في منتصف القرن التاسع عشر، كانت فلسطين جزءًا من إمبراطورية عثمانية إسلامية مترامية الأطراف، وامتدادًا جغرافيًا لمحيطٍ عربي يزخر بالعادات والتقاليد المتوارثة، التي تُضفي على كل موسم ديني واجتماعي ألوانه الخاصة، وتجعل منه امتيازًا قابلًا للتجدد والتكرار، مراتٍ ومرات.
وبرغم التفاوت الاجتماعي والديني والطبقي في البقعة نفسها، كانت الاحتفاليات غالبًا سائدة وعامة لمختلف أطياف الجمهور، حتى ممن لم يشملهم الطقس الاحتفالي؛ فشارك المسيحيون في إحياء المواسم الدينية الإسلامية، وانضم المسلمون إلى احتفالات المواسم المسيحية، كما اجتمعت الطوائف والأديان جميعًا في مواسم عامة جعلت من مواسم الحصاد والمطر وميلاد الأنبياء وهجراتهم احتفاليات أخرى، تُعزز وجود حياةٍ على تلك الأرض.
وينطبق ذلك على الأعياد الإسلامية، التي تطورت مظاهر الاحتفال بها وفقًا للنمطين العثماني؛ المرتبط باحتفالات إسطنبول وتبعية كل من متصرفية القدس ولواء نابلس وأعماله للإمبراطورية العثمانية، والنمط المصري؛ المرتبط بالامتداد العسكري وولاية الخديوي عباس حتى عام 1892.
ونتيجةً لذلك، ترك كلا النمطين بصمته وملامحه البارزة على احتفاء الفلسطينيين بأعيادهم حتى اليوم، مؤكدًا امتدادات جغرافية وديموغرافية وصلاتٍ تنفي الرواية الصهيونية عن “أرضٍ بلا شعب”، وتؤكد بأدلةٍ مصورة، بأيدي عربٍ وفلسطينيين وأجانب، وجود شعبٍ يموج بالحركة والتفاعل على أرضه، ويقتطع من كدّه وتعبه قليلًا من أجل متعة العيد وأجوائه.
من السنوات الأخيرة في العهد العثماني، إلى الانتداب البريطاني، فالنكبة وما بعدها، تفتح هذه المادة المصورة خزائن الذكريات لأرشيف أعيادٍ كثيرة عاشها الفلسطينيون الأوائل، حتى فلسطينيو اليوم، متأملة في ملامح جميلة لماضٍ انطفأ ولم يبقَ منه سوى غبار الصور.
العيد في العهد العثماني
بدأ الحُكم العثماني لفلسطين يتراجع تحت وقع الهجمات البريطانية مطلع عام 1917، وخلال ثلاثة أعوام استطاع البريطانيون بسط سيطرتهم على جميع مناطق فلسطين.
ومع حلول عام 1920، أعلنت عصبة الأمم الانتداب البريطاني على البلاد، ورغم طول مدة العهد العثماني التي تجاوزت أربعة قرون، إلا أن الأرشيف المصوّر المرتبط بتلك الفترة يظل محدودًا مقارنةً بالفترات اللاحقة، نظرًا لتأخر اختراع آلة التصوير، وقلّة عدد المصوّرين العرب (معظمهم كانوا من الأرمن والطليان)، إلى جانب تجاهل المؤسسات العربية والفلسطينية لاحقًا لأرشيفها لصالح المؤسسات “الإسرائيلية” التي سارعت للاستحواذ عليه.
ومن بين أبرز المصوّرين في تلك الفترة كان اللبناني خليل رعد (1854 ـ 1957)، إلى جانب الأخوين جميل ألبينا (1898 ـ 1963) ونجيب ألبينا (1901 ـ 1983)، اللذين عملا في شبابهما ضمن دائرة التصوير التابعة للأمريكان كولوني، قبل أن يختفي أرشيف صورهما لاحقًا، كما هو حال معظم إرث المصوّر حنّا صافية (1910 ـ 1979)، والمصوّرة كريمة عبود (1893 ـ 1940)، التي نُسي اسمها ولم يُعد اكتشاف أعمالها إلا في عام 2000.
وتُظهر الصور القليلة المتوفرة عن العيد في فترة الحكم العثماني تركيزًا ملحوظًا على طقوسه في المدن الكبرى مثل يافا والقدس وأريحا، ويبدو أن الارتباط كان وثيقًا بين ارتفاع المستوى الاجتماعي والمعيشي للفلسطينيين في تلك المدن، وتنوع أدواتهم في التعبير عن فرحهم بالعيد وممارستهم لطقوسه.
ويلاحظ وجود توثيق متكرر للعيد في مدينة يافا، التي كانت أكبر مدينة فلسطينية قبل النكبة، ومركزًا ثقافيًا ونقطة التقاء للحركة التجارية الفلسطينية مع العالم، كما ساعدها موقعها على البحر الأبيض المتوسط لتكون بوابة فلسطين، وتحمل لقب “عروس البحر”.
احتفالات عيد الأضحى في يافا، فلسطين العثمانية، 16 أبريل/نيسان 1870. (رسم توضيحي من صحيفة “لو موند إيليستري”).
احتفالات عيد الفطر في المقبرة الإسلامية في يافا عام 1897، ويظهر تجمع الأهالي وسط القبور وهم يحتفلون بالمناسبة، في مشهد يعكس التقاليد الدينية والاجتماعية في ذلك الوقت.
مجموعة من الفلسطينيين يقيمون بشعيرة ذبح الأضاحي، صبيحة عيد الأضحى عام 1900.
احتفالات العيد في ساحة المسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس عام 1907، حيث يتجمع الناس في أجواء احتفالية، ونلاحظ العديد من الأطفال يرتدون ملابسهم التقليدية، وفي المقدمة، يظهر رجل يجلس على الأرض بجانب وعاء يحتوي على طعام، ربما يقدم بعض المأكولات أو الحلوى للأطفال.
أطفال بملابس العيد المتعارف عليها حينها، وهو الثوب الفلسطيني التقليدي.
اكتظاظ سوق أريحا مطلع عام 1918.
فتيات من بيت لحم يقمن بالغناء والرقص والدربكه فرحًا بالعيد
مظافة او قعدة للرجال في قرية ارطاس شمال بيت لحم في نهاية القرن التاسع عشر.
فلسطينيون يلعبون السيجة في بداية القرن الماضي.
أطفال من القدس يستمعون إلى قصص الحكواتي، والذي يبدو أنه كان نوعًا من الترفيه المخصص للأطفال خلال فترة الأعياد.
العيد تحت الانتداب البريطاني
مع مطلع عام 1920، بدأت كثير من مظاهر الاحتفال بالأعياد بالتراجع في المدن الفلسطينية، فيما حرصت سلطات الانتداب البريطاني على فرض سيطرتها من خلال تفتيش رجال الدين، وإعاقة تجمعات الفلسطينيين، لا سيما في صباح يوم العيد بمدينة القدس.
جنود الاحتلال يفتشون رجال الدين المسلمين في المناسبات الدينية، ضمن سياسة للهيمنة والسيطرة.
جندي بريطاني من أبناء المستعمرات يفتش رجال دين مسلمين في مدينة القدس عام 1920.
يُخصص اليوم الأول من عيد الفطر لزيارة القبور وأضرحة المسلمين في مدينة يافا عام 1926.
مراجيح العيد في مدينة يافا عام 1920، ويقف بائع العصائر في مكانه، ليكتمل مشهد البهجة في المدينة.
طفلان من يافا، يجلسان على ظهر حمار بملابس العيد التقليدية، وهما يرتديان طربوشًا على رأسيهما.
أطفال يافا يطيرون طائرة ورقية عام 1920، خلال الاحتفال بالعيد.
صلاة العيد في مسجد المحمودية الكبير في يافا عام 1920
مجموعة من الرجال والأطفال متجمّعين حول ‘صندوق الفرجة’، وهو صندوق خشبي مزخرف يوضع فيه صور تُحرّك بواسطة ذراع جانبي، يجذب أنظار المشاهدين. يجلس رجل أمام الصندوق، يحرك الذراع، فيما يتابع الأطفال والرجال باهتمام الصور المتتابعة التي تحكي قصصًا أو مشاهد تراثية.
صواني الكنافة والبقلاوة وغيرها من الحلويات الشرقية، مرتبة بعناية على طاولات تنتظر زبائنها. في الخلفية، يواصل الباعة ترتيب ما تبقى، فيما يتجول الناس في السوق.
أطفال يتأرجحون على لعبة ‘الشقليبة’ المصنوعة من الخشب، وهي لعبة تقليدية كانت تُنصب خصيصًا في الأعياد، بينما يتابعهم الحاضرون، وذلك في مدينة رفح عام 1935.
مسيرات شعبية واحتفالات العيد في القدس عام 1936، حيث عزفت الفرق الموسيقية وسط تجمع الأهالي، في مشهد يعكس فرحة العيد وأجواء البهجة التي غمرت المدينة.
رجل فلسطيني يسوق خروفه إلى النحر صبيحة عيد الأضحى، في مشهد يعكس تقاليد العيد المتوارثة. لا يُعرف الموقع الدقيق لالتقاط الصورة، لكنها على الأرجح من جبال الضفة الغربية، حيث ينتشر هذا النوع من الزي التقليدي.
معايدات العيد في الصحف المطبوعة، حيث كانت تُنشر إعلانات التجار وأصحاب المصالح، التي جمعت بين الترويج لتجارتهم وتقديم التهاني والتبريكات بالمناسبة ذاتها، وذلك كما نقلتها جريدة فلسطين بتاريخ 17 آب/أغسطس 1947.
آخر عيد شهدته فلسطين قبل النكبة، وفيه نشرت جريدة فلسطين تهنئة حارة بالعيد، لكنها حافلة بالألم والخوف من المصير المجهول، حيث كانت إشارات النكبة حاضرة في كل حرف من حروف التهنئة: “تحتفل فلسطين العربية بهذا العيد احتفال المشفق من المصير، الصابر على البلوى، وان عز النصير”.
العيد بعد النكبة
بعد احتلال فلسطين على يد العصابات الصهيونية في أيار/مايو 1948، بدا كأن الحياة الاجتماعية والثقافية الفلسطينية قد توقفت، وبينما سُلّطت الأضواء في السنوات الأولى على الطوابير المتطاولة من اللاجئين الفلسطينيين، وعلى خيامهم وأوضاعهم الاقتصادية والصحية والإنسانية، وحالة البؤس الشديد التي أحاطت بهم.
عزز هذه الحالة تفرّق الفلسطينيين بين الدول العربية ومخيمات اللجوء، فبينما خضع جزء منهم للحكم المصري، وآخر للأردني، وآخرون هُجّروا إلى لبنان وسوريا والعراق ومصر والشتات، وألوف آخرون وقعوا تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، فقد غابت المظاهر المعتادة للعيد في مختلف المناطق.
وفيما يتعلق بالفلسطينيين في داخل فلسطين المحتلة تحديدًا، فقد تعرضول لحالة قمعٍ شديد، وعزل جغرافي وفصل سكاني، فرضت عليهم أوقاتًا معينة للتجوال، وأعمالًا محددة لأدائها، وفصلتهم وفقًا لدياناتهم وطوائفهم، ومنعتهم من المشاركة الجماعية بالمواسم الدينية، وبهذا اقتصر العيد في طقوسه وملامحه على الحد الأدنى من الترفيه.
مشهد مهيب لصلاة الجمعة في ساحات المسجد الأقصى المبارك عام 1964.
صورة تُظهر سكان قرية بيت صفافا جنوب غربي القدس، الذين وجدوا أنفسهم ضحايا لتقسيم قريتهم بموجب اتفاق الهدنة بين الأردن والاحتلال الصهيوني عام 1949.
ونتيجة لهذا التقسيم، وُضع سلك شائك يفصل القرية إلى جانبين، ما أجبر أهلها على التكيف مع واقع مرير فرضته الحدود والأسلاك، فكانوا يجتمعون على طرفي السلك الشائك خلال الأعياد والمناسبات لتبادل التهاني والتبريكات، في مشهد مؤلم يعكس إصرارهم على الحفاظ على روابطهم الاجتماعية رغم الفاصل الحديدي الذي شطر قريتهم وحياتهم إلى نصفين.
تُظهر الصورة مشهدًا مؤلمًا لسكان بلدة فلسطينية في الداخل المحتل، وهم يقفون في مواجهة جنود الاحتلال الذين يمنعونهم من زيارة أقربائهم في بلدة مجاورة، بأمر من الحاكم العسكري.
تبدو على وجوه الفلسطينيين علامات القهر والحزن، بينما يقف الجنود ببرود يُجسّد سياسة التفرقة والحرمان التي فرضها الاحتلال على الفلسطينيين في الداخل، حيث حُرموا لسنوات طويلة من أبسط حقوقهم في التواصل مع أقاربهم وأحبائهم.
مدينة الخليل خلال عيد الأضحى عام 1970، حيث امتلأت الساحة بالمراجيح الخشبية التقليدية التي كانت تُنصب في الأعياد.
تُوثّق هذه الصورة لقاءً عائليًا دافئًا لعائلة فلسطينية اجتمعت في عمّان – الأردن، عام 1990، للاحتفال بالعيد، في محاولة للحفاظ على تقاليد العيد وإحياء الروابط العائلية رغم سنوات الغربة والشتات.
سكان يافا في منتصف الثمانينيات، خلال عطلة العيد، وهم يتنزهون على شواطئ المدينة، حيث تجتمع العائلات والأطفال بالقرب من القوارب الراسية على الشاطئ، في أجواء احتفالية تعكس تراث يافا العريق وروحها الاجتماعية.
في الواقع، وبعد أكثر من سبعين عامًا، لا يبدو أن أعياد الفلسطينيين ما زالت تملك بريقها، بل إن سنوات الاحتلال المتواصلة أسفرت عن فقدان الفلسطينيين لمعنى العيد نفسه، وللّمة العائلة، ولمشاركة البهجة، ولحظات الصفاء والترفيه. كل هذا وأكثر يفتقده الفلسطيني اليوم في جميع أماكن تواجده.
إما بسبب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، أو التهجير القسري في الضفة، أو التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، أو إنهاء الأونروا وقضية اللاجئين في الدول العربية، أو ملاحقة مناصري فلسطين في الشتات.
وبرغم ذلك، ما زال الفلسطينيون يُجمعون على شعار واحد، أطلقوه يوم نكبتهم، وضربوا به الموعد المتوخى لعيدهم: “عيدنا يوم عودتنا”.