منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشهد السجون والمعتقلات الإسرائيلية واقعًا مأساويًا غير مسبوق، حيث يتعرض المعتقلون الفلسطينيون، خصوصًا من سكان قطاع غزة، لسلسلة من الانتهاكات الجسيمة التي طالت حياتهم وكرامتهم وحقوقهم الأساسية.
وتتفاقم المخاوف حول مصير آلاف المعتقلين والمفقودين، في ظل منع الأسرى من لقاء المحامين وغياب أي رقابة دولية، حيث تتعاظم التحديات أمام المؤسسات الحقوقية في متابعة هذا الملف.
في هذا السياق، أجرى “نون بوست” حوارًا خاصًا مع الأستاذ علاء السكافي، مدير “مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان” في قطاع غزة، وهي إحدى أبرز المؤسسات الحقوقية العاملة في الميدان، والتي واصلت مهامها رغم ظروف الحرب والدمار والحصار.
يسلط السكافي في هذا الحوار الضوء على واقع المعتقلين في سجون الاحتلال منذ السابع من أكتوبر، ويكشف عن الآليات التي تعتمدها المؤسسة في توثيق الانتهاكات، وأبرز التحديات القانونية والميدانية التي تواجهها، إضافة إلى ملف المفقودين من قطاع غزة، والانتهاكات الجسيمة التي تم توثيقها، بما فيها التعذيب الجسدي والنفسي، والقتل تحت التعذيب، والعنف الجنسي.
كما يناقش السكافي ازدواجية المعايير في تعامل المجتمع الدولي مع الحقوق الفلسطينية، وضغوط التمويل المشروط التي تتعرض لها المؤسسات الحقوقية، ويقدّم في ختام الحوار جملة من الرسائل والتوصيات للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية.
كيف تصفون واقع المعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم؟
منذ السابع من أكتوبر، يشهد واقع المعتقلين الفلسطينيين، خاصة من قطاع غزة، تدهورًا غير مسبوق في ظروف الاحتجاز داخل سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.
لقد شكّلت هذه المرحلة نقطة تحوّل خطيرة في سياسات الاحتلال تجاه الأسرى، إذ أصبح التعامل معهم يتسم بالوحشية والانتقام الممنهج، ويجري تنفيذ ممارسات لا إنسانية وسادية بشكل متواصل.
نعتمد في هذا التوصيف على معطيات ميدانية موثقة، تشير إلى تصاعد واضح في عمليات التعذيب والتنكيل الجسدي والنفسي. وقد ارتفع عدد الشهداء من المعتقلين بسبب الضرب المبرح وسوء المعاملة والإهمال الطبي المتعمّد، وهي مؤشرات خطيرة على طبيعة الانتهاكات التي تجري خلف القضبان.
تُستخدم أساليب تعذيب جديدة، منها ما يُعرف بـ”عمليات القمع”، التي تعني استمرار الضرب الممنهج من قِبل جنود الاحتلال والسجّانين على فترات متقطعة أو بشكل دائم. إننا أمام واقع كارثي حقيقي يعكس انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف التي تكفل الحد الأدنى من الحقوق للمعتقلين.
ما هي الآليات التي تعتمدها مؤسستكم في متابعة ملفات المعتقلين، في ظل انقطاع الاتصالات وانعدام الوصول المباشر؟
في ظل انعدام القدرة على الوصول المباشر إلى السجون والمعتقلات، طوّرت مؤسسة الضمير مجموعة من الآليات البديلة لمتابعة ملفات المعتقلين، بهدف الحفاظ على التواصل مع عائلاتهم وتوثيق الانتهاكات التي يتعرضون لها.
أولًا، تم تعزيز فريق الباحثين الميدانيين في جميع محافظات قطاع غزة، خصوصًا بعد فرض الاحتلال سياسة الفصل الجغرافي بين شمال القطاع وجنوبه، حيث جرى تكليف باحثين في كل محافظة ليكونوا على تماس مباشر مع أهالي المعتقلين والمفقودين.
ثانيًا، اعتمدت المؤسسة آلية الحصول على وكالات قانونية عبر التوقيع الإلكتروني، وتم إنشاء روابط إلكترونية خاصة لتسهيل تعبئة البيانات وتسجيل الحالات، جرى نشرها على الموقع الرسمي للمؤسسة، وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلًا عن تعميمها عبر وسائل الإعلام والمجموعات المتخصصة على تطبيق “واتساب” والتي تُعنى بمتابعة قضايا الأسرى والمفقودين.
كما تتلقى المؤسسة الشكاوى والمعلومات حول حالات الاعتقال والفقدان من العائلات بشكل مباشر، ويتم التنسيق مع المحامين العاملين مع المؤسسة في الداخل الفلسطيني المحتل، من خلال وسائل متعددة تشمل البريد الإلكتروني، ومنصات التواصل، والاتصال الهاتفي المباشر.
هذه الآليات مجتمعة ساعدت المؤسسة على بناء قاعدة بيانات متقدمة حول أوضاع المعتقلين، رغم التحديات الميدانية الهائلة التي فرضها واقع الحرب والحصار وانقطاع الاتصال.
ما أبرز التحديات والعقبات التي تواجهكم في هذا الملف، سواء على الصعيد الميداني أو القانوني؟
تواجه مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان جملة من التحديات المعقدة في متابعة ملف المعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة، سواء على المستوى الميداني أو القانوني.
على الصعيد الميداني، تأتي التحديات في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث لم يكن العاملون في المؤسسة محصّنين من خطر الاستهداف المباشر، مثلهم مثل باقي المدنيين.
ورغم فقدان المؤسسة لمواردها اللوجستية الأساسية، وعدم القدرة على الوصول إلى المقرات والمعدات، وفقدان البيئة الآمنة للعمل، فقد التزمت المؤسسة بمسؤوليتها الأخلاقية والوطنية، ولم تتوقف عن أداء واجبها في توثيق الجرائم والانتهاكات يومًا واحدًا، رغم كل المخاطر والظروف القاهرة.
أما على الصعيد الإجرائي، فتكمن التحديات في تعمّد سلطات الاحتلال إخفاء المعلومات المتعلقة بالمعتقلين، وعدم توفير أي بيانات رسمية حول أماكن الاحتجاز، أو مصير المعتقلين من غزة. وقد زادت هذه الصعوبات تعقيدًا بسبب توزيع المعتقلين ما بين سجون تابعة لمصلحة إدارة السجون، وآخرين تحت احتجاز جيش الاحتلال، دون جهة واضحة يمكن تحميلها المسؤولية أو مخاطبتها بشكل مباشر.
الأسوأ من ذلك، أن المؤسسة تلقت في بعض الحالات معلومات مغلوطة تفيد بأن معتقلين على قيد الحياة، ليتبين لاحقًا، عند توجه محامي المؤسسة إلى معسكر “سديه تمان” الاعتقالي، أن هؤلاء المعتقلين قد استشهدوا تحت التعذيب أو الإهمال.
أما التحديات القانونية، فهي بالغة الخطورة، وتتمثل في التعديلات التي أدخلها الاحتلال على “قانون المقاتل غير الشرعي”، والذي يُطبّق على معتقلي قطاع غزة، فقد أصبح بالإمكان إصدار أمر احتجاز أولي لمدة 45 يومًا بدلاً من 7، وتأجيل أول مراجعة قضائية حتى 75 يومًا بدلًا من 14.
كما جرى تمديد المدة القانونية لمنع لقاء المحامي مع المعتقل إلى 180 يومًا، وفي بعض الحالات إلى 210 أيام متواصلة. هذه التعديلات تشكّل غطاءً قانونيًا لجريمة الإخفاء القسري، وتفتح الباب واسعًا أمام ممارسة التعذيب والقتل البطيء في سجون الاحتلال أو معسكراته العسكرية، بعيدًا عن أي رقابة قانونية أو حقوقية.
كل هذه العراقيل، الميدانية والإجرائية والقانونية، تعيق بشدة قدرة المؤسسة على حماية حقوق المعتقلين والدفاع عنهم، لكنها في الوقت ذاته تدفعنا لمزيد من الإصرار على مواصلة العمل وملاحقة الاحتلال على جرائمه، بكل ما نملك من أدوات قانونية وحقوقية.
تحدثت تقارير حقوقية عن وجود آلاف المفقودين في قطاع غزة، كيف تتعامل مؤسستكم مع هذه القضية الحساسة؟ وما التصور القانوني والحقوقي لمصير هؤلاء؟
تشير التقارير الحقوقية إلى وجود أكثر من 10 آلاف مفقود من سكان قطاع غزة، جراء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على الشعب الفلسطيني. وتُعدّ هذه القضية من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا، نظرًا لتداخل الجوانب الإنسانية والقانونية، ولغياب الشفافية من جانب الاحتلال حول مصير آلاف الضحايا.
في مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، نتعامل مع هذا الملف بأولوية قصوى، وقد بدأنا منذ الأسابيع الأولى للحرب بجمع وتوثيق المعلومات من ذوي المفقودين، وفرز الحالات حسب وصف العائلة لظروف الفقدان.
نحاول في البداية مقاربة مصير كل مفقود، عبر تحليل الوقائع والظروف، ونميز بين ثلاث فئات رئيسية: مفقودون يُرجّح أنهم قضوا شهداء وتم احتجاز جثامينهم من قبل الاحتلال، أو من هم معتقلون في السجون الإسرائيلية، أو من لا تزال ظروف اختفائهم مجهولة بشكل كامل.
نعمل على إعداد ملف خاص بكل مفقود، ونتابع هذه الملفات أمام الجهات القانونية والمحاكم في دولة الاحتلال، بهدف الكشف عن مصيرهم. وبالفعل، نجحنا في الوصول إلى معلومات مؤكدة عن عدد غير قليل من المفقودين، وتبيّن أنهم محتجزون في السجون الإسرائيلية، وتمكّنا من معرفة أماكن احتجاز بعضهم.
إلا أن التحدي الأكبر يظل في التعامل مع ملف الشهداء الذين تم احتجاز جثامينهم. وبحسب تقديرات المؤسسة والمعلومات الخاصة التي حصلنا عليها من مصادرنا، فإن هناك قرابة 4000 جثمان لفلسطينيين استشهدوا في الأيام الأولى للعدوان، تم انتشالهم ونقلهم إلى مناطق قريبة من بئر السبع داخل الأراضي المحتلة عام 1948، حيث تُحتجز هذه الجثامين حتى اليوم.
تعمل المؤسسة حاليًا على جمع التوكيلات من عائلات المفقودين والشهداء، تمهيدًا للتحرك القانوني أمام المحاكم الإسرائيلية، بهدف الكشف عن مصير أبنائهم واسترداد جثامينهم لدفنهم بما يليق ويضمن كرامتهم ويحقق شعائرهم الدينية.
وفي حال لم تلقَ هذه الجهود استجابة من قبل الاحتلال، فإننا سنواصل الضغط عبر الآليات القانونية الدولية، بما في ذلك اللجوء إلى هيئات الأمم المتحدة والمحاكم الجنائية الدولية.
من الناحية القانونية، يُلزم القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، دولة الاحتلال بحفظ جثامين ضحايا النزاعات، وتوثيق هويتهم، وتسليمهم لعائلاتهم في أسرع وقت، إلا أن الاحتلال ينتهك هذه القواعد بشكل صارخ، خاصة منذ إقرار “قانون احتجاز الجثامين” في العام 2018، الذي يمنح المستوى السياسي الإسرائيلي صلاحية منع تسليم الجثامين، وربط ذلك باعتبارات ومقايضات سياسية.
نحن الآن أمام معركة قانونية حقيقية، نسعى من خلالها لفضح هذه السياسات الجائرة أمام العالم، والضغط بكل الأدوات القانونية المتاحة على دولة الاحتلال من أجل كشف مصير المفقودين، واسترداد جثامين الشهداء، ومنح ذويهم حق الوداع والدفن بما يليق بكرامة الإنسان.
هل تمتلكون قاعدة بيانات منظمة أو أرشيفًا موثقًا لانتهاكات الاحتلال يمكن البناء عليه في المسارات القانونية والملاحقة الدولية؟
نعم، تُولي مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان أهمية كبيرة لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية بشكل منهجي ومنظّم، إذ تعتمد المؤسسة آليات قانونية واضحة في جمع المعلومات وحفظها وأرشفتها، بما يضمن سهولة الوصول إليها وتوظيفها في المسارات القانونية المختلفة.
نعمل وفق نظام تصنيفي دقيق يُراعي طبيعة كل انتهاك، وبما يسمح ببناء ملفات قانونية متكاملة تتضمن التفاصيل والشهادات والأدلة المرتبطة بكل حالة، خاصة الانتهاكات المرتكبة بحق المعتقلين الفلسطينيين، باعتبار هذا الملف أحد محاور عملنا الأساسية.
كما تحرص المؤسسة على تعزيز تعاونها مع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية، وتقديم مساهمتها في إعداد الملفات القانونية التي تُرفع إلى الهيئات والمحاكم الدولية.
وتُبدي مؤسسة الضمير استعدادها الدائم لتطوير هذا التعاون وتوسيعه، بما ينسجم مع رسالتها في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، والسعي إلى مساءلة الاحتلال على جرائمه وانتهاكاته الجسيمة للقانون الدولي.
ما أبرز أنماط الانتهاكات التي رصدتموها بحق الأسرى الفلسطينيين في شهادات موثقة لدى المؤسسة؟
وثقت مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، من خلال شهادات حيّة وإفادات موثقة لمعتقلين لا يزالون في سجون الاحتلال أو أُفرج عنهم مؤخرًا، أنماطًا متعددة من الانتهاكات الجسيمة، التي ترتقي في كثير من الحالات إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تُعدّ عمليات القمع الوحشي من أبرز أنماط الانتهاك، حيث تم رصد لجوء سلطات الاحتلال، وخصوصًا الوحدات المتخصصة، إلى استخدام كلاب بوليسية متوحشة، ورش المعتقلين بمواد حارقة مثل الغاز والفلفل الحار، إلى جانب الضرب المبرح باستخدام الهراوات الغليظة وأعقاب البنادق على مختلف أنحاء أجساد الأسرى.
كما وثّقت المؤسسة نمطًا مروّعًا جديدًا ظهر بعد السابع من أكتوبر 2023، يتمثل في استخدام العنف الجنسي ضد المعتقلين، سواء في معسكرات جيش الاحتلال أو في السجون النظامية، وقد تم توثيق عدد من هذه الحالات بشكل قانوني ضمن ملفات المؤسسة.
إضافة إلى ذلك، سُجل استخدام ممنهج لسياسة التجويع، ومنع الطعام أو تقليصه إلى الحد الأدنى، ما أدى إلى حالات هزال شديد وضعف في المناعة وانتشار للأمراض بين المعتقلين نتيجة سوء التغذية.
وتُعدّ سياسة القتل تحت التعذيب واحدة من أخطر أنماط الانتهاك، حيث تشير المعطيات إلى استشهاد أكثر من 40 معتقلًا من أبناء قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، في ظل تعذيب قاسٍ ووحشي أثناء التحقيق أو نتيجة ظروف الاعتقال اللاإنسانية، ما يعكس تصعيدًا غير مسبوق في تعاطي سلطات الاحتلال مع الأسرى، دون أي رقابة أو محاسبة.
ما أبرز التحديات التي تواجه العمل الحقوقي؟ وكيف تتعاملون معها؟
يمكن تصنيف أبرز التحديات التي تواجه العمل الحقوقي في فلسطين، إلى ثلاثة مستويات رئيسية:
أولًا: التحديات الداخلية، وعلى رأسها استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني، والذي ألقى بظلاله الثقيلة على عمل المؤسسات الحقوقية، سواء من حيث ضعف التعاون والتجاوب الرسمي، أو بسبب الانقسام القانوني الناتج عنه، إذ بات هناك منظومتان قانونيتان مختلفتان، واحدة في الضفة الغربية وأخرى في قطاع غزة، إلى جانب وجود نظامين قضائيين، وهو ما يصعّب توحيد الجهود الحقوقية والعمل ضمن بيئة قانونية متجانسة.
ثانيًا: التحديات المرتبطة بالاحتلال، والتي تشمل القيود الشديدة على حركة ونشاط العاملين في المؤسسات الحقوقية، بفعل سياسات الحصار، والإغلاق، والاستهداف الإسرائيلي المباشر.
أضف إلى ذلك حملات التشويه التي تقودها دولة الاحتلال لتجريم المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، ووصمها زورًا بالإرهاب، فضلًا عن غياب أية ضمانات لسلامة العاملين فيها، الذين يتعرضون لخطر الاعتقال والملاحقة في أي وقت.
ثالثًا: التحديات الذاتية، والتي تتمثل في شُح التمويل وتراجع الدعم المخصص للمؤسسات الحقوقية، ما أدى إلى تقليص عدد البرامج، وتسريح عدد من الموظفين، وهو ما انعكس سلبًا على قدرة المؤسسات على مواصلة جهودها في التوثيق والرصد والمناصرة، وأضعف قدرتها على الاستجابة لكثافة الانتهاكات وتصاعد حجم الملفات الحقوقية في ظل حرب الإبادة المستمرة.
ورغم هذه التحديات المتعددة، تواصل مؤسسة الضمير وغيرها من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية أداء رسالتها بكل ما تملك من إمكانات، مدفوعة بإيمانها العميق بدورها في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني، وتوثيق جرائم الاحتلال، والعمل من أجل العدالة والمحاسبة.
هل واجهتم ضغوطًا أو صعوبات من بعض الجهات المانحة على خلفية موقفكم من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؟ وكيف تنظرون إلى ازدواجية المعايير في التعامل مع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية؟
بلا شك، واجهت مؤسسة الضمير، كما غيرها من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، ضغوطًا من بعض الجهات المانحة، خاصة تلك التي ترتبط بأجندات سياسية وتوجهات تفرض اشتراطات تتماشى مع السردية الإسرائيلية.
كثير من هذه الجهات، لا سيما الغربية منها، تحاول توجيه التمويل بطريقة تُقيّد حرية المؤسسات، وتدفعها إلى تبنّي خطاب يتماهى مع مواقف الممول، لا مع المصلحة الوطنية الفلسطينية أو الحقيقة القانونية والحقوقية كما هي.
في مؤسسة الضمير، نتمسّك بهويتنا الوطنية وبخطابنا الحقوقي المستقل، ونرفض بشكل قاطع أي شكل من أشكال التمويل المشروط سياسيًا.
دفعنا ثمن هذا الموقف الواضح، من خلال محاولات إسرائيلية متواصلة لتجفيف منابع التمويل، واستهداف المؤسسة في سمعتها وقدرتها التشغيلية، بل والعمل على تقييد حركتها وملاحقة طواقمها.
أما فيما يتعلق بازدواجية المعايير، فهي للأسف أصبحت سمة ظاهرة في تعامل العديد من الدول والمؤسسات الدولية مع القضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي تتحرك فيه هذه الأطراف بقوة وفعالية في حالات انتهاك حقوق الإنسان في أماكن أخرى من العالم، فإنها تغض الطرف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتتهرب من إدانته أو اتخاذ إجراءات جدية لمساءلته.
هذه الازدواجية لا تقتصر على الصعيد السياسي، بل تمتد إلى المواقف من المؤسسات الدولية نفسها. نلاحظ مواقف عدائية من بعض الدول تجاه المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية فقط لأنها بدأت تدرس أو تتعامل مع قضايا ضد إسرائيل، وهو ما يعكس بشكل واضح وفاضح حجم التحيّز وغياب العدالة في النظام الدولي القائم، ويُشكّل تحديًا إضافيًا أمام عمل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية في مسعاها لتحقيق العدالة والمساءلة.
ما الرسائل أو التوصيات التي توجهها مؤسسة الضمير للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية، في ظل استمرار العدوان وغياب المساءلة على جرائم الاحتلال في قطاع غزة؟
تتمثل رسالتنا الأساسية في أن حجم الانتهاكات التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وقطاع غزة على وجه الخصوص، يفوق في فظاعته وامتداده الكثير من الكوارث الحقوقية التي شهدها العالم الحديث.
نحن أمام واحدة من أكبر موجات الجرائم المنظمة، بما يشمل من جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وهو ما يستدعي تكاتفًا غير مسبوق من المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقية.
نؤكد أن آلاف القضايا الحقوقية لا تزال مفتوحة وتحتاج إلى جهد جماعي لتوثيقها ومتابعتها قانونيًا، في ظل تعطيل العدالة، وتواطؤ بعض القوى الكبرى مع الجناة. ولذلك، فإننا في مؤسسة الضمير ندعو إلى إطلاق برامج تعاون موسعة، وتشكيل جبهات حقوقية دولية داعمة للجهود الفلسطينية من أجل الوصول إلى المساءلة وتحقيق العدالة.
إن التزام المنظمات الدولية بمبادئ القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، يفرض عليها أن تولي القضية الفلسطينية اهتمامًا حقيقيًا، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل من خلال مرافقة الجهود الميدانية وتطوير أدوات المحاسبة الفعلية.
كما نوجّه دعوة مفتوحة لكل المؤسسات الحقوقية حول العالم، لبناء شراكات فعلية تقوم على الدعم والتنسيق والعمل التكاملي، بما يخدم هدفًا مشتركًا وهو: محاسبة مجرمي الحرب، وإنصاف ضحايا الإبادة، واستعادة كرامة الشعب الفلسطيني وحقوقه المغتصبة منذ عقود.