يستقبل السوريون عيد الفطر هذا العام بنكهة مختلفة، نكهة امتزجت بدموع الحنين وفرحة اللقاء بعد سنواتٍ من الغربة والشتات، عيدٌ يستعيد فيه السوريون دفء الأحضان التي افتقدوها، وذاكرة العادات التي قاومت قسوة الزمن والمنفى.
عيدٌ يختلف عن كل الأعياد السابقة، إذ يعود كثيرون إلى مناطقهم التي هجروا منها، ليجدوا أنفسهم وجهًا لوجه مع ذكريات الماضي وأمل ما بعد النصر الذي طال انتظاره.
اليوم، ولأول مرة منذ عقود، سيعيش السوريون أجواء عيد الفطر بعيدًا عن سيطرة نظام الأسد، فتكتسي الشوارع والأحياء ببهجة جديدة لم يألفوها منذ زمن بعيد.
حلمٌ تحقق
لطالما كانت تحضيرات العيد لدى السوريين تبدأ قبل أيام من حلوله، بحلوى الكعك التي تعبق برائحتها البيوت وتكبيرات العيد تصدح في الأرجاء فيما يتراكض الأطفال فرحًا، اليوم يعود السوريون ليعيدوا إحياء تلك العادات، يتشاركون فرحة العيد واللقاء مع أحبائهم، مسترجعين ذكرياتهم وأيامهم… ولدى القادمين من المهجر الكثير ليحكوه عن الغربة وبلادها لأهاليهم، وهؤلاء بدورهم لديهم الكثير ليحكوه عمّا قاسوه خلال محنة الـ14 عامًا.
“حلمٌ تحقق”، بهذه الكلمات وصفت علا مندو، أم لطفلين، مشاركتها عيد الفطر هذا العام مع عائلتها بعد عشر سنواتٍ من الغربة.
تقول لـ نون بوست”: “لم أتخيل يومًا أن يأتي العيد وأكون بين عائلتي، أشارك أمي في صناعة الحلوى، ويرى أطفالي العادات التي كبرنا عليها، والتي كنت أخشى أن تبقى مجرد ذكرى بعيدة عنهم”.
وتتابع: “عندما جلست بجوار أمي أصنع كعك العيد لأول مرة منذ سنوات، لم أتمالك دموعي، شعرت وكأنني في حلم قد أستيقظ منه في أي لحظة، طوال السنوات الماضية كنت أشاركها هذه اللحظات عبر الهاتف، نتحدث عن ذكرياتنا، وكيف كانت العائلة كلها تجتمع مع الجيران لصناعة كعك العيد، لكن اليوم، وبعد سنوات من الغربة، أجد نفسي جالسة بجانبها أشاركها صناعة الكعك”.
أما خديجة، (أم لطفل ومقيمة في ولاية مرسين التركية)، فتقول إنها انتظرت هذه الأيام بفارغ الصبر، فبعد تحرير سوريا لم تتمكن من زيارة أهلها في حلب بسبب ارتباطات زوجها بالعمل، وسعيهم لإنهاء أوضاعهم في تركيا بشكل كامل.
واليوم، تستعد خديجة مع طفلها وزوجها للعودة إلى سوريا ومشاركة عيد الفطر مع أهلها، “رح يكون العيد عيدين هي السنة”، بحسب قولها.
لكنها تعود محملة بغصة كبيرة، فالعائلة التي كانت تملأ البيت بالضحكات والتهاني صباح العيد لم يبقَ منها سوى والديها وأختها، بينما توزّع البقية في بلاد الغربة والمنفى، “صح رجعت اللمة بس ناقصة”.
وأضافت خديجة لـ”نون بوست”، “كنت أمني نفسي بعودة تعيد لنا دفء اللقاء، أن نلتقي جميعًا كما كنا من قبل، لكن الواقع مختلف، لم يعد هناك بيت في سوريا إلا وفيه شهيد أو مغترب، العائلات تفرقت، وباتت لقاءاتنا مقتصرة على شاشات الهاتف، لكن بعد سقوط النظام، عاد إلينا الأمل بأننا سنجتمع يومًا ما ونحتفل بعيدٍ لا ينقصه أحد.
من جهته يروي مصطفى الأبحث لـ”نون بوست”، عن استعداده لمشاركة العيد مع أطفاله الذين وُلدوا بالغربة، في بيت جدهم، البيت الذي كبر فيه، ويقول: “أطفالي لم يروا عائلتي إلا من خلال شاشات الهواتف، واليوم، بعد 12 سنة، سيشاركون في أجواء العيد الحقيقية مع العائلة، فرحتي لا يمكن وصفها بأي كلمات، كنت أتمنى لو كان أبي موجودًا معنا، لكنه توفي قبل 5 سنوات، ولم أستطع رؤيته، فرحتنا دائمًا ناقصة”.
وأضاف، “ها أنا أدخل من الباب الذي خرجت منه قبل عقد من الزمن هاربًا من بطش النظام، أتجول في الأسواق التي تعج بالحركة، والبهجة لقدوم العيد، حيث يصدح صوت المآذن وأصوات الباعة الذين ينادون بأجمل العبارات: (حمرا يا بندورة حمرا، كعك سخن، كعك طازة) تستوقفني هذه الكلمات رغم سذاجتها، وتضعني وجهًا لوجه مع الوطن الذي لم أتخيل يومًا أن أراه مجددًا، كل زاوية وكل صوت يُعيد لي ذكريات الماضي، فتبدو السنوات التي قضيتها في الغربة كحلمٍ خرافي”.
العيد في الغربة
قبل يومين على قدوم عيد الفطر تعج الأسواق بالمارة ويقصد السوريون الأسواق التي تعج بالحيوية لشراء مستلزمات العيد، وتستقبل الأسواق زبائنها حتى ساعات متأخرة من الليل، إذ يفضّل الأهالي التوجه إلى الأسواق عقب الإفطار لإتمام استعداداتهم المتعلقة بالعيد من ملابس جديدة، وكعك، وحلوى، وغيرها من الاحتياجات، ويترقّب الأطفال بحماس أيام العيد لما تحمل لهم من فسحة للفرح، وهو ما افتقده السوريون في الغربة، بحسب علا مندو.
وتابعت: “العيد في الغربة كان مختلفًا تمامًا، رغم محاولاتي المستميتة لصناعة الفرح وإدخاله إلى قلوب أطفالي، كنا أنا وزوجي نخرج إلى أحد الحدائق في أول يوم بالعيد، نترك أطفالنا يلعبون قليلاً، ثم نعود إلى البيت ويمر العيد كباقي الأيام”.
“لكنني اليوم أرى وجوه أطفالي المليئة بالحماس لتجربة أول عيد في بلدهم وسط أجواء العائلة التي كنت أحاول نقلها لهم وسردها عليهم كل سنة في الغربة”.
أما خديجة، إن الشوارع التي تضج بروائح حلوى العيد، ولمة العائلة، هي أكثر ما افتقدته في الغربة.
وتتابع: “كان العيد في الغربة يمر علينا كأي يوم، نحاول أن نصنع أجواء خاصة لنشعر أطفالنا بفرحة العيد، لكن ضجة العيد في سوريا، وتلك التفاصيل التي كنا نألفها، ولمة العائلة والأصدقاء لم نستطع تعويضها”.
“كنت أصنع الكعك كعادة روتينية، فلا تجمع عائلي ولا زيارات للأقارب، وأكثر ما كنت أشتاق إليه هو رؤية والدي يعود إلى البيت محملًا بحلوى العيد ومستلزمات الطبخ لأول يوم من العيد، إذ كنا نلف اليبرق لنأكله أول يوم في العيد، كما أن الإفطار الذي كنا نحضره في صباح العيد، والانتظار حتى يعود أبي من صلاة العيد، تلك التفاصيل لم تغب عن بالي يومًا طوال سنوات الغربة”.
من جهته يقول محمد حاج بكري، 29 عامًا، “عندما كنا صغارًا، كنا نرتدي ملابس العيد من الليل وننتظر الصباح بفارغ الصبر”.
ويضيف في حديث مع “نون بوست”: “كنت أرافق أبي إلى صلاة العيد، وكانت التكبيرات تأسر قلبي، اجتماع مئات الناس في المسجد وتبادل السلام والتهاني، كان من أجمل اللحظات التي أعيشها في العيد.
“وبعد الصلاة، كنا نعود إلى المنزل لاستقبال الضيوف، أتذكر أنني كنت أجلس مع ابن عمي ونحصي عدد الأحذية أمام باب المنزل. كثرتها كانت تلفت انتباهنا، وأحيانًا كنا نعد أكثر من سبعين أو تسعين حذاء”.
ويكمل: “الشوارع خلال الأيام الأخيرة من رمضان كانت تنبض بالحياة، ورائحة الكعك والحلوى تملأ الأجواء، هذه التفاصيل التي افتقدتها في الغربة أعود اليوم لأعيشها، لكن بشكل ناقص، لأن العائلة تفرقت ولم يعد شيء كما كان من قبل”.
يقول محمد: “كنت أقضي العيد في الغربة لوحدي، أذهب إلى أصدقائي في بعض الأحيان، وفي المساء كنت أتصل بالعائلة ونتبادل التهاني عبر الهاتف، كان يمر علي العيد بشعور سيء بعيدًا عن الأجواء التي اعتدتها، لكنه اختلف كثيرًا هذه السنة”.
يبقى عيد الفطر هذا العام مختلفًا بالنسبة للسوريين الذين عاشوا سنوات بعيدًا عن وطنهم، يحيون تقاليد العيد التي افتقدوها في الغربة، ليعيشوا أجواءً مألوفة بعد غياب طويل. وهو مختلف كذلك لمن بقوا داخل سوريا، فهذا أول عيد تكون لمة العيلة وجَمعة الجيران كبيرة وفيها هذا القدر من بهجة النصر وعودة الأحباب.