بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأ الحديث عن تهجير الفلسطينيين من القطاع، عندما قدّمت وزيرة الاستخبارات في الحكومة الإسرائيلية، غيلا غيملائيل، مقترحًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتهجير سكان القطاع إلى سيناء المصرية. وقبل أيام، أعلن وزير جيش الاحتلال، يسرائيل كاتس، عن إنشاء مديرية للهجرة “الطوعية”.
لم يكن هذا المقترح بداية فكرة التهجير، ولن تكون الإدارة الجديدة نهايته، فمنذ عقود لم تتوقف محاولات الاحتلال لدفع الفلسطينيين إلى مغادرة بلادهم، عبر مشاريع ومقترحات تتخذ شكل “الهجرة الطوعية”، ولكنها في حقيقتها لا تمثل سوى التهجير القسري.
محاولات متكررة
نشرت صحيفة “إسرائيل اليوم” في فبراير/شباط الماضي تقريرًا جاء فيه أن “إسرائيل” بدأت مساعي تهجير الفلسطينيين قبل أكثر من ستة عقود، عبر آلية سرية استخدمتها الحكومة الإسرائيلية لتشجيع الهجرة من غزة بعد النكسة عام 1967، مقابل مزايا اقتصادية، ونجحت هذه الآلية في ترحيل نحو ربع سكان القطاع، البالغ عددهم 400 ألف نسمة آنذاك.
التقرير الذي أعده الصحفي، نداف شرغاي، ذكر أن نتنياهو، في ديسمبر/كانون الأول 2023، تحدّث في اجتماع مغلق لكتلة الليكود عن سعيه لترحيل سكان غزة إلى دول أخرى، معترفًا بصعوبة العثور على دول ترغب في ذلك، وأن وزير الخارجية السابق، إيلي كوهين، كان قد أنشأ فرقًا تفاوضت مع حكومتي رواندا والكونغو لاستقبال الغزيين.
في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحديث عن تهجير الفلسطينيين من القطاع إلى مصر والأردن. وقد تلقفت حكومة الاحتلال تصريحاته وباشرت تنفيذ الفكرة، حتى أن العديد من المحللين ربطوا بين التهجير والعودة للحرب كوسيلة للضغط على الغزيين باتجاه الهجرة.
مؤخرًا، أعلنت حكومة نتنياهو المصادقة على إنشاء وكالة خاصة بـ”المغادرة الطوعية” للفلسطينيين، وقال صاحب مقترح “مديرية التهجير”، يسرائيل كاتس، في بيان له إن الوكالة الجديدة “ستتولى الانتقال الطوعي لسكان قطاع غزة إلى دولة ثالثة لمن يرغبون بذلك”، ويتولى إدارة هذا الملف الجنرال المتقاعد عوفر وينتر، الذي يحمل سجلًا دمويًا وتوجهًا دينيًا متطرفًا.
تباينت ردود الأفعال على مستوى العالم، فمصر والأردن، الخياران الأولان لنقل الغزيين إليهما، أكدتا عدة مرات رفض التهجير، ومع ذلك، عاد ترامب ليقول إنهما ستوافقان على استقبال الفلسطينيين، ما أثار مخاوف البعض من موافقتهما بالفعل لاحقًا.
ومع ذلك، فإن مشهد عودة النازحين من النصف الجنوبي من القطاع إلى شماله بعد اتفاق التهدئة أثار مخاوف الاحتلال، وكثر الحديث في الإعلام العبري عن تمسك الفلسطينيين بأرضهم وإصرارهم على البقاء فيها، خشية تكرار تجربة نكبة عام 1948.
حرب إبادة بوجه دبلوماسي
رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، الدكتور صلاح عبد العاطي، قال لـ”نون بوست” إن التهجير بشكله الحالي قسري لا طوعي، ويجرّمه القانون الدولي، ويجب محاسبة الاحتلال عليه.
وأضاف: “دمّرت إسرائيل القطاع وجعلته منطقة منكوبة وقتلت الفلسطينيين لإرغامهم على الهجرة، وهذا في نظر القانون الدولي تطهير عرقي وجزء من جريمة الإبادة الجماعية، ويمثل جرائم حرب يجب مساءلة إسرائيل عليها، والتصدي لها برفض استقبال الفلسطينيين، والضغط من أجل وقف الإبادة، وضمان إعادة إعمار القطاع لمنع الهجرة بأي طريقة”.
وتابع: “من أجل دفع الناس للهجرة، مارس الاحتلال جريمة الإبادة الجماعية عبر قتل السكان المدنيين واستهداف الفئات المحمية من أطفال ونساء وطواقم طبية وعاملين في الفرق الإنسانية والقوى الشرطية، بالإضافة إلى تدمير نسبة كبيرة جدًا من المباني ومنشآت القطاع لتحويله إلى منطقة منكوبة غير قابلة للحياة. كما مارس الاحتلال عمليات التهجير القسري عبر طلبات الإخلاء المتكرر والقصف لإجبار الناس على التنقل، وهذه سياسة تهدف إلى إنهاك المواطنين”.
وربط عبد العاطي بين تجديد الحرب وخطة التهجير، قائلًا: “واضح أن العودة للحرب كانت لضمان بقاء نتنياهو وائتلافه اليميني في الحكم، لاستكمال فصول جريمة الإبادة الجماعية وتتويجها بتهجير الفلسطينيين. هذا هو هدف عودة الحرب، ولا يزال الهدف قائمًا، إذ تواصل إسرائيل العمل على تنفيذه”.
وأوضح أن تشكيل الاحتلال دائرة “الهجرة الطوعية” “يُظهر النوايا الإسرائيلية بتهجير سكان القطاع ومنع عودتهم، وما يفعله الاحتلال الآن أشد فتكًا، عبر منع دخول المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبية والوقود وكل احتياجات السكان على مدار شهر تقريبًا، ما يضغط على السكان المدنيين ويجعل حياتهم في مستوى جحيم إنساني”.
وعن تكليف، عوفر وينتر، بإدارة وكالة التهجير، قال عبد العاطي: “كل إسرائيل باتت متطرفة ولا تقيم وزنًا لمعايير حقوق الإنسان، ولا ترى حقوقًا للشعب الفلسطيني، وتوكيل هذا الملف لمدير متطرف يمكن أن يساهم في تكريس وقائع جديدة من التعقيدات والصعوبات والحرمان من سبل الحياة والخدمات، بما يحقق هدف التهجير، إضافة إلى أنه قد يدفع باتجاه الضغط على الدول لاستقبال الفلسطينيين”.
وتوقّع أن يستخدم الاحتلال الترغيب وسيلةً تدفع الفلسطينيين للتفكير في الهجرة، فبعد تحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للسكن، سيسهّل السفر للراغبين عبر المطارات والموانئ في الداخل المحتل، مؤكدًا أن حتى التسهيلات تُعدّ جزءًا من جريمة التطهير العرقي والتهجير القسري.
ولفت إلى أن “ممارسات الاحتلال للتهجير قائمة في الضفة أيضًا، وقد تتم من خلال دفع الفلسطينيين إلى معسكرات اعتقال واحتجازهم فيها وتهجيرهم قسرًا”، كما بين أن التهجير، وكل ما يتبعه من وسائل ضغط، سيبقى خطرًا قائمًا، خاصة في ضوء تعاطي “إسرائيل” مع تصريحات ترامب باعتبارها أشبه بـ”وعد بلفور”.
الأمر ليس جديدًا، بحسب عبد العاطي: “فحكومة الاحتلال، قبل السابع من أكتوبر، وضعت أمامها مخطط تصفية القضية الفلسطينية، وجزء من التصفية هو عملية الضم والتهجير إلى الأردن ومصر وغيرهما”.
تهديد وجودي يتطلب تحركًا عاجلًا
فيما يتعلق بردود الفعل الدولية، قال عبد العاطي: “الولايات المتحدة شريكة في هذه الجرائم، وهذا ما يجعل الاحتلال قادرًا على مواصلة الإبادة والتطهير، عدا عن مؤامرة الصمت الأوروبية والعجز الدولي عن وقف الجرائم”.
وأكد أن أي دولة تتعاون مع الاحتلال هي شريكة في جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، “فالقانون الدولي واضح في هذا المجال، ويحظر مساعدة دولة الاحتلال على نقل السكان من أراضيهم، وهذا يتطلب من الدول الشريكة التوقف عن توريد السلاح، وضمان التصدي لمخططات الاحتلال، والالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، وأحكام وتدابير محكمة العدل الدولية، وكل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية”.
وعن إدانة بعض الدول لمقترح التهجير، أوضح: “مطلوب تحويل الإدانات الدولية إلى خطوات عملية، وتدخل دولي ينهي عذابات الفلسطينيين، ويوقف الإبادة، ويقطع الطريق على مخططات التهجير. وعلى المجتمع الدولي فرض العقوبات على دولة الاحتلال ومساءلتها على جرائمها، وضمان تدخل لحماية المدنيين، بما في ذلك بعثة حماية دولية، والتدخل الجاد لإنهاء الاحتلال الذي هو السبب الرئيسي لمعاناة الفلسطينيين”.
وأشار إلى أن الخطة المصرية تحولت لخطة عربية ودولية، وهي كفيلة بالرد العملي والمنطقي التنفيذي لمواجهة التهجير، ولكن الأهم الآن وقف الإبادة وتهيئة الظروف لتدفق المساعدات وتعافي القطاعات خدمية وإعادة إعمارا لقطاع، “أما فلسطينيا، فالأمر لم يعد يُطاق”، على حد وصف عبد العاطي، بسبب استمرار الانقسام السياسي خلال الإبادة.
وقال: “ينبغي بناء خطة وطنية، أو الاتفاق عليها بالحد الأدنى، وبلورة قيادة جماعية لقيادة التحركات القانونية والسياسية والدبلوماسية والشعبية لضمان التصدي لمخططات الضم والتهجير”.
وأَضاف: “مطلوب من السلطة تجاوز حالة التقاعس والانتظار، والتحرك الجاد في كافة الفضاءات القانونية والدبلوماسية بما في ذلك سحب الاعتراف بدولة الاحتلال، وضمان التحرك على جميع الصعد لتشكيل حائط صد أمام مخططات الاحتلال”.
تصفية غزة ديموغرافيًا
قال مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، الدكتور إسماعيل الثوابتة، إن ما يروج له الاحتلال تحت مُسمى الهجرة الطوعية ليس إلا مخططًا ممنهجًا لتفريغ قطاع غزة من سكانه، وهو امتداد لسياسة التطهير العرقي التي ينتهجها الاحتلال منذ نكبة 1948.
وأضاف في تصريح لـ”نون بوست”: “هذه المحاولة ليست جديدة، بل تأتي في سياق استراتيجية استعمارية تهدف إلى فرض وقائع ديموغرافية جديدة، والقضاء على الوجود الفلسطيني في غزة، وإعادة هندسة المنطقة بما يخدم مصالح الاحتلال التوسعية”.
وتابع: “لا توجد هجرة طوعية عندما تكون الخيارات بين الموت والبقاء، بل هو تهجير قسري مقنع يهدف إلى كسر إرادة الصمود”. وتوقّع الثوابتة أن تلقى فكرة التهجير رفضًا واسعًا من المؤسسات الحقوقية والدولية، لتعارضها مع القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، وحقوق الإنسان الأساسية، خاصة أن التهجير القسري جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
عربيًا، أوضح أن “أي استجابة لهذه المقترحات تعني المشاركة في مشروع تصفية القضية الفلسطينية، ومن غير المرجح أن توافق أي دولة عربية على استيعاب أعداد من اللاجئين، في ظل تعقيدات سياسية واقتصادية إقليمية، بالإضافة إلى أن الشعوب العربية ترفض هذا المخطط وتدعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه”.
وأكد الثوابتة: “شعبنا الفلسطيني في غزة لن يقبل بهذا المخطط تحت أي ظرف من الظروف، فقد أثبت على مدار العقود الماضية تمسكه بأرضه رغم المجازر والحصار والعدوان المتكرر، وشعبنا، رغم معاناته، لن يتنازل عن حقوقه التاريخية وسيبقى متشبثًا بأرضه مهما بلغت التحديات”.
في الختام، يتضح أن ما تروج له “إسرائيل” تحت مسمى “الهجرة الطوعية” ليس إلا امتدادًا لمخطط قديم يستهدف تفريغ غزة من سكانها وفرض وقائع ديموغرافية جديدة تخدم المشروع الصهيوني.