تسبب فرق تصريف الدولار الأمريكي بين سعر الصرف الرسمي الصادر عن المصرف المركزي من جهة، وأسعار الصرف في الأسواق الموازية (السوداء) من جهة أخرى، إضافةً إلى أجور التحويلات المالية في تضييق الخناق الاقتصادي على السوريين، مما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية مع اقتراب عيد الفطر المبارك.
وتعتمد شريحة واسعة من العائلات السورية على الحوالات المالية القادمة من أقاربهم وذويهم من بلدان الاغتراب لتغطية احتياجات المعيشية بشكل دوري، إضافةً إلى تغطية تكاليف المناسبات الدينية والاجتماعية في ظل الضائقة المعيشية المستمرة.
ويشعر السوريون أن شركات الصرافة والحوالات المالية تشاركهم أموالهم، بسبب هدر جزء منها خلال عمليات التحويل والتصريف المتخبطة في الأسواق الموازية، بينما تستقر معظم أسعار السلع عند التسعيرة الرسمية، وسط غياب دور الحكومة في ضبط أسعار الصرف.
استغلال واقتطاع
اعتاد أحمد الحسن الذي يعمل في خدمات مدرسة في مدينة حلب على استلام مبلغ مالي كمساعدة من شقيقه اللاجئ في ألمانيا لتغطية مصاريف عائلته المكونة من 7 أفراد خلال المناسبات والأعياد، حيث حول له شقيقه مبلغ مالي قدره 200 يورو عبر مكتب صرافة وحوالات مالية على أن يستلمها بالدولار الأمريكي.
ومن المفترض أن يحصل الحسن على مبلغ مالي يقدر 204 دولارًا أمريكيًا، بعد اقتطاع أجور التحويل من فرق تصريف المبلغ المحول من يورو إلى دولار، إلا أنه حصل على المبلغ بالليرة السورية وبقيمة 195 دولارًا أمريكيًا فقط، وذلك حسب تسعيرة الصرف في السوق الموازية (السوداء) والتي تتراوح 10 آلاف و10 آلاف و100 ليرة سورية.
يقول الحسن خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن مكتب صرافة وحوالات مالية في حلب سلمه مليون و969 ألفًا و500 ليرة سورية فقط، بعدما اقتطع أجور التحويل بنسبة 5% من المبلغ إضافةً إلى فارق تصريف اليورو إلى الدولار الأمريكي”.
ويضيف، أن مكاتب الحوالات تشهد ازدحامًا شديدًا خاصةً مع اقتراب عيد الفطر، لذلك اضطر إلى الاستعجال في الحصول على المبلغ لتأمين احتياجات عائلته مع اقتراب عيد الفطر رغم استغلالهم من قبل مكاتب الصرافة والحوالات المالية.
وفي 23 مارس/أذار الجاري، أصدر مصرف سورية المركزي قرارًا حمل رقم (230)، بهدف توحيد نشرات أسعار الصرف، وردم الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمية والموازية، حيث ألزم المصرف المصارف وشركات الصرافة والحوالات المالية في توحيد أسعار الصرف.
في حين، لم تلتزم مكاتب الصرافة والحوالات المالية بأسعار الصرف الصادرة عن البنك المركزي التي تبلغ نحو 12 ألفًا و60 ليرة سورية، وإنما تصرف بحسب أسعار السوق السوداء التي يبلغ فيها سعر الصرف نحو 10 آلاف و100 ليرة سورية فقط.
يعد الحسن واحد من آلاف السوريين الذين يعتمدون على الحوالات المالية القادمة من اللاجئين السوريين في بلدان الاغتراب لا سيما أوروبا، لكنهم يتعرضون للاستغلال من قبل مكاتب الصرافة والحوالات المالية في ظل تخبط أسعار الصرف والفوارق بين السوق السوداء والتسعيرة الرسمية.
محمد السقيط، صاحب مكتب صرافة وحوالات مالية، أكد خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن حجم الحوالات المالية تحسن إلى الداخل السوري، بعد سقوط نظام الأسد، بسبب غياب القيود التي كانت مفروضة، إلا أن السوق غير مستقرة، والتصريف يكون بناءً على تسعيرة السوق الموازية، مشيرًا، إلى انخفاض أجور التحويلات في البداية قبل أن ترتفع مجددًا نتيجة استغلال حاجة الناس خلال فترة الأعياد والضغط.
وأوضح، أن أجور التحويل من البلدان العربية إلى سوريا منخفضة مقارنة مع الأجور القادمة من البلدان الأوروبية، إذ تصل نسبة أجور التحويل من مختلف البلدان الأوروبية إلى 5% تقتطع من المبلغ أو يدفعها المحول إلى المحول إليه، لكن بعد انتهاء فترة المناسبات تنخفض إلى 3%.
ومع وصولها السلطة، أتاحت الإدارة السورية الجديدة تداول العملات الأجنبية إلى جانب العملة المحلية، خلافًا لما كانت عليه في عهد النظام السابق الذي كان يفرض عقوبات على من يتعامل بغير الليرة السورية.
ورغم إمكانية التعامل في مختلف العملات الأجنبية إلا أن مكاتب الصرافة والحوالات المالية تمتنع عن تسليم المبالغ المحولة باليورو، وإنما تصر على تسليهما إما بالدولار الأمريكي أو الليرة السورية، حسب تسعيرة الصرف في السوق الموازية، بسبب عدم قدرتهم على تصريفها من مكاتب البنك المركزي الذي امتنع عن ضخ العملة في السوق.
وتضطر العائلات إلى تصريف مبالغ الحوالات إلى الليرة السورية رغم انخفاض سعر الصرف مقارنة مع السعر الرسمي، لأنهم بحاجة إلى العملة السورية في التبادلات النقدية في الأسواق، بسبب عدم توفر عملات نقدية صغيرة من الدولار الأمريكي.
قيمة شرائية ضعيفة
رغم حصول الحسن على مبلغ مالي كمساعدة من شقيقه، إلا أن القيمة الشرائية لم تغطِّ الاحتياجات التي كان يوفرها لعائلته في المبلغ ذاته، لأن معظم أسعار السلع تباع حسب تسعيرة الصرف الرسمية، مما انعكس بشكل سلبي عليه لأنه سيضطر إلى شراء الدولار بـ 12 ألف ليرة بعدما باعه بـ 10 آلاف ليرة سورية.
وتحدث “نون بوست” مع عدد من الأهالي الذين يعتمدون على الحوالات المالية كمساعدة من أقاربهم وتكون مصدر دخل موازٍِ لهم لتغطية نفقات المناسبات، ووجد أنهم يواجهون المشكلة ذاتها وتختلف من مكتب إلى آخر، لكن فارق التصريف تسبب في تراجع قدرتهم على شراء الثياب وحلويات العيد.
وقال ياسر الأحمد، صاحب متجر أحذية في حلب، خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن معظم المصالح متضررة لأنه من المفترض أن تكون المحال التجارية خلال أيام وقفات العيد مليئة بالزبائن لكن للأسف نسبة الشراء ضعيفة، بسبب عدم وجود المال عند الأهالي، وفي حال قورنت مع العام السابق، يمكن التماس فارق كونهم انسجموا مع الواقع الاقتصادي السابق”.
وأضاف، أن قيمة الحذاء تصل إلى 150 ألف ليرة سورية بشكل وسطي، وترتبط الكلفة المالية حسب عدد أفراد الأسرة، والعائلة المتوسطة المكونة من 7 أفراد بحاجة إلى مليون ليرة سورية ثمن أحذية في حال قررت الشراء لأبنائها، ما يدفعهم إلى الذهاب نحو الأساسيات عبر تأمين الغذاء فقط.
وتابع، أن القيمة الشرائية لـ 100 دولارًا تساوي 60 دولارًا أمريكيًا فقط، حيث تحتاج الأسرة التي كانت تصرف 100 دولارًا أمريكيًا (مثال في الأسبوع) اليوم إلى 250 دولارًا أمريكيًا، بسبب انخفاض سعر صرف الدولار، وعدم انخفاض أسعار السلع والخدمات الأساسية التي بقيت محافظة على سعرها.
وتتراوح أجور العاملين في القطاع العام بسوريا (المناطق المحررة حديثًا) بين 20 و30 دولارًا أمريكيًا، بينما في القطاع الخاص تصل إلى 50 دولارًا أمريكيًا، وفي كلتا الحالتين لا تغطي الأجور جزءًا من السلة الغذائية الشهرية التي تبلغ قيمتها 135 دولارًا أمريكيًا لعائلة مكونة من 5 أشخاص.
وتوعدت الحكومة السورية الجديدة منذ وصولها إلى السلطة بزيادة الأجور بنسبة 400 % إلا أن قرارها لم يدخل حيز التنفيذ، لكن في 15 مارس/أذار الجاري، صرف الرئيس السوري، أحمد الشرع منحة مالية (تعادل إجمالي راتب شهر واحد) لمرة واحدة بمناسبة عيد الفطر المبارك، للموظفين في الدولة والمتقاعدين.
ورغم ذلك لا يملك جميع السوريين وظيفة أو مصادر دخل مستقرة لإعالة أسرهم ما يجعل بعضهم يعتمد على الحوالات المالية لتغطية احتياجات المعيشية، في حين تؤكد الأمم المتحدة، أن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون تحت خط الفقر في سوريا، وواحد من كل أربعة عاطل عن العمل.
أسباب تخبط الصرف
سياسات المركزي في تجفيف السيولة من العملة المحلية من جهة أخرى، إضافةً إلى عدم التدخل لضبط أسعار الصرف في السوق الموازية من جهة أخرى خلق حالة من التخبط في الأسعار حيث أصبح سعر الصرف في السوق السوداء غير متناسب مع سعر الصرف الرسمي.
ويرى الباحث، يونس الكريم، أن سياسة تجفيف السيولة أدت إلى إيقاف العرض النقدي للعملة المحلية لتوفير القطع الأجنبي، ما جعل السوق في حالة تخبط، بسبب امتلاك فئة للعملة المحلية وتلاعبهم بالأسعار، وهذا ما يحصل مع زيادة الطلب عليها حيث يخفضون سعر الصرف أكثر لتحقيق الأرباح وسط تجاهل البنك المركزي.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن السوريون اعتقدوا أن رفع العقوبات سيطور عملية التحويل إلى الأفضل، لكنها في الواقع اصطدمت بقرارات البنك المركزي، التي تتعلق بسياسة تجفيف السيولة، مما جعل قيمة الحوالات أقل من السوق الرسمية، وبالتالي بات السوريون يشعرون بوجود عملية احتيال”.
وأضاف، أن قرار المركزي في ترخيص شركات الصرافة جاء في توقيت خاطئ، لأنه تسبب في إيقاف أعمال قنوات تحويل غير رسمية تصل أجورها إلى 5%، بينما الشركات الرسمية تحصل على 15% من قيمة الحوالة، التي انخفضت قيمتها جراء سعر الصرف، وقوتها الشرائية، وبالتالي يخسر المواطن نحو 40% من قيمة المبلغ المحول.
وأشار، إلى أن شركات الصرافة والحوالات بدأت تمتنع عن التحويل حتى لا تدخل في صدام مباشر مع الحكومة، كما أنهم باتوا يخشون من عمليات النصب والهروب، مما انعكس على حجم الحوالات، وبالتالي انعكس على السوق من ناحيتين، الأولى عدم توفير القطع الأجنبي الذي يحتاجه البنك المركزي، والثانية مضاعفة الضائقة الاقتصادية على العائلات السورية.
وتابع، أن الحوالات المالية تساهم في تحريك السوق السورية لأنها كانت تصل إلى مستويات عالية، لكن خلال السنوات الأخيرة الماضية، تراجعت بسبب التضخم في بلدان اللجوء السوري، إضافة إلى العقوبات المفروضة على النظام السابق التي تتسبب في صعوبة بتحويل الأموال.
ختامًا.. تواجه العائلات السورية التي تعتمد على الحوالات المالية من أبنائها في بلدان اللجوء السوري، أزمة مركبة، بسبب فرق تصريف العملة الأجنبية وأجور الحوالات المالية، واستقرار السلع بحسب السعر الرسمي، وصعوبات التحويل، إضافة إلى عزوف البعض عن تحويل الأموال الداخل بهدف الادخار تمهيدًا لعودتهم.