النووي.
كمالوندي: استخدام آلية الزناد سيقابل برد فعل شديد من #إيرانhttps://t.co/P2Uq75nHKb pic.twitter.com/bU9o7Wrkpg
— وكالة تسنيم للأنباء (@Tasnimarabic) March 25, 2025
وكان المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، قد وصف تهديدات فرنسا وبريطانيا وألمانيا باللجوء إلى هذه الآلية بأنها “واهية وفارغة”، متوعدًا بـ”ردة فعل مناسبة وشديدة من جانب إيران” إن قاموا بتفعيل هذه الآلية، معتبرًا أن تلك الآلية أداة ضغط كبقية التهديدات الاقتصادية والعسكرية.
وتحاول طهران من خلال استعراض قواتها العسكرية بين الحين والأخر الرد على التهديدات المتكررة من الدول الأوروبية خاصة مجموعة الترويكا “بريطانيا وفرنسا وألمانيا” التي تتزعم توجه الضغط على إيران من خلال فرض عقوبات تصعيدية جديدة قبل انتهاء المدة المحددة لآلية الزناد تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
موقف صعب تواجهه الدولة الإيرانية بعدما جُردت من أذرعها في المنطقة، حيث تصاعد الخطاب التهديدي من أمريكا و”إسرائيل” وأوروبا، وسط القلق من تداعيات التقارب الروسي الأمريكي على خارطة تحالفاتها الإقليمية، فيما يواجه نفوذها تقزيمًا لم تعرفه منذ عقود طويلة، لتجد نفسها – بعدما تغيرت قواعد اللعبة بشكل مفاجئ وغير متوقع- في مهمة صعبة للإبقاء على موضع قدم لها على الساحة التي تتهيأ الآن لإعادة تموضع جديد قد لا يكون للإيرانيين مكان فيه.