اختبار حقيقي تقف أمامه القيادة السورية الجديدة، وتحديات وجودية باتت تُشكّل تهديدًا لأهالي محافظة درعا، ولا سيّما في مناطق “حوض اليرموك”، بعد تغوّل “إسرائيل” وتهديداتها المستمرة ومحاولاتها فرض واقع أمني جديد يُرسّخ وجودها على الأراضي الجنوبية السورية.
ومع الظرف السوري الحساس، وانشغال البلاد بالأوضاع الداخلية، يستغل الاحتلال الإسرائيلي تلك الظروف لمتابعة إنجاز مشروعه القائم على إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح في المناطق السورية الجنوبية المحاذية للجولان المحتل، مع تدمير كل القدرات العسكرية، وتجريد الأهالي هناك حتى من أسلحتهم الفردية.
“كويّا” وذرائع استهدافها
هناك، بين سوريا والأردن والجولان المحتل، سطع اسم بلدة “كويّا”، غربي درعا، كأول قرية سورية أوقف أهلها التوغّل الإسرائيلي بالرصاص، عبر عدة شبان من مسافة 300 متر فقط، رافضين دخول الاحتلال قريتهم، فردّ الاحتلال باستهدافهم بمسيرة من طراز “زيك”، وقصف البلدة من جهة ثكنة “الجزيرة” التي تتمركز فيها قواته، ما أدى إلى استشهاد سبعة أشخاص، بينهم نساء وأطفال، ووقوع إصابات متفاوتة، إضافة إلى موجة نزوح جماعي للأهالي.
المجزرة التي ارتكبتها “إسرائيل” سبقها توغّل لعناصرها في البلدة ذاتها، بعد أيام من سقوط النظام البائد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث طالبوا الأهالي آنذاك بتسليم أسلحتهم، إلا أن مطالبهم قوبلت بمظاهرات غاضبة، ورفض للمساعدات الإسرائيلية التي حاول الاحتلال استمالة الأهالي بها.
وقد جوبهت تلك المظاهرات المطالبة بانسحاب القوات الإسرائيلية من البلدة بإطلاق الرصاص لتفريقها، ما أدى إلى وقوع جرحى، قبل أن تنسحب القوات بعد أيام، وتتمركز على أطراف البلدة، وتنشئ نقاطًا عسكرية، وتقطع الطرق على المزارعين باتجاه أراضيهم في الوديان، وسط تحليق مكثف لطيران الاستطلاع فوق البلدة، وإطلاق النار بشكل استفزازي باتجاهها.
تزعم الرواية الإسرائيلية أن عناصر “داعش” هم من أطلقوا النار الكثيف على قواتها في الجنوب السوري، معتبرة أن هذا التصرف يُشكّل انعطافًا في التحديات الأمنية في المنطقة، ويحتاج إلى تغيير في أسلوب العمل، مثل إقامة شريط حدودي ثانٍ شرق الجولان، وتكثيف المراقبة في المنطقة الجنوبية من مرتفعات الجولان، والمنطقة المقابلة لها في سوريا.
ووفق صحيفة “الشرق الأوسط”، فإن وحدة “كتائب الصحراء” الإسرائيلية هي التي اشتبكت مع الشبان السوريين في بلدة كويّا، وهي الوحدة التي تعمل في هذه المنطقة، وتضم 70 مقاتلًا.
وسبق أن عملت في جنوب الضفة الغربية، وفي السنة الفائتة تم تفكيكها بسبب تصرفات جنودها العنيفة مع الفلسطينيين، حيث ينحدر جنودها من “شبيبة التلال” في المستوطنات، المعروفين باعتداءاتهم على المدنيين، وتهجير المزارعين، وقتل مواشيهم.
وبسبب النقص في عدد الجنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أُعيد بناؤها مجددًا لتعمل في الجنوب اللبناني والجنوب السوري، وتمت إقامة موقع لها قرب عين زيوان، القرية السورية التي تم تهجير سكانها أثناء احتلال الجولان عام 1967.
يرى الباحث السياسي في مركز “الحوار” السوري، أحمد القربي، أن هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها مقاومة مسلحة شعبية للتوغّل الإسرائيلي، الباحث بدوره عن ذريعة لاحتلال أراضٍ سورية.
وأضاف القربي، في حديثه لـ”نون بوست”، أن الإسرائيليين جادون في إضعاف القيادة السورية الجديدة، ونزع أوراق المقاومة من يدها، وإنشاء منطقة عازلة، وهذا الأمر صرّحوا به أكثر من مرة، وبالتالي هم استفادوا من حادثة “كويّا” بشكل أو بآخر، وعدّوها نقطة تحول بالنسبة لهم لتعزيز تغوّلهم أكثر في الجنوب السوري.
أهمية كويّا الجغرافية
تقع بلدة كويّا بريف درعا الغربي على المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والجولان المحتل، في منطقة حوض اليرموك، التي تتميز بكونها خزان الزراعة والمياه في درعا.
وتبعد عن مركز المدينة 40 كم، بمساحة تقدّر بنحو 13 كيلومترًا مربعًا، كما تبعد عن الخط العازل بين الأراضي السورية والجولان نحو أربعة كيلومترات، ويفصل بينهما قرية معرية، كما تبعد أقل من كيلومترين عن نهر اليرموك، الحد الطبيعي الفاصل بين سوريا والأردن.
تضمّ المنطقة هناك قطعتين عسكريتين في منطقة الوادي، إحداهما تتبع لـ”الهجانة” (حرس الحدود)، إضافة إلى اقترابها من منطقة “الجزيرة”، وهي تلة مرتفعة تطل على القرى المحيطة، وصولًا إلى الحدود مع الأردن.
ظهر في “كويّا” خلال اندلاع الثورة السورية عدة فصائل معارضة، مثل “حركة المثنى” الإسلامية، ولواء “شهداء اليرموك”، اللذين اندمجا تحت مسمى جيش خالد، وبايع تنظيم الدولة “داعش”.
وكانت كويّا ضمن قطاع “حرس الحدود” الخاص بالتنظيم، الذي أشرف مقاتلوه على حماية الحدود المقابلة للأردن والجولان المحتل، فيما توزّع القطاعان الآخران بين تسيل وسحم الجولان، قبل أن يدخلها النظام البائد عقب التسوية في محافظة درعا عام 2018.
فرض واقع أمني جديد
يتوقّع مركز الأبحاث الإسرائيلي “ألما” أن تزداد التوترات والمواجهات مع السكان المحليين، كلما طالت مدة بقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العازلة. إضافة إلى ذلك، من المُرجَّح، مع مرور الوقت، ظهور بنى تحتية إرهابية محلية، بقيادة جهات مختلفة (إسلاميين، فلسطينيين، عناصر من المحور الشيعي).
وحسب موقع “واينت” العبري، الذي اعتبر الحادثة نقطة تحول في الساحة السورية، فإن منطقة الحادثة في جنوب الجولان السوري تُعدّ أكثر خطورة بالنسبة لجيش الاحتلال مقارنة بوسط وشمال الهضبة، لسببين رئيسيين:
تضاريس المنطقة: تجعل السيطرة العملياتية أكثر صعوبة بسبب الوديان العميقة، التي تخلق العديد من المناطق الميتة للمراقبة، ومسارات تسلل متعددة، على عكس السهول المفتوحة في بقية أجزاء الجولان.
الميول الأيديولوجية للسكان: حيث يُعتبر سكان هذه المنطقة أكثر ميلًا إلى التوجهات الإسلامية المتشددة، وفق زعم الاحتلال، وقد وفّروا في العقد الماضي ملاذًا لفصيل متطرف كتنظيم داعش، الذي حاول في ذلك الوقت عدة مرات استهداف قوات جيش الاحتلال.
تؤمن “إسرائيل” أن المنطقة ذاهبة باتجاه تشكّل معادلات أمنية جديدة، فطيلة السنوات الماضية كانت المنطقة ترزح تحت ظل التنافس الإقليمي الإيراني الإسرائيلي، أما الآن، وبعد انتصار الثورة السورية، تحاول “إسرائيل” خلق مكانة جيوسياسية لها، مستفيدة من هشاشة الواقع السوري.
إضافة إلى رغبتها بفرض واقع أمني في الجنوب السوري شبيه باتفاقية “كامب ديفيد” بين مصر و”إسرائيل” في شبه جزيرة سيناء منزوعة السلاح، ولكن دون الانسحاب من المناطق التي توغلت فيها مؤخرًا في الجنوب السوري أو الجولان السوري.
وعند وصول وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إلى جبل الشيخ، في 11 آذار/ مارس الجاري، تحدّث عن رؤية “إسرائيل” للمنطقة الأمنية التي تسعى إلى فرضها في سوريا، إذ أوضح أن المنطقة الأمنية في جنوب سوريا تتكوّن من قسمين رئيسيين:
الأول: المنطقة العازلة التي سيطرت عليها “إسرائيل” بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وعملت على تأمين المنطقة من خلال إقامة قواعد عسكرية فيها، ويُقدّر عدد السكان السوريين في هذه المنطقة العازلة بـ40 ألفًا.
أما الثاني، فمنطقة تمتد إلى مسافة 15 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، انطلاقًا من السياج الحدودي، وتمنع “إسرائيل” دخول أفراد من الجيش السوري إليها، وهذه المنطقة شهدت، ولا تزال، قصفًا عنيفًا من قبل الاحتلال، يستهدف خلاله قواعد ومقارّ عسكرية، ويُدمَّر فيه مخازن أسلحة.
وإلى جانب هاتين المنطقتين، هنالك منطقة أمنية ثالثة تُسميها تقارير الصحافة الإسرائيلية “منطقة نفوذ”، ويسعى الاحتلال إلى تحويلها إلى أمر واقع في الجنوب السوري.
وبحسب المعلومات الإسرائيلية المتوفرة، فإن هذه المنطقة سيكون لها ترتيبات أمنية مختلفة، يُمنع فيها انتشار الجيش السوري، أو نشر أي أسلحة بعيدة المدى مثل منصات الصواريخ، بينما يُسمح بوجود الشرطة السورية فقط.
أنقرة تقترب.. “إسرائيل” تترقب
بما أن المنافس الإيراني لم يعد موجودًا ليُعطّل على الاحتلال الإسرائيلي توسيع نفوذه خارج الحدود، اصطدمت “إسرائيل” باللاعب التركي، حليف النظام السياسي الجديد في سوريا، والذي بات يعكّر صفو أهدافها، إذ أطلقت تحذيرات من الوجود التركي في سوريا، وانتقاله بالقرب من حدودها في الجولان المحتل.
يرى مراقبون أن الاعتداءات الإسرائيلية هي استكمال لجملة اعتداءات، سبقها ضرب قاعدتين عسكريتين، هما: مطار تدمر، وقاعدة “تي فور”، بهدف الضغط العسكري والسياسي على الحكومة السورية.
إضافة إلى الضغط على تركيا التي باتت تثير مخاوف “إسرائيل” في أن يكون تمركزها في مواقع سورية متقدمة وقريبة من الجنوب السوري مانعًا لحرية أي عمل إسرائيلي في سوريا، خاصة في ظل الحديث عن إنشاء قاعدة عسكرية تركية قرب تدمر بريف حمص، مقابل دعم اقتصادي وعسكري للجيش السوري الجديد.
بالعموم، لا يبدو أن الاعتداءات الإسرائيلية شكّلت نقطة تحول بالنسبة لها فقط، بل دقّت ناقوس الخطر أيضًا في دمشق، حيث تشير الصحف التركية إلى وصول الرئيس السوري أحمد الشرع إلى تركيا في زيارة غير معلنة، وسط أنباء عن توقيع اتفاقية دفاعية وعسكرية مع الرئيس التركي أردوغان، لكنها ظلت غير مؤكدة حتى اللحظة.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرجّح الدكتور نادر الخليل، الباحث السياسي السوري، أن الضغوط الإسرائيلية المتزايدة على سوريا، لا سيما فيما يتعلق بعملياتها العسكرية في الأراضي السورية، ستؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية، بمعنى أنها ستدفع القيادة السورية الجديدة إلى التقارب أكثر مع تركيا.
“فهذه الديناميكية قد تكون مفيدة من وجهة نظر دمشق، التي تبحث عن دعم سياسي وعسكري لتقوية وحماية سيادتها، وتحقيق استقرار داخلي، ولكن في الوقت نفسه، ستعزز من مخاوف إسرائيل، وقد يدفعها ذلك إلى تعزيز سياستها التي تتبعها في المنطقة بشكل قد يكون غير متوقع”، يضيف الخليل.
وحسب الخليل، فإن أي تحسن في العلاقات بين سوريا وتركيا قد يعيد تشكيل قواعد اللعبة الأمنية في المنطقة، ويقيّد القدرة الإسرائيلية على تنفيذ عملياتها العسكرية، كما كان الحال ضد الوجود الإيراني والميليشيات المدعومة من طهران في سوريا سابقًا.
ويشترك الباحث القربي في الرأي بأن خيارات مواجهة “إسرائيل” بالنسبة للإدارة السورية ضعيفة جدًا، ولا خيار لها في الوقت الراهن سوى توقيع معاهدات دفاعية مع تركيا لشرعنة الوجود التركي على الأراضي السورية، ودعم الجيش السوري الجديد، إضافة إلى التنسيق الأمني مع الدول العربية، كبعض دول الخليج والأردن، التي لها مصلحة مشتركة في منع التوغّل الإسرائيلي في الجنوب السوري.
يمكننا استنتاج أن “إسرائيل” ماضية في تحقيق هدفها بإنشاء منطقة عازلة جنوب سوريا منزوعة السلاح، وخلق واقع تتحكم فيه بأقل الخسائر، بعيدًا عن إحداث فوضى مطلقة في المنطقة، فالفوضى المطلقة قد تؤدي إلى ظهور جماعات مسلحة غير منضبطة تزعج الوجود الإسرائيلي، وتستغل الفراغ الأمني والفوضى لضربها في العمق، وهو سيناريو لا ترغب به “إسرائيل” حاليًا.