يدنو عيد الفطر هذا العام على قطاع غزة مثقلًا برائحة البارود وصدى القصف، لا بأصوات التكبير والفرح المعتادة.
يأتي العيد للسنة الثانية على التوالي في ظل حرب إبادة متواصلة، لم تترك بيتًا إلا وطرقت بابه بالموت أو الفقد أو النزوح، فلا بيت في غزة إلا وقد نُكّس فيه علم الفرح، وارتفع مكانه لواء الحداد.
في الأعياد السابقة، كانت شوارع غزة تكتظ بالعائلات المحتفية، وتضجّ الأسواق بالألوان والضحكات، رغم الحصار والضيق. كانت الأمهات يتحضرن لصنع الكعك، والأطفال ينتظرون ملابس العيد الجديدة بشغف، بينما يتبادل الجيران التهاني وتُقام زيارات العيد التي تمتد من أقصى جنوب القطاع إلى شماله. أما اليوم، فغزة تدخل عيدها بقلوب مثقلة، وأجساد منهكة، وأرواح تبحث عن فسحة أمل وسط الركام.
تحت وقع الغارات المتجددة وهدير الطائرات، يحاول بعض الأهالي إحياء طقوس العيد بما توفر، فقط لإدخال بسمة صغيرة على وجوه أطفال لم يعرفوا من الحياة سوى الخوف. وبينما يعلو صوت التكبيرات في بعض المساجد المؤقتة، ترتجف قلوب الآلاف من النازحين وهم يراقبون السماء، يترقبون عودة القصف، ويتمنون أن يمرّ العيد بلا وداع جديد.
مشاعر متباينة
يعيش أهالي غزة هذه الأيام على وقع مشاعر متناقضة، تتأرجح بين التحسب لعدوان متجدد يبطش بالعائلات، وبين محاولات حثيثة للملمة الجراح والبحث عن بصيص فرح بين أنقاض الحرب، فبينما تسعى بعض العائلات لصنع لحظة بهجة لأطفالها، تنشغل أخرى بجمع ما تبقى من حاجياتها، استعدادًا لمحطة نزوح جديدة، بفعل أوامر الإخلاء التي يتبعها عادة عدوان عنيف على المناطق المستهدفة.
في أسواق غزة، تنعكس هذه المفارقة بوضوح، فعلى امتداد شارع عمر المختار، وتحديدًا في سوق الرمال، تتناثر محاولات الحياة: بعض التجار يُعيدون ترتيب بضاعتهم المتواضعة، يعلقون الزينة ويعرضون ما تيسّر من ملابس العيد، في محاولة لبعث الروح في ذاكرة الفرح.
وعلى الجهة المقابلة، يُنصب عدد من النازحين خيامهم على أنقاض منتزه الجندي المجهول، أحد أبرز معالم المدينة ووجهتها الأهم في أيام العيد، والذي تحوّل إلى مساحة مكسوة بالخراب بدلًا من مظاهر الاحتفال المعتادة.
تقول السيدة رغدة مختار، التي اصطحبت أطفالها للتسوّق عشية العيد: “نحن نبحث عن أي ضوء صغير يمكن أن ندخل عبره الفرح إلى قلوب أطفالنا الذين أرهقتهم أجواء الحرب والدمار”، وتضيف بأسى: “كنا نتمنى أن تستمر التهدئة خلال شهر رمضان المبارك، لكننا عشنا فيه الحصار والتجويع، ثم القصف والتهجير مجددًا. الاحتلال حرمنا من أجواء رمضان، ويحاول الآن حرماننا من العيد، ومع ذلك سنبقى نحاول”.
وعلى النقيض، تقف أم علي الزعانين، النازحة من بيت حانون في شمال القطاع، وقد أرهقتها دورة النزوح المتكررة، لتقول: “لا معنى للعيد أو لأي مناسبة دينية أو اجتماعية في ظل غياب المأوى، وانعدام أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية. نحن نعيش في انتظار دائم، إما أن نموت، أو يموت أحد من أحبائنا”.
غياب الأحبة
وجه آخر من وجوه المعاناة، هو ذاك الذي تحمله العائلات التي فقدت أبناءها وأحبتها، ولم تعد ترى في العيد سوى استحضار قاسٍ للذكريات. لا طقوس فرح ولا مظاهر احتفال، بل وجع يتجدد مع كل صباح عيد.
كيف يمكن أن نرسم للطفل سمير، الذي فقد والديه في الشهر الأول من الحرب، شكل العيد الطبيعي؟ هذا الطفل، الذي بالكاد عاش عيدين في كنف والديه قبل أن يسلبهما القصف، يُجبر اليوم على استقبال العيد يتيمًا، في خيمة لجوء مؤقتة، محاطًا بذكريات غائبة.
“استقبلت العيد بدمها بدلًا من ملابس جديدة”… عائلة فلسطينية تودّع طفلتها الشهيدة قبيل العيد في #غزة. pic.twitter.com/p9sP1dc0ZT
— نون بوست (@NoonPost) March 25, 2025
يقول جدّه، أبو العبد، بصوت يعلوه الحزن: “العيد لم يعد مناسبة للفرح، بل موعدًا جديدًا للحزن، نتهيأ فيه لزيارة المقابر بدلًا من تحضير الكعك وملابس الأطفال”، ويتابع: “ندعو الله فقط أن لا يقصف الاحتلال المقبرة، حتى نتمكن من الوقوف عند قبور من فقدناهم، نقرأ لهم القرآن ونبكي بصمت”.
بات العيد في غزة مرآةً لما حلّ بها؛ من تلاقي العائلات وتبادل الزيارات، إلى مناسبة يظهر فيها حجم الفقد. مئات العائلات تستقبل العيد بوجوه ناقصة؛ بعضها غاب تحت التراب، وبعضها خلف القضبان، وآخرون لا يُعرف مصيرهم حتى اللحظة.
عيد بلا تواصل
لطالما كان العيد في قطاع غزة مناسبة لتكريس صلة الرحم، وتبادل الزيارات، وجمع شمل العائلات التي تنتظر هذه الأيام لتلتقي بعد طول انشغال، لكن الحرب فرضت واقعًا مغايرًا، قُطعت فيه الأوصال، ومُزِّقت فيه الجغرافيا، وأُحيلت فيه فرصة الاجتماع إلى حلم مؤجل.
خلال الشهر المنصرم، نفّذ الاحتلال ليلة الثامن عشر من رمضان، حين ساد هدوء مؤقت استغله الأهالي لجمع شتاتهم، واحدة من أوسع حملات الاغتيال، حيث استهدف فيها بيوتًا اجتمعت فيها عائلات بعد فراق، فقضى على أفرادها بالكامل، في مشهد كرّس الفجيعة، وأعاد إلى الأذهان غدر الاحتلال في كل مناسبات الفرح الفلسطيني.
هذا المشهد لا يغيب عن أذهان أهالي القطاع وهم يستعدون مجددًا للعيد وسط استمرار العدوان، ويزيد من المخاوف من تكرار السيناريو ذاته، حيث قد يُستهدف أي بيت تنبعث منه رائحة حياة، أو تجتمع فيه العائلة.
أما على الأرض، فإن القطاع مقطّع الأوصال، بفعل “محور نيتساريم” الذي يفصل شمال وادي غزة عن جنوبه، ويحرم آلاف العائلات من حقها البسيط في التزاور، أو حتى تضميد الجراح مع من تبقّى من أحبائهم. فالعائلة الواحدة، التي فرّقتها الحرب بين الشمال والجنوب، باتت غير قادرة على الالتقاء، لا في العيد ولا في غيره، مما يجعل من هذه المناسبة ألمًا إضافيًا يُذكّر بالبعد والانقطاع.
ولا تقتصر الفجوة على الداخل فقط، بل تمتد لتشمل آلاف العائلات الفلسطينية التي شتّتها العدوان خارج القطاع. فبين جرحى ومرضى وطلاب ومرافقين، عالقون في مصر وخارجها، ممنوعون من العودة، حتى خلال فترات التهدئة.
يقول المهندس محمد محمود، المقيم في المملكة المتحدة، إن العيد بالنسبة له لا يحمل أي طعم: “روحي محبوسة في غزة. كيف أفرح وأهلي هناك تحت القصف والدمار؟ لا يمكنني حتى الاطمئنان عليهم إلا بصعوبة، وإذا سمعت عن قصف في المنطقة التي نزحوا إليها، يتوقف قلبي عن النبض حتى أتأكد أنهم بخير”.
أما أم عمار، التي خرجت من القطاع مع ابنتها المريضة خلال الحرب، فتروي من القاهرة: “غادرت وتركت زوجي وأطفالي هناك. كل من حولي يستعد للعيد، وأنا لا أشعر بشيء سوى ألم الغربة والفقد. أريد فقط أن أكون معهم، ولو في بيت مدمّر، فوجودنا معًا هو ما يصنع الفرح، ونحن من يصنع للبيت حياته من جديد”.
العيد، الذي لطالما ارتبط بجمع الشمل، أصبح اليوم مناسبة تُبرز حجم التمزق الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، وتعري سياسة الاحتلال التي لا تكتفي بالقتل، بل تسعى إلى تمزيق نسيج المجتمع، وتفتيت ما تبقى من روابط إنسانية وعائلية تُشكّل خزان الصمود الأساسي في قطاع غزة.
وجع لا ينتهي
هكذا يحلّ العيد هذا العام على قطاع غزة؛ لا كفرصة للفرح أو ممارسةة الطقوس، بل كموعد ثقيل تتقاطع فيه مشاعر متناقضة من الحزن والحنين والتمسك بما تبقى من الحياة، مع ترقّبٍ دائم لخطرٍ لا يغيب، فالعيد في غزة لا يُقاس بعدد التكبيرات، بل بعدد الغائبين، ولا يُفرش بالسجاد الملوّن، بل بأنقاض البيوت وركام الذكريات.
عائلات كثيرة تستقبل العيد بلا بيوت، بلا أبنائها، بلا ذكريات تُصنع من جديد، بل تحمل ما تبقى من صور الماضي وتفتّش عن ظلٍّ لفرحٍ لا يجد مكانًا وسط هذا الخراب. أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم، وآخرون وُلدوا خلال القصف ولم يعرفوا سوى ليل الحرب، يتطلعون إلى العيد كما يتطلع المنفيون إلى وطن لا يستطيعون بلوغه.
في غزة، لا يزال العيد يأتي، لكن لا أحد يعرف كيف يستقبله، فمنهم من ينظر إليه كخيط أمل يُمسك به رغم الألم، ومنهم من يتمنّى لو يؤجَّل، لأن الذاكرة مثقلة أكثر من أن تحتمل مناسبة كانت يومًا عنوانًا للبهجة.
رغم كل شيء، يحاول الفلسطينيون، كما اعتادوا، تطريز الحزن بخيوط الفرح، يحاولون ترميم أرواحهم المكلومة بما تيسّر من أمل، وإحياء تقاليد العيد بما بقي من الذاكرة والكرامة والكرم الإنساني. هذا الشعب، الذي فقد كل شيء تقريبًا، لا يزال يُصرّ على أن يحتفل، ليس لأن الحياة بخير، بل لأنه لا يريد للموت أن يكون السيّد المطلق لكل شيء.
إنه العيد في غزة، حيث الألم معلّق في السماء، والرجاء تحت الركام، والقلوب ما بين غائب لا يعود، وطفل لا يعرف لماذا لا تُشترى له ملابس جديدة.
في غزة، لا يسأل الناس متى يبدأ العيد، بل يسألون: متى تنتهي هذه الحرب؟ ومتى يعود من غاب؟ ومتى نكفّ عن استقبال الأعياد بالبكاء؟
ورغم كل ذلك، يبقى العيد في غزة مرآة لوجدان هذا الشعب الحيّ، الذي يُعلّم العالم كيف يكون الثبات حين تتقاطع الجنازات مع زينة العيد، وكيف تُصبح الإرادة أقوى من الحرب، وأكبر من الفقد، وأصدق من كل خطابات العالم.