ترجمة وتحرير: نون بوست
سنة 1979، عندما تأسست الجمهورية الإسلامية في إيران، كان النظام الديني الجديد يحظى بدعم شعبي واسع في المجتمع الإيراني، إلا أن هذا الدعم تلاشى على مدى العقود الأربعة التالية.
والآن بعد مرور 46 عامًا على الثورة الإسلامية، تشير أدلة جديدة إلى أن آخر معاقل تأييد النظام – وهم فئة متشددة موالية للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والحرس الثوري الإيراني – بدأت بدورها تتخلى عنه.
لأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، بدأت التساؤلات تُثار حول مدى استعداد العناصر الأكثر تشددا، والتي تشكل جهاز القمع الميداني، للدفاع عن النظام إذا اندلعت الاضطرابات مرة أخرى.
وهذه التساؤلات أثارت حالة من الذعر بين كبار المسؤولين في الجمهورية الإسلامية، والذين يعلمون جيدًا أن ما أدى إلى انهيار حكم البعث في سوريا هو حالة الإحباط التي أصابت قوات الديكتاتور بشار الأسد، وأدت إلى تخليهم عنه في نهاية المطاف.
لقد اعتمدت الجمهورية الإسلامية في إيران على شرائح اجتماعية متداخلة منذ أكثر من أربعة عقود للحفاظ على السلطة. ومن الدعم الشعبي الواسع سنة 1979 إلى القاعدة المتشددة المتضائلة اليوم، فقدت المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران بشكل تدريجي دعم كل الفئات التي كانت تدّعي تمثيلها.
خلال العقد الأول من الثورة، بدأت الجمهورية الإسلامية تفقد دعم الطبقة الاجتماعية المتحررة في إيران بسبب تطبيق سياساتها الإسلامية المتشددة، والتي قادها آنذاك المرشد الأعلى روح الله الخميني من خلال “الثورة الثقافية” التي سعت إلى القضاء على جميع التأثيرات الحداثية والغربية وما قبل الإسلامية في المجتمع الإيراني. كما أن اندلاع الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات منحت الخميني صلاحيات غير مسبوقة للقضاء على القوى العلمانية التي ساعدت في إسقاط نظام الشاه البهلوي.
شهد العقد الثاني من الثورة تحولات بارزة في المجتمع الإيراني، حيث أدت حالة الاستنزاف الناتجة عن الحرب، إلى جانب الطفرة الشبابية في إيران – حيث كان أكثر من ثلثي الشعب الإيراني في ذلك الوقت تحت سن الثلاثين – إلى ظهور اتجاه جديد من العلمانية والتحررية في الطبقات الوسطى.
بدأت شعبية النظام تتآكل تدريجيا في صفوف هذه الطبقة بسبب حملة القمع العنيفة التي شنها لاحقا ضد مظاهر التحديث والتحرر، إلى جانب تلاعبه بالانتخابات. بلغ هذا القمع ذروته سنة 2009 بعد الانتخابات الرئاسية المزورة وقمع الاحتجاجات التي تلتها، مما أدى إلى فقدان النظام دعم الطبقة الوسطى بالكامل.
وبعد ما يقرب من عقد من الزمن، أدت الصعوبات المعيشية لأول مرة إلى تآكل الدعم في صفوف طبقة العمال والفقراء في المناطق الريفية، والتي كان الخميني يطلق عليها دائمًا “الطبقة المظلومة” والقاعدة المؤيدة تقليديا للجمهورية الإسلامية.
أدى تفاقم سوء الإدارة الحكومية، والفساد المستشري في الدولة، والصعوبات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الدولية، إلى عجز الحكومة عن توفير المواد الأساسية اليومية للإيرانيين الأكثر فقرا. تسبب ذلك باحتجاجات كبيرة في شوارع إيران سنتي 2017 و2019، حيث شهدت هذه الفترة ولأول مرة مشاركة الطبقات العاملة في قيادة الاحتجاجات في مناطق كان النظام يعتبرها معاقل له، مثل قم ومشهد.
كان قمع الحرس الثوري الإيراني العنيف لهذه الاحتجاجات، وخاصة سنة 2019 التي شهدت مقتل 1500 إيراني خلال بضعة أسابيع، بمثابة الضربة القاضية التي دفعت الطبقة المظلومة إلى الانقلاب على النظام إلى الأبد.
منذ سنة 2019، مع بلوغ الثورة عامها الأربعين، أصبح نظام الجمهورية الإسلامية الذي كان يحظى بشعبية واسعة في السابق، يعتمد بشكل شبه كامل على قاعدة ضيقة ومتشددة. هذه القاعدة الاجتماعية، المعروفة بالقاعدة المتشددة، تدعم النظام لأسباب أيديولوجية تتعلق بفهمها المتشدد للدين الإسلامي.
ويتركز دعمها على تطبيق سياسات إسلامية متشددة داخليًا وخارجيًا، وهو ما تعتبره شريعة إسلامية. تشمل هذه السياسات الشرطة الأخلاقية في إيران، ودعم “محور المقاومة” التابع للحرس الثوري الإيراني، ومن ذلك دعم حزب الله وحماس، والالتزام بالقضاء على إسرائيل المدفوع بمعاداة السامية، والعداء الشديد لأمريكا، والسعي لتطوير الأسلحة النووية. بعبارة أخرى، تمثل هذه السياسات الركائز الأيديولوجية الأساسية للثورة الإسلامية.
ولتعزيز هذه القاعدة المتشددة، خلقت الجمهورية الإسلامية “مجتمعًا عميقًا” يتكون من هذه الفئة الاجتماعية، وهو مجتمع موازٍ داخل الجمهورية الإسلامية، يعمل على حماية النظام ويحصل في المقابل على الرعاية.
ويظهر الالتزام الأيديولوجي لهذه الفئة من خلال مشاركتها الطوعية في الاجتماعات الدعائية التي تنظمها الدولة، وقيامها بدور الشرطة الأخلاقية (على سبيل المثال، من خلال فرض قانون الحجاب والإبلاغ عن النساء اللواتي لا يلتزمن به للسلطات)، وخروجها تلقائيًا إلى الشوارع لقمع الاحتجاجات المناهضة للنظام، كما حدث في 2022.
هذه الفئة هي نفسها التي يجندها الحرس الثوري الإيراني وميليشياته المحلية المعروفة بالباسيج. ورغم عدم وجود إحصائيات رسمية حول تعداد هذه القاعدة المتشددة، تشير التقديرات إلى أن عددهم لا يتجاوز 8 ملايين شخص، أي حوالي 10 بالمائة من السكان.
ويمكن التحقق من هذا الرقم من خلال عدد الإيرانيين الذين تطوعوا لأخذ اللقاح المحلي الذي أنتجه الحرس الثوري الإيراني ضد فيروس كورونا بدلاً من اللقاحات المعتمدة دوليًا.
لكن على مدار السنة الماضية، هزت سلسلة من الخيانات هذه الفئة التي يعتبرها خامنئي والقيادة العليا للحرس الثوري قاعدةً مخلصةً لا يمكن الشك في ولائها للنظام. بدأت التصدعات تظهر لأول مرة بعد الوفاة المفاجئة للرئيس إبراهيم رئيسي الذي كان يعتمد بالكامل على هذه القاعدة المتشددة.
وبعد وفاة رئيسي، كان من المتوقع أن يخلفه سعيد جليلي، المقرب من الرئيس الراحل. كان هذا التوقع منطقيًا؛ حيث إن خامنئي كان قد أطلق منذ سنة 2019 خطة “تطهير” أيديولوجي تهدف إلى تمكين جيل جديد من المتشددين في جميع فروع النظام. ولكن هذه المرة، تدخل خامنئي والقيادة العليا للحرس الثوري على الأرجح لمنع جليلي من تولي منصب الرئيس، وعيّن بدلا منه “الإصلاحي” مسعود بزشكيان.
وجاء هذا القرار بسبب الأداء الضعيف للتكنوقراط المقربين من رئيسي، والذي سرّع من تفاقم الأزمات في إيران، بالإضافة إلى التحضيرات لاحتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفرضه سياسة “الضغط الأقصى”.
وكان خامنئي قد وضع في حساباته أن وجود رئيس “إصلاحي” قد يؤدي إلى انقسام دول الغرب في مواقفها من طهران. وقد أدى القرار إلى رد فعل عنيف داخل القاعدة المتشددة، التي رأت في رئاسة بزشكيان خيانة أيديولوجية للوعد بالاستمرار في نهج رئيسي، لدرجة أن هناك شكوكًا أثيرت حول سبب حادث تحطم المروحية الذي أسفر عن وفاة الرئيس، مع انتشار شائعة تفيد بأنه كان عملاً داخليًا.
لكن الخيانات لم تتوقف، بل انتقلت من سيء إلى أسوأ. كانت الضربة الكبرى التالية عندما منح المرشد الأعلى الضوء الأخضر لبزشكيان لتعيين وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف نائبًا للرئيس للشؤون الاستراتيجية.
لمدة ثماني سنوات، كان خامنئي والحرس الثوري الإيراني قد حشدوا القاعدة المتشددة للهجوم على ظريف وشن حرب نفسية ضده. قال المتشددون إنه جاسوس أمريكي وخائن للنظام، واتهموه بالإساءة إلى القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري، قاسم سليماني، الذي يعتبرونه رمزا كبيرا.
وقد تفاقمت هذه الانتكاسات الداخلية عندما تدخل المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يديره خامنئي لتأجيل تنفيذ قوانين شرطة الأخلاق التي تم إقرارها حديثًا. وقد أثار هذا القرار انتقادات للنظام، حيث اتهمت القاعدة المتشددة علنًا كبار المسؤولين بالانحراف العقائدي والتخلي عن أحد أهم أركان الثورة الإسلامية.
لكن هذا الإحباط لا يرتبط فقط بالشؤون الداخلية. نجحت إسرائيل في توجيه ضربات موجعة لما يُعرف بمحور المقاومة، واغتالت قادة بارزين في حزب الله والحرس الثوري الإيراني، مما أثار غضب القاعدة المتشددة.
بدأت هذه القاعدة تشكك علنًا في التزام الأوليغارشية التابعة للحرس الثوري بأيديولوجية الثورة الإسلامية، وتردد القيادة في ضرب إسرائيل، بل ذهب البعض إلى حد الإيحاء بوجود تواطؤ مع الاستخبارات الإسرائيلية. وحتى عندما شنّ الحرس الثوري هجمات مباشرة غير مسبوقة على إسرائيل، فإن عدم فاعلية الصواريخ والطائرات المسيّرة التي طالما تباهى بها القادة الإيرانيون، زاد من حالة الإحباط داخل القاعدة المتشددة، التي كانت تؤمن بدعاية النظام بشأن قدرات الحرس الثوري.
لكن النقطة التي أفاضت الكأس حدثت على بُعد أكثر من 700 ميل من إيران، بانهيار نظام الأسد في سوريا. أدى سقوط الأسد إلى إذكاء الغضب تجاه خامنئي وكبار قيادات الحرس الثوري.
بالنسبة للقاعدة المتشددة التي قاتل العديد من أبنائها طوعًا في سوريا ضد التنظيمات السلفية الجهادية، اعتُبر قرار خامنئي بالوقوف مكتوف الأيدي ومشاهدة سوريا تسقط بيد المتمردين بقيادة هيئة تحرير الشام خيانة أخرى. كان النظام يروج لقاعدته المخلصة باستمرار أن الحفاظ على سوريا يعني الحفاظ على الإسلام الشيعي و”المقدسات الشيعية“، وليس مجرد حماية للأسد.
والآن، في ظل حالة السخط في صفوف القاعدة المتشددة بسبب سوريا وعوامل أخرى، يزداد الغضب بسبب الإشارات التي ترسلها القيادة بشأن إمكانية التفاوض مع ترامب، الذي أمر باغتيال سليماني خلال ولايته الأولى. منذ مقتل سليماني، تعهّد خامنئي وقادة الحرس الثوري برد قاسٍ وهددوا باغتيال ترامب وكل من شارك في العملية التي أودت بحياة سليماني. لكن تفكير في الجلوس على طاولة واحدة مع قاتل سليماني يزيد حالة الغضب في صفوف المتشددين.
من المرجح أن يؤدي تآكل القاعدة الأيديولوجية المتشددة إلى تداعيات عميقة على الجمهورية الإسلامية. يدرك خامنئي والحرس الثوري تمامًا أن تآكل هذه القاعدة بالذات يشكل تهديدا وجوديا للجمهورية الإسلامية، لأن أفراد هذه الفئة الصغيرة شديدة التطرّف يشكلون جنود الميدان الذين يعول عليهم النظام في قمع الإيرانيين كلما اندلعت احتجاجات مناهضة له.
وفي هذا السياق، لم يهدر خامنئي والحرس الثوري وقتًا في محاولة معالجة هذه الأزمة الوجودية، رغم قلة الخيارات المتاحة أمامهم. ولإعادة كسب دعم القاعدة المتشددة، لا خيار أمام الجمهورية الإسلامية سوى إعادة إحياء سياساتها الأيديولوجية داخليًا وخارجيًا.
يدرك خامنئي أنه لا يملك مجالا كبيرا للمناورة في الشرق الأوسط، خاصة مع قيام إدارة ترامب بإعادة فرض سياسة الضغط الأقصى على النظام للحد من قدرته على تمويل ميليشياته الإرهابية.
كما أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي، ولن تسمح لطهران بإعادة تسليح التنظيمات التي أعلنت عليها الحرب بشكل جماعي بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
خيارات خامنئي المحدودة لإرضاء القاعدة المتشددة خارجيًا تعني أنه سيسعى على الأرجح إلى استرضائها داخليًا. ويبدو أن ظريف، وعبد الناصر همتي، وزير الاقتصاد في حكومة بزشكيان، هما أول ضحايا هذه الاستراتيجية.
من غير المرجح أن تكون استقالة وزير الخارجية السابق من حكومة بزشكيان قد تمت دون تدخل من خامنئي وقيادة الحرس الثوري، التي تدرك جيدًا أن الإطاحة بظريف ستعيد بعض رأس المال السياسي المفقود. وبالمثل، فاجأ المرشد الأعلى الكثيرين في خطابه الأخير باستبعاد إجراء محادثات مع ترامب، خلافًا لتلميحاته السابقة بإمكانية التفاوض مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
لكن هذا وحده لن يرضي هذه القاعدة الانتخابية. على الصعيد الداخلي، يحتاج خامنئي إلى تكثيف تطبيق السياسات الإسلامية المتشددة، وليس أقلها ضبط الأخلاق. بطبيعة الحال، هذه اللعبة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للمرشد الأعلى، لأنها ستؤدي إلى رد فعل عنيف بين عموم الشعب، مما يزيد من فرصة حدوث احتجاجات جماهيرية جديدة ضد النظام.
هنا تكمن المفارقة بالنسبة لخامنئي: إما تخفيف السياسات الأيديولوجية والمخاطرة بفقدان قاعدة أجهزته القمعية، أو تكثيفها وزيادة فرصة اندلاع احتجاجات جماهيرية. يشكل كلا السيناريوهين تهديدًا وجوديًا للجمهورية الإسلامية، وقد يؤدي بخامنئي إلى نفس مصير بشار الأسد.
المصدر: فورين بوليسي