ترجمة وتحرير: نون بوست
تخيل الآتي: طالب جامعي يستعد لأحد الامتحانات، وموظف تسويق يعدّ عرضا تقديميا، وكاتب يقوم بعصف ذهني لأفكار يريد تطبيقها في مشروعه القادم. يلجأ كل منهم إلى مساعد الذكاء الاصطناعي، وفي غضون ثوانٍ معدودة، يحصلون على أفكار كانت ستستغرق ساعات لجمعها.
سوف يشعرون أنهم يتمتعون بقوة إنتاجية هائلة – جزء خارق وآخر ساحر – وهم ليسوا وحدهم. وفقًا لتقرير جديد صادر عن “مركز تخيل المستقبل الرقمي”، يقول 54 بالمئة من البالغين الأمريكيين الذين يستخدمون النماذج اللغوية الكبيرة إن هذه الأدوات تعزز إنتاجيتهم، بينما يقول 42 بالمئة منهم أنها تعزز الإبداع.
ولكن بينما يجلسون مستمتعين بالكفاءة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تظهر فكرة مزعجة: هل هذا يجعلني كسولاً؟ اتضح أيضا أنهم ليسوا وحدهم؛ حيث يقول نصف مستخدمي النماذج اللغوية الكبيرة إنهم شعروا بالكسل عند الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، بل إن 35 بالمئة منهم شعروا بأنهم يغشون.
إن هذا التدافع – الشعور بالتمكين مقابل مشاعر عدم الارتياح – هو المفارقة المُميِزة لتطور الذكاء الاصطناعي. نحن نتطور ولكننا قلقون، لماذا؟ وماذا يُظهر ذلك عن علاقتنا مع الذكاء، سواء الذكاء الاصطناعي أو البشري؟
نشوة التمكين: لماذا يبدو الذكاء الاصطناعي قوة خارقة
أولاً، لنتحدث عن سبب حب الناس لهذه الأدوات. إن زيادة الإنتاجية بنسبة 54 بالمئة ليست مجرد رقم يبعث على الشعور بالسعادة؛ فالنماذج اللغوية الكبيرة لا تكل، حيث تقوم بالبحث والصياغة والعصف الذهني بسرعة فائقة. فكّر في أن لديك متدربين لا يأخذون استراحات لتناول القهوة، وينجزون المهام بشكل أسرع، ولا يعترضون عندما يُطلب منهم مراجعة أخرى.
ماذا عن الإبداع؟ يقول حوالي 42 بالمئة من المستخدمين إن الذكاء الاصطناعي يعزز قدرتهم على توليد أفكار جديدة. يشبه ذلك وجود شريك في العصف الذهني يمكنه تبادل الأفكار إلى ما لا نهاية دون أن يتعب أبدًا، وهذا يفسر أيضًا سبب اعتماد 51 بالمئة من المستخدمين على النماذج اللغوية الكبيرة في التعلم الشخصي غير الرسمي، أي ضعف عدد الذين يستخدمونها في العمل (24 بالمئة).
يُظهر التقرير أن الناس لا يستخدمون الذكاء الاصطناعي لإنجاز المهام فحسب، بل يستخدمونه للاستكشاف والبحث وتوسيع آفاقهم الفكرية.
وبالنسبة للبعض، فإن هذه العلاقة تتجاوز المعاملات؛ فقد انخرط ما يقرب من 65 بالمئة من مستخدمي النماذج اللغوية الكبيرة في تفاعلات شفهية وتفاعلية مع أدوات الذكاء الاصطناعي، حيث يقوم 34 بالمئة منهم بذلك عدة مرات في الأسبوع. لا يستشير المستخدمون الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يتحاورون معه، وفي هذه التفاعلات يحدث شيء مثير للاهتمام: 49 بالمئة من المستخدمين يعتقدون أن مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بهم أذكى منهم.
عندما يشعر الناس بأنهم أكثر ذكاءً بسبب الذكاء الاصطناعي، فإنهم يشعرون أنهم أكثر إتقانا – غالباً ما يُطلق عليه الكفاءة الذاتية -، وهذا الاندفاع يُغذي الرغبة في مواصلة التعلم والتجربة وتجاوز حدود قدراتهم. قد يكون الأمر مُنعشًا، لكن لكل قوة عظمى جانبٌ مظلم.
طريق مختصر مليء بالإحساس بالذنب
بعد ذلك يأتي القلق، ذلك الشعور الزاحف بأن الناس ربما لا يستحقون أفكارهم عن جدارة. أفاد نصف مستخدمي النماذج اللغوية الكبيرة بأنهم يشعرون بالكسل عند استخدام الذكاء الاصطناعي، و35 بالمئة منهم شعروا صراحةً بأنهم يغشون.
لماذا؟ يكمن أحد التفسيرات في تبرير الجهد، وهو مبدأ نفسي يقول إننا نقدر الأشياء أكثر عندما نعمل بجد من أجلها، وعندما يقدم الذكاء الاصطناعي لشخص ما إجابة في ثوانٍ، فإنه يختصر هذا الجهد. والنتيجة؟ إحساس مزعج بأنهم قد تخطوا مرحلة بذل الجهد، وبذلك فقدوا بعض الصفات غير الملموسة للإنجاز “الشخصي”.
يشعر حوالي 33 بالمئة من المستخدمين بالقلق من أن يصبحوا معتمدين أكثر من اللازم على النماذج اللغوية الكبيرة، خوفًا من أن يكونوا قد استعانوا بمصادر خارجية لمساعدة عقولهم. هذا الخوف له سبب وجيه؛ فقد أفاد 23 بالمئة من المستخدمين أنهم ارتكبوا خطأ كبيرًا أو قرارًا سيئًا لأنهم اعتمدوا كثيراً على الذكاء الاصطناعي. إنه سلاح ذو حدين: الذكاء الاصطناعي يجعل الناس أسرع، ولكن ذلك في بعض الأحيان يكون على حساب الفطنة.
الشعور بالذنب ليس مجرد وخز أخلاقي مجرد، بل يمكن أن يعكس شيئًا من أزمة الهوية. إذا كانت أفضل الأفكار تأتي من الذكاء الاصطناعي، فهل يبقى المستخدم عبقريًا؟ أم مجرد مشغل كسول لآلة ذكية للغاية؟
مفارقة الثقة والشك والذات الرقمية
لماذا إذًا يجعل الذكاء الاصطناعي الناس يشعرون بالثقة والقلق في آن واحد؟ تتعلق هذه المفارقة في جوهرها بالقدرة على التصرف. تقف النماذج اللغوية الكبيرة على مفترق طرق بين قوتين نفسيتين أساسيتين:
الدافع الجوهري (أنا) – متعة اكتشاف الأشياء من أجل الذات.
الكفاءة الخارجية (هم) – جاذبية إنجاز الأمور بشكل أسرع وأفضل.
عندما تعزز النماذج اللغوية الكبيرة الإنتاجية والإبداع، فإنها تغذي الحاجة إلى الكفاءة والفعالية الذاتية، ولكن عندما توزع الإجابات دون جهد، فإنها تثير التنافر المعرفي، أي الاحتكاك بين الرغبة في أن يكون المرء بطل قصة ذكائه الخاص، وبين حب الراحة التي يوفرها المساعد الخارق.
قد يفسر ذلك أيضاً لماذا يقول 25 بالمئة من المستخدمين إن مساعد الذكاء الاصطناعي “يشعرهم بالسعادة” لأنهم لا يستخدمون هذه الأدوات فحسب، بل يتفاعلون معها. مع ذلك، أفاد 35 بالمئة منهم أيضاً أنهم يشعرون بالإحباط أو الارتباك، مما يعكس حالة الشد والجذب في أي علاقة وثيقة.
وربما يكون هذا هو المفتاح: الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو مرآة تعكس الطموحات وانعدام الأمان والتعريفات المتطورة للذكاء. كلما زاد تشبه الذكاء الاصطناعي بالبشر – حيث قال 32 بالمئة من المستخدمين إن الذكاء الاصطناعي يتمتع بحس الفكاهة، و25 بالمئة يعتقدون أنه يصدر أحكاماً أخلاقية – زاد الصراع البشري مع ما يعنيه ذلك بالنسبة لهويتهم المعرفية.
يصيغ لي ريني، مدير مركز تخيل المستقبل الرقمي ومؤلف التقرير الجديد الأمر على هذا النحو:
“لقد أصبحت هذه الأدوات منسوجة بعمق في الحياة اليومية، ليس فقط كمعززات للإنتاجية ولكن كشيء أكثر شخصية؛ حيث تقوم بتشكيل العواطف والقرارات، وحتى التصور عن الذات. يتعامل المستخدمون الأوائل مع هذا التناقض بمزيج من الإثارة وعدم اليقين. يشعر الكثيرون بالتفاؤل بشأن التقدم الطبي الذي يحركه الذكاء الاصطناعي ويعتقدون أن البشر سيظلون مسيطرين. وفي الوقت نفسه، يشعرون بالقلق من الآثار الأوسع نطاقاً، بدءاً من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية إلى التحدي المتمثل في إعادة تعريف المعنى والهدف في عالم يمكن فيه للآلات أن تفعل الكثير. الذكاء الاصطناعي لا يغير طريقة عملنا فحسب، إنه يجبرنا على إعادة التفكير فيما يعنيه أن نكون بشراً”.
الذات الرقمية في تطور
لا يُخبرنا هذا التقرير بما يجب أن نفكر فيه؛ بل يسلط الضوء ببساطة على طريقة تفكيرنا. نصف البالغين الأمريكيين الآن من مستخدمي النماذج اللغوية الكبيرة، وهم يُواجهون مزيجًا مُربكًا من الرهبة والتردد، والإنتاجية والشك، والإبداع والأزمات.
ربما هذه هي الخلاصة الحقيقية: الذات الرقمية لا تزال في مرحلة التطور، فالذكاء الاصطناعي لا يُغني عن الذكاء البشري، بل يُعيد تشكيل كيفية إدراك الذكاء. وكما هو الحال مع أي تحول معرفي كبير – الكتابة، والطباعة، والحوسبة – لا يزال الناس يحاولون إيجاد التوازن.
المصدر: سايكولوجي توداي