ملامح جديدة للأنشطة الدعوية الإسلامية في سوريا بدأت بالظهور بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، تأخذ هذه الأنشطة طابعًا أكثر انفتاحًا وحرية كردّ فعلٍ على حالة التقييد والتضييق عليها بشكل كبير خلال عقود الحكم البعثي.
مع تسلم السلطة الجديدة ذات الخلفية الإسلامية الحكم في سوريا، وجد بعض الدعاة فسحة لتنفيذ أنشطة دعوية غير معتادة في المجتمع السوري، عبر التنقل بسيارات وحافلات تبث تسجيلات دعوية وأناشيد دينية عبر مكبرات الصوت، وتسببت بحالة من الجدل كونها أنشطة غير مألوفة من جهة، وأنها تستهدف على الأغلب أحياء مسيحية أو ذات أغلبية غير سنية، من جهة أخرى، وسط مخاوف من أن تأخذ تلك الأنشطة طابعًا رسميًا وتصبح تقليديًا في مجتمع متعدد ومرحلة يعتمر فيها الاستقطاب.
طبيعة الأنشطة الدعوية
لكن ما أثار إشكالًا كبيرًا كان في دخول سيارة دعاة مسلحين لحي القطاع بدمشق المعروف بغالبيته المسيحية تحت اسم “إدارة العمليات العسكرية” وقيامهم بتوزيع أوراق تدعو لارتداء النقاب ومنع التدخين والاختلاط، وهو ما أغضب سكان الحي معتبرين ذلك تعد على خصوصية الحي المسيحي، ليتطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي قبل أن تأتي دورية عسكرية وتعتقل الدعاة.
سبق تلك الحادثة ظهور ملصقات جدرانية على بعض شوارع المدن السورية تحث النساء على الالتزام باللباس الشرعي، كما يظهر الملصق “شروط الحجاب الصحيح”، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نُظمت ملتقيات دعوية في السكن الجامعي بمدينة حمص، حيث قام دعاة بتقديم محاضرات دينية وتوزيع منشورات وكتيبات تهدف إلى تعزيز الوعي الديني بين الطلاب.
كما نُظم حفل ديني في مدينة جبلة ذات التركيبة السكانية الاجتماعية المتنوعة، حيث ظهر فيه قيادي يدعى “أبو سفيان الجبلاوي” مرتديًا الزي الأفغاني، ورافقه أداء أناشيد جهادية، وتقديم طفل تركستاني، قبل أن تقوم الأجهزة المختصة في الإدارة السورية الجديدة، باعتقال الجبلاوي بعد مشادات حادة خلال الفعالية.
وتباينت ردود الفعل تجاه هذه الظاهرة، إذ رأى البعض أنها تعبير عن حرية الدعوة في مجتمع يمثل المسلمون فيه الأغلبية، بينما اعتبرها آخرون حركة استفزازية وتؤثر سلبًا على التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع السوري، ومحاولة لزرع الفتنة والتفرق.
خطاب فردي غير منظم
من المعروف أن المجال الديني في سوريا كان يدار بإحكام من قبل الأجهزة الأمنية للنظام البائد والمؤسسات الدينية الرسمية التابعة له، عدا عن وجود تيارات علمانية قوية.
وقد سعى النظام عمومًا خلال العقود الأولى من حكم حزب البعث في سورية منذ العام 1963، إلى منع تأسيس أي نوع من أنواع المأسسة الإسلامية السنّية المُتّسقة، مُفضّلًا عوض ذلك اللعب على وتر التناقضات بين المؤسسات الدينية واستقطابها وابتزازها بحريتها وتأليبها على بعضها البعض، مع السماح لكيان مفضّل بعينه في كل مرحلة بممارسة قدرٍ من الاستقلال الذاتي.
وخلال سنوات الثورة السورية فتح النظام البائد الباب على مصراعيه أمام التوسع في نشاط الدعاية والترويج للتشيُّع، والتوسع في بناء الحوزات والأضرحة، وفتح حسينيات ومراكز دينية وثقافية، ومراكز تدريس ومكتبات، وهو ما خلق حالة من الغضب في أوساط الأغلبية السنية.
ويظهر خلال مرحلتي حكم البعث واندلاع الثورة السورية أن العامل المشترك بينهما هو التضييق على المنهج السلفي وملاحقة أتباعه الذين ازدادوا خلال العقد الفائت وباتوا عمادًا لتنظيمات عسكرية كبرى.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، أنه في كثير من الحالات يظهر خطاب سلفي تقليدي يسعى دعاته لفرضه على السوريين باعتباره “العقيدة الصحيحة” في مناطق لا تتقبل هذا الخطاب. مناطق مختلفة دينيًا وطائفيًا أو يغلب عليها مثلًا تاريخ طويل من التصوف ومناهضة السلفية، وهذا ما رأينا هذا في حماة ودمشق.
وشدد على أن الادارة الجديدة تراعي التدين العام للمجتمع، فالخطاب الفردي غير المنظم، لا يعكس توجه الحكومة التي تظهر قدرًا كبيرًا من المرونة والاستيعاب للتدين العام السوري وتنوعه وخطابه الديني المعتدل والصوفي الذي يمثل شريحة لا يستهان بها أيضًا.
ودعا الحاج لفتح فرص متساوية للجميع من مختلف الطوائف، وتطبيق قوانين تمنع من استخدام الدعوة الدينية في إثارة النعرات الطائفية وهذا مرتبط بإيجاد سياسات حكومية تلحظ العدالة في الفرص من جهة، وتمنع تحوله إلى أداة لإثارة الفتنة في المجتمع.
“إذا وجدت مثل هذه السياسات سيكون الخطاب الدعوي الديني وغيره جزءًا من التعبير عن الحريات العامة التي أطلقت بعد التحرير وسقوط نظام الأسد البائد”، يختم الحاج حديثه.
ضبط المجال الدعوي
في البداية أطلقت السلطة الجديدة الحبل على غاربه تجاه تلك الدعوات والفعاليات، قبل أن تبدي موفقًا أكثر استجابة في التعامل معها ومنعها، ولا سيما بعد التوترات التي جرت في كثير من الأحياء، إذ اتجهت إلى تبني سياسة متوازنة بين حرية التعبير الدينية واحترام ثقافات الجماعات المتنوعة وهويتهم الدينية.
بالمقابل ورغم هذا الانفتاح النسبي، يواجه النشاط الدعوي عدة عقبات، كالبنية التحتية المتضررة، فالنظام البائد دمر العديد من المساجد والمراكز الدينية، وما بقي منها فهو تحت استحواذ المؤسسات الدينية التي كانت تزاول مهامها في عهد النظام البائد.
إضافة إلى التنوع الديني والطائفي، فسوريا تتميز بتنوع ديني ومذهبي كبير وهو يتطلب من الدعاة الحذر والارتكاز على ضوابط حكومية لتجنب أي توترات طائفية، لا سيما أن الطوائف الأخرى من الأقليات قد تعتبر هذه الجماعات أدوات سياسية أو تيارات متطرفة.
عدا عن الرفض العلماني وهو الأبرز، فأعلى الأصوات التي تعارض عودة النشاط الدعوي هي أصوات علمانية، بحسب متابعتنا، وغالبًا ما ترجع سبب رفضها إلى أن الأولوية يجب أن تكون لملفات أَولى كإعادة الإعمار السياسي والاقتصادي بدلًا من التركيز على الدين.
وبالعموم لا توجد ملامح محددة للخطاب الدعوي، كما أنه يبقى مبادرات فردية في الغالب تفتقر إلى فهم المجتمع ومدى تقبله لهذا النوع من الخطاب الذي يكون دافعه في الغالب ديني صرف، يهدف لتقديم الدعم النفسي والروحي.
تواصلت “نون بوست” مع وزارة الأوقاف السورية للوقوف على هذه الظاهرة ومعرفة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الوزارة لضبط المجال الدعوي ومنع حصول أي توترات مستقبلية في الأحياء المختلفة فكريًا وعقائديًا، إلا أننا لم نحصل على إجابات لتساؤلاتنا حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
يرى الباحث السوري عرابي عبد الحي عرابي، أن لدى السلطات السورية عدة مسارات يمكن العمل عليها، أبرزها ضبط المجال الدعوي، من خلال إصدار قوانين تنظّم العمل الدعوي في الفضاء العام، وتدريب الدعاة سواء في الأحياء المسلمة أو غيرها، على تقديم الدعوة بما يناسب النسيج المجتمعي.
إضافة إلى هيكلة مؤسسات الدعوة الرسمية من خلال إنشاء مجلس ديني يتبع الدولة ويشرف على النشاط الديني في الفضاء العام، بهدف دعم خطاب ديني معتدل يُبعد مساحات التطرف عن المشهد العام، يضيف عرابي لـ”نون بوست”.
ضمان حرية التعبير
من جهته يرى الباحث أحمد أبازيد، أنه لا بد من التفريق بين الآراء الفكرية المتشددة التي قد يحملها بعض الدعاة والآراء الوسطية، ولا بد من ضمان حرية الفكر حتى لو لم يوافق التدين العام أو التدين الرسمي للدولة ما لم يرتبط بأفعال عنفية أو التحريض المباشر على العنف.
ويعتبر الباحث أبا زيد في حديثه لـ”نون بوست”، أنه حتى لو كان هناك من يمارس نشاط سلمي سواء بالكتابة أو إقامة ملتقيات وكانت أفكاره لا توافق التدين العام أو الرسمي فيجب ضمان حرية هذه الممارسات حتى لا تدفع الأفكار المتطرفة إلى أفعال متطرفة.
وتظهر ممارسات يرى البعض أنها تهدد السلم الأهلي كالدعوات السلفية في الأحياء المسيحية خاصة، وهذا ينبغي ضبطه ليس من باب منع الترويج السلمي لهذه الأفكار، بل من باب الحفاظ على السلم الأهلي.
فحسب الباحث أبازيد فإن هناك فئة من السوريين تتبنى هذا النوع من الأفكار وهكذا خطاب، وعلى الدولة أن تضمن حق ممارسة هذه الجماعات نشاطاتهم وحريتهم الفكرية، ما لم تتبنى هذه الأفكار تحريض على العنف.
لا شك أن الأنشطة الدعوية في سوريا بعد سقوط النظام والتي لا تزال في مراحلها الأولى، تعكس رغبة عارمة لدى كثيرين، ولا سيما أتباع الدعوة السلفية، في استعادة دور الدين كعامل موحد لدى السوريين الذي يشكل المكون السني النسبة الأكبر منهم، والذي كان له النصيب الأكبر من القتل والتهجير خلال عمر سنوات الثورة السورية، إلا أن تلك الرغبة ما تزال مرهونة بالمشهد السياسي والاجتماعي السوري المعقد.