يشهد الشارع الإسرائيلي الأيام الأخيرة حالة توتر استثنائية، حيث تصاعد حدة الانقسامات بين المكونات السياسية والحزبية، جراء تعاطي حكومة بنيامين نتنياهو مع بعض الملفات الداخلية، على رسها ملفات القضاء والأسرى والشاباك، حيث وصف زعيم المعارضة يائير لبيد الحكومة بأنها “إجرامية ولا ينبغي طاعتها”.
أما زعيم معسكر الدولة بيني غانتس ورئيس الأركان الأسبق غادي آيزنكوت فحذرا من أن “إسرائيل في خطر” بسبب حالة الانقسام الداخلي، بينما أكد رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت أن الكيان “أقرب إلى حرب أهلية”، فيما جدَّد رئيس الديمقراطيين، اللواء احتياط يائير غولان، دعوته إلى عصيان مدني والتسبب في “شلل الدولة” كجزء من “النضال من أجل صورة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية”.
يأتي هذا التصعيد على خلفية الأزمة السياسية الناجمة عن إصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على إقالة رئيس الشاباك رونين بار، وعدم امتثاله للمحكمة العليا التي جمَّدت مؤقتًا قرار الإقالة، فيما شهدت أروقة الحكومة ومجلسها المصغر مناوشات بين بار وأعضاء الحكومة وصلت إلى حد التراشق بالألفاظ والاشتباك بالأيدي كما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية.. فما حقيقة ما يحدث في الشارع الإسرائيلي وتداعيات ذلك على الوضع في غزة؟
3 قنابل ملغومة
فجرت 3 ملفات رئيسية المشهد الداخلي الإسرائيلي ووضعته فوق فوهة بركان قابل للانفجار في أي وقت:
أولا: إقالة رئيس الشاباك
في الساعات الأولى من ليل الجمعة 12 آذار/مارس الجاري صوّتت حكومة نتنياهو بالإجماع لصالح إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، لافتة أن ولايته ستنهي كرئيس للجهاز في 10 نيسان/ إبريل، أو عند تعيين رئيس دائم للجهاز أيهما أقرب، وذلك بعد لقاء جمعه ونتنياهو قبل أسبوع من هذا القرار حين أخبره رئيس الوزراء بإقالته.
ويٌرجع نتنياهو هذه الخطوة إلى “انعدام ثقته المستمر” ببار، مضيفًا أنه: “في جميع الأوقات، وخاصةً في مثل هذه الحرب الوجودية، يجب أن تكون لدى رئيس الوزراء ثقة كاملة برئيس الشاباك”، وتابع أن الإقالة “ضرورية لتحقيق أهداف حرب إسرائيل في غزة ومنع الكارثة القادمة”، مُلقيًا باللوم على قادة الجهاز في الثغرات الأمنية التي أدت إلى هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
قرار الإقالة أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الإسرائيلية ما دفع أحزاب المعارضة وبعض الجمعيات المدنية لتقديم 5 التماسات للمحكمة العيار الإسرائيلية لرفض هذه الخطوة، لتصدر قاضية المحكمة غيلا كنافي شتاينميتس، أمرا احترازيا بتجميد قرار الإقالة، لحين البت في الالتماسات حتى موعد أقصاه الثامن من نيسان/ أبريل المقبل، مطالبة الحكومة بالرد على تلك الالتماسات.
آلاف المستوطنين يتظاهرون أمام مبنى حكومة الاحتــلال الإسرائيلية في القدس، احتجاجا على إقالة رئيس الشاباك ومساعي عزل المستشارة القضائية للحكومة، وفقا لما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" pic.twitter.com/B3Gnmxz3JU
— عربي21 (@Arabi21News) March 26, 2025
قرار المحكمة فجر براكين الغضب داخل الحكومة الإسرائيلية التي أشارت إلى أن الإقالة جاءت وفقًا للقانون، واتخذت بالإجماع خلال جلسة رسمية، لافتة أن “الشاباك” يقع ضمن المسؤولية الأمنية المباشرة للحكومة، ولا يمكن فرض استمرار ولاية رئيس للجهاز لا يحظى بثقتها.
من جانبه، طالب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بضرورة إعادة النظر في النظام القضائي برمته، قائلا إنه قد حان الوقت لإجراء إصلاحات في سلك القضاء، في حين قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في منشور على منصة “إكس” إن قضاة المحكمة العليا لن يديروا الحرب ولن يحددوا من يقودها، أما وزير الاتصالات شلومو كَرَي، فاعتبر أنه لا صلاحية للمحكمة العليا بإصدار أمر بتجميد إقالة رئيس الشاباك، حيث علق قائلًا: “سيدتي القاضية شتاينميتس، سينهي رونين بار ولايته في العاشر من نيسان/ أبريل المقبل أو قبل ذلك، بتعيين رئيس دائم للشاباك. ليس لديك أي سلطة قانونية للتدخل في هذا، هذه سلطة الحكومة وحدها، قرارك باطل. انتهى الأمر، الشعب هو صاحب السيادة”.
ثانيًا: الإطاحة بالمستشارة القضائية
كانت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا، من أشد المعارضين لقرار إقالة رئيس الشاباك، حيث بعثت برسالة إلى نتنياهو، أوضحت فيها أن منصب رئيس الاستخبارات “ليس خادما لرئيس الوزراء”، ما دفع الحكومة للدعوة لاجتماع عاجل الأحد 23 الشهر الجاري، للتصويت على حجب الثقة عنها، وقد كان بالفعل، قرار بالإجماع على ذلك.
أحدث قرار حجب الثقة عن ميارا التي عُرفت بمعارضتها لنتنياهو ودفاعها عن استقلال القضاء جدلا أخر لدى الشارع الإسرائيلي، الذي بدأ يستشعر مؤامرة ممنهجة من رئيس الحكومة ووزراء يمينه المتطرف للهيمنة على المنظومة الأمنية والقضائية واستهداف كل من يغرد خارج السرب ويفكر في المعارضة وتوجيه الانتقادات بشان هذا التوجه الذي وصفه معارضون بأنه “نسف للديمقراطية ودولة القانون” وفق تعبيرهم.
وينبثق تخوف المعارضة الإسرائيلية من الإطاحة برئيس الشاباك وتحييد من يدعمه، انطلاقا من مخطط نتنياهو للسيطرة على جهاز الأمن العام، وتعيين شخوص أخرين مخلصين لشخصه وموالين لأهدافه ومنفذين لأجندته الخاصة، بعيدًا عن القانون، وهو ما يُعرض النظام الديمقراطي والحريات الفردية والمدنية للخطر، خاصة في ظل الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها جهاز الاستخبارات في المراقبة وانتهاك الخصوصية وإجراء التحقيقات، وهي الصلاحيات التي من شأنها أن تخدم رئيس الوزراء، وقد يساء استغلالها واستخدامها.
ثالثًا: ملف الأسرى
ثم يأتي ملف الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة ليفجر الساحة الإسرائيلية، إذ بات يقينًا لدى كافة الأوساط الإسرائيلية ومختلف التيارات والأيديولوجيات أن نتنياهو يدير الحرب في غزة لصالح أهداف شخصية، ولأجل الحفاظ على الائتلاف الحكومي من الانهيار، مُنصاعا لرغبات وإملاءات اليمين المتطرف الذي يشتري صمتهم ودعمهم له بتعريض حياة الأسرى للخطر.
ويرى قطاع كبير من الإسرائيليين أن نتنياهو ما استأنف الحرب في غزة بهذا الشكل المفاجئ، وبتلك الوحشية الإجرامية، إلا استمالة للأحزاب والوزراء المنسحبين من حكومته اعتراضا على اتفاق وقف إطلاق النار، حيث كان على بعد أمتار قليلة من سقوط حكومته وإجراء انتخابات مبكرة في حال الفشل في تمرير الموازنة العامة للدول،ة قبل نهاية الشهر الجاري، والتي كان يفقد الأغلبية لتمريرها بعد موجة الانسحابات الأخيرة.
الكاتب في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، جدعون ليفي، يتهم حكومة نتنياهو بنسف الاتفاق المبرم في كانون الثاني/يناير الماضي عمدا وبسوء نية، وشن هجوما وحشيا بلا هوادة على قطاع غزة، وسط تعتيم فاضح من الإعلام العبري، معتبرًا أن “إسرائيل” تقتل لمجرد القتل بهدف إعادة إشعال الحرب والحفاظ على الائتلاف الحكومي الذي يقوده بنيامين نتنياهو.
حرب أهلية في الأفق؟
على وقع تلك الملفات الثلاثة، تصاعدت نبرة الخطاب التحذيري من مغبة الولوج في مستنقع الحرب الأهلية جراء الانقسامات التي شهدتها الساحة خلال الأونة الأخيرة، كما جاء على لسان زعيم معسكر الدولة بيني غانتس الذي قال: “صحيح أن هناك العديد من التحديات الأمنية من الخارج، لكن أمن (إسرائيل) في خطر بسبب الانقسام الداخلي”، وتابع: “عندما نُمزّق الشعب من الداخل، نُعزّز عناد حماس ونمنحها الأمل في قدرتها على كسرنا، الأمر الأكثر إلحاحًا الآن هو عودة جنودنا الأسرى”، منوها أن من يتجاهل هذا الأمر الآن “يُلحق الضرر بأمن الدولة عمدًا ويُمهّد الطريق لكارثة أخرى، ويُغذّي أعدائنا”.
كما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن أستاذ القانون، أهارون باراك -الذي شغل منصب رئيس المحكمة العليا في “إسرائيل”- تحذيراته من أن تكون نهاية الانقسامات الداخلية المتزايدة حربا أهلية، لافتا أن الخلافات والتوترات بلغت مستوى ربما يقود تل أبيب إلى الهاوية من خلال حرب أهلية، موصيًا “بمنع استبداد الأغلبية التي قال إنها تستغل سلطتها”.
التحذيرات ذاتها أطلقها رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت، في حديثه لصحيفة “نيويورك تايمز” الاثنين الماضي، حين قال إن “أسس الدولة (إسرائيل) تهتز”، محذرًا من أن “نتنياهو مستعد للتضحية بكل شيء من أجل بقائه، ونحن أقرب إلى حرب أهلية مما يدركه الناس”، وكان في مقال له سابقًا قد أشار إلى “إن التوقعات التي صنعتها حكومتنا بشأن أهداف الحرب كانت لا أساس لها من الصحة، وغير واقعية، وغير قابلة للتحقيق منذ البداية”.
عاجل | يديعوت أحرونوت عن بيني غانتس: إسرائيل على بعد خطوة من حرب أهلية pic.twitter.com/Z34Bc6Mdfo
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 26, 2025
وفي ذات السياق يقول المحلل العسكري، ناحوم برنياع في صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية “إن هناك انقساما واضحا بين من يؤمنون بأن الوضع الحالي جزء من السياق الطبيعي للديمقراطية الإسرائيلية، وبين من يرون أنه خروج جذري على الأعراف والقوانين المعمول بها”، واصفا ما حدث بأنه صراع خطير ينذر بدفع “إسرائيل” نحو نمط من حرب أهلية مسلحة لم يحن وقتها بعد، بل بتآكل الثقة داخل الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة ككل.
كما اعتبر الدبلوماسي والكاتب الإسرائيلي ألون بينكاس قرار إقالة رونين بار بأنه نقطة تحول واضحة في تاريخ “إسرائيل”، واصفا ذلك بأنه “إهانة للديمقراطية”، داعيًا أحزاب المعارضة إلى تقديم استقالاتهم جماعيا احتجاجا على هذه الخطوة، ومحذرًا في الوقت ذاته من أن استمرار نتنياهو في اتخاذ مثل هذه الإجراءات قد يؤدي ليس فقط إلى انهيار الديمقراطية، بل إلى تحول إسرائيل إلى نظام “شبه استبدادي”، واصفا رئيس الوزراء بأنه رجل مضطرب يحاول إعادة كتابة التاريخ.
الهروب للأمام.. غزة كلمة السر
اعتاد نتنياهو مع كل أزمة يواجهها على المستوى الداخلي اللجوء إلى تكتيك “الهروم للأمام”، فحين يضيق عليه الخناق وتتكالب عليه الضغوط، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من الاستهداف والهزيمة، يلجأ إلى إشعال النار في ساحة أخرى، خطوة يحول بها دفة الاهتمام ويغير به بوصلة المسار بما يخفف بها الضغط عليه ويمنحه متنفسًا جديدًا لالتقاط الأنفاس والهروب من المأزق الذي يواجهه.
فعلها قبل ذلك في الضفة حين عجز عن تحقيق الحرب في غزة، وفعلها في لبنان واليمن ومؤخرًا سوريا، واليوم يعيد استدعائها مرة أخرى باستئناف الحرب في القطاع، رغم الاعتراضات الكثيرة، وبهذا الشكل الإجرامي، حتى لو كان الثمن التضحية بحياة أسراه لدى المقاومة، ضاربًا بمناشدات عائلات الأسرى عرض الحائط.
لاشك أن نتنياهو اليوم أقوى مما كان عليه قبل أيام، خاصة بعد استعادة الأغلبية البرلمانية وتمرير الموازنة وضمان بقاء الحكومة حتى 2026، ومن ثم يتحرك بأريحية أكثر من السابق في التعاطي مع الملفات الجدلية، فلا مشكلة لديه في فرض الهيمنة على السلطة الأمنية والعسكرية، وتعيين موالين له من ضعاف الشخصية، ليصبح هو صاحب القرار الأول والأخير، ولا معضلة على الإطلاق في تسويف مسألة إطلاق سراح الأسرى أو التضحية بهم.
القناة 12 العبرية: كنيست الاحتلال يصادق على أضخم ميزانية في تاريخ "إسرائيل" بقيمة 620 مليار شيكل، وبذلك سيبقى نتنياهو رئيساً للحكومة حتى 2026 pic.twitter.com/tAMCb3v9ny
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) March 25, 2025
وبالتبعية، قلل هذا الثقل الذي حصل على رئيس الحكومة مؤخرًا، والمدفوع بالدعم المطلق من قبل الإدارة الأمريكية، من نفوذ المعارضة على المستوى الداخلي، وقزم تأثيرها في قلب الطاولة وتهديد حكومة نتنياهو، على الأقل خلال الفترة الحالية، ومن ثم تراجع استشعار رئيس الوزراء ويمينه المتطرف من أي قلق إزاء حالة الاحتقان والغضب التي تهيمن على الشارع الإسرائيلي.
وبعيدًا عن الأمنيات الحالمة بشأن ما يمكن أن يترتب على هذا الارتباك الذي يخيم على المشهد الداخلي الإسرائيلي من حدوث انقسامات أو اندلاع حرب أهلية، فإن ما يحدث -رغم زخمه- لا يعدو أن يكون صراعًا سياسيًا منضبطًا بين الحكومة والمعارضة، معركة نفوذ في المقام الأول، تسير وفق آلية مُلجمة بخطوط حمراء لا تقبل تجاوزها، وعليه فلا يعول عليها في قلب المشهد، على الأقل في الوقت الراهن، فهي أقرب لمسرحية واقعية محددة الأدوار، كل طرف (ممثل) يعرف حدود دوره جيدًا، حتى وإن لم يكن مٌلقنا إياه بشكل مباشر، وليس هناك مشكلة في التجويد أحيانًا والخروج عن النص من باب الإثارة والتشويق واستكمال الديكور، لكن بما لا يخل بالهدف والسياق العام.
وفي النهاية تبقى غزة هي الساحة التي يجتمع حولها كل الأضداد والخصوم والمتنافسين الإسرائيليين، الكعكة الذي يهرول كل طرف للحصول على نصيب الأسد منها، تارة عبر التوسع العسكري، وتارة من خلال مخطط التهجير، وتفريغ غزة من حواضن المقاومة بها، فهي الجثة التي يجتمع على نهشها كلاب الاحتلال وضباعه، بكافة ميولهم وتوجهاتهم، في ظل خذلان عربي هو الأفضح والأخزى عبر التاريخ.