ترجمة وتحرير نون بوست
أكد الرئيس رجب طيب أردوغان عقب اجتماع مجلس الوزراء أن “تركيا وحدها قادرة على إنقاذ الاتحاد الأوروبي من المأزق الشامل الذي يعانيه اقتصاديًا ودفاعيًا وسياسيًا وعلى صعيد السمعة الدولية”، ومن المتوقع أن يتردد صدى هذا التقييم في الأجندة الأوروبية خلال الفترة المقبلة، خاصةً في ظل عدم مواجهة الساسة الأوروبيين لهذه الحقيقة بواقعية حتى الآن.
فوجئت أوروبا بواقع النظام العالمي الجديد دون أن تكون مستعدة له في ظل سياسات ترامب التي تفرض تغييرات على النظام الحالي. فبينما يتعامل ترامب مباشرة مع الصين وروسيا، لا يرى أوروبا كفاعل في حل المشكلات العالمية.
وبإرسال نائبه يشن حرب قيم تعني “إما أن تكونوا معنا أو ضدنا”. وبدلاً من إيجاد حلول مشتركة لهذه الأزمة، يذرف الأوروبيون الدموع لأنه “لا يُنظر إليهم على أنهم يقفون على أساس القيم المشتركة نفسها” مع الولايات المتحدة.
تركيا: الدولة الضامنة للاستقرار
في المناقشات الأوروبية حول مستقبل القارة، لا يُدعى إلى الطاولة سوى دول معينة، ففي القمة التي عُقدت في باريس، حضر المستشار الألماني—الذي لم يتضح بعد إن كان سيعاد انتخابه—إلى جانب رئيس وزراء الدنمارك رغم أن بلاده ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي.
لم تسفر هذه القمة الطارئة والمستعجلة عن أي نتائج ملموسة، إذ لم تصدر أي التزامات بزيادة الإنفاق الدفاعي، ولا أي مقترح أمني يُعزز موقف أوكرانيا في المفاوضات، ولا حتى أي بيان واضح بشأن إنهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ورغم سنوات من النقاش حول كيفية ضمان أمنها، لا تزال أوروبا تفتقر إلى رؤية ناضجة، وما زالت تتردد في اتخاذ موقف حاسم.
في الوقت الذي نوقش فيه مستقبل أوكرانيا خلال اجتماع عُقد في الرياض، لم يتلقَّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي دعوة لحضوره، وبدلا من ذلك، اختار زيلينسكي زيارة تركيا التي تُعتبر الوسيط الأكثر موثوقية منذ بداية الحرب، فمنذ اندلاع الصراع قبل أربع سنوات، تبنّت أنقرة سياسة توازن استثنائية حظيت بثقة جميع الأطراف. وقد أسفرت جهودها عن نتائج ملموسة، مثل اتفاقية ممر الحبوب وتبادل الأسرى، اللتين كان لهما تأثير كبير على الأزمة.
وفي هذه المرحلة التي تتزايد فيها المساعي الدبلوماسية الدولية لإنهاء الحرب، جاءت زيارة زيلينسكي إلى أنقرة كحدث بالغ الأهمية، ما يؤكد أن تركيا ستكون عنصرًا أساسيًا في أي مفاوضات سلام مستقبلية. لولا التدخلات التخريبية من بعض الدول، لكانت الجهود التركية قد أثمرت في المراحل الأولى من الحرب، حيث كانت موسكو وكييف على وشك التوصل إلى اتفاق. لكن السياسات والوعود التي قدّمتها واشنطن والعواصم الأوروبية لأوكرانيا عرقلت هذا المسار.
لقد أثبت الرئيس رجب طيب أردوغان في السياسة العالمية أنه زعيم مؤثر وموثوق قادر على تقديم حلول عملية للنزاعات. ومن هنا، يمكن لتركيا أن تستضيف المفاوضات وتؤدي دورًا تسهيليًا في الحوار بين الأطراف المتصارعة.
وقد أوضح أردوغان موقف تركيا بوضوح حين قال: “لدى ترامب مبادرة دبلوماسية لإنهاء الحرب، وهذا يتماشى مع السياسة التي نتبعها منذ ثلاث سنوات. خلال هذه الفترة، لعبنا دورًا فاعلًا في الدبلوماسية بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، مما يجعل بلدنا المكان المثالي لاستضافة هذه المفاوضات”.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه أوروبا بمشكلاتها الداخلية، تزداد الحاجة إلى السياسة الخارجية التركية المتزنة والدور الذي تلعبه كقوة إقليمية موثوقة. ومن المؤكد أن أهمية تركيا بالنسبة لأوروبا ستزداد أكثر مع مرور الوقت.
تركيا والأزمة التي هزّت أوروبا
بعد اجتماع مجلس الوزراء، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائلاً: “وحدها تركيا قادرة على إنقاذ الاتحاد الأوروبي من المأزق الذي وقع فيه، سواء في الاقتصاد أو الدفاع أو السياسة أو مكانته الدولية”.
ومن المتوقع أن تصبح هذه التصريحات موضع نقاش متزايد في الأوساط الأوروبية خلال الفترة المقبلة. مع ذلك، لم يواجه السياسيون الأوروبيون هذه الحقيقة بجدية حتى الآن. ويرجع ذلك أساسًا إلى دمجهم بين معاداة الإسلام، ومعاداة المهاجرين، وكراهية الأجانب، والعداء لتركيا في خطابهم الشعبوي الرئيسي.
لم تتمكن النخبة السياسية في أوروبا من مواجهة العواقب الوخيمة للعنصرية في وقت مبكر، مما جعلها تدفع ثمن انجرافها وراء اليمين المتطرف. وقد أدى صعود هذا التيار في جميع أنحاء القارة إلى انقسامات حادة بين الدول الأوروبية، بل وحتى داخل كل دولة على حدة. واليوم، يستغل فريق ترامب هذه الانقسامات العميقة لصالحه، مما أدى إلى تحوّل هذا الاستقطاب الأيديولوجي داخل أوروبا إلى صراع ثقافي وأيديولوجي بينها وبين الولايات المتحدة.
لم تتردد الولايات المتحدة في التدخل بشكل مباشر في الانتخابات الألمانية، حيث قام نائب الرئيس الأمريكي فانس، ورجل الأعمال إيلون ماسك، وحتى ترامب نفسه، بتقديم دعم مباشر لحزب البديل من أجل ألمانيا. وكانت النتيجة أن ضاعف الحزب حصته من الأصوات، ليصبح الحزب المعارض الرئيسي في البلاد. واعتبر فريق ترامب هذا النجاح نتيجة مباشرة لدعمه، مما دفعه إلى تعزيز دعمه لأحزاب يمينية مماثلة في دول أوروبية أخرى.
وكلما ازداد تدخل الولايات المتحدة في تعزيز الاستقطاب داخل أوروبا، زاد عمق هذه الانقسامات. وإذا لم تسارع الأحزاب السياسية المركزية في أوروبا إلى مواجهة تداعيات السياسات الشعبوية واتخاذ العبر من التجربة، فقد يكون مشروع الاتحاد الأوروبي ذاته في خطر، خصوصًا أن الأحزاب اليمينية المتطرفة تعمل منذ سنوات على الترويج لفكرة انهيار مشروع الاتحاد الأوروبي.
إحدى القضايا الأكثر نقاشًا مؤخرًا في أوروبا هي ضرورة تشكيل سياسة أمنية مستقلة بعيدًا عن الاعتماد على الولايات المتحدة. بات يُنظر إلى الصناعات الدفاعية التركية، وثقلها داخل الناتو، ودورها في حل القضايا العالمية، ومساهمتها في استقرار شرق المتوسط والشرق الأوسط والبلقان، بشكل أكثر عقلانية مقارنةً بالخطابات الشعبوية السابقة. وباتت أوروبا تدرك – ولو متأخرًا – نتائج السياسة الخارجية التركية متعددة الأبعاد والمستويات التي كانت أنقرة تعمل على تطويرها منذ سنوات.
في ظل تصاعد حالة عدم اليقين والمنافسة العالمية المتزايدة أصبحت الدول تدرك أن عليها إعادة النظر في سياساتها الخارجية لتقليل الخسائر في هذا النظام العالمي الجديد. وكانت تركيا من أوائل الدول التي استعدت للتحولات الكبرى في العالم متعدد الأقطاب. وحينما يقول أردوغان إن “انضمام تركيا الكامل إلى الاتحاد الأوروبي هو ما سيُنقذ أوروبا”، فهو يتحدث بثقة مستندًا إلى سياسة تركيا الخارجية المستقلة وثقلها الجيوسياسي المتزايد.
لم تعد الحاجة إلى التقارب مع تركيا مقتصرة على الجانب الأمني فقط، بل تمتد إلى الاقتصاد وخطوط الطاقة وطرق التجارة والاستثمارات التكنولوجية، فضلًا عن امتلاك تركيا شريحة سكانية شابة وديناميكية واقتصادًا متناميًا. لذلك، فإن أوروبا من منطلق مصالحها الإستراتيجية البحتة تجد نفسها مضطرة إلى تعزيز علاقتها مع تركيا.
من سيحمي أوروبا من الولايات المتحدة؟
اهتزّ جدول الأعمال العالمي بسبب ما جرى خلال لقاء ترامب-زيلينسكي في البيت الأبيض. فالمعاملة التي تلقاها الرئيس الأوكراني في واشنطن ستظل موضع جدل طويل في الأوساط الدبلوماسية الدولية. يرى ترامب أنه فرض هيمنته على السياسة الداخلية الأمريكية بإخضاع رجال الأعمال والإعلام والبيروقراطية وحتى المشهد السياسي برمّته.
وليس لديه مشكلة مع من يبدّلون مواقفهم ويدعمونه، لكنه لا يتوانى عن التخلص سريعًا ممن لا يساندونه. أما أولئك الذين لا يريدون هدم الترتيبات القائمة في عالم السياسة والأعمال، فقد آثروا الصمت، لأن أي انتقاد له يعني تصنيفهم فورًا ضمن “معسكر الأعداء”.
خلال الشهر الأول من ولايته، لاحظ ترامب أن أسلوبه الإداري هذا يحقق نتائج. فهو يدرك أن إظهار أسوأ السيناريوهات يجعل الآخرين يقبلون بما هو أقل حدة، كما أن استغلال السلطة إلى أقصى الحدود يحقق مكاسب. ولم يقتصر نهجه الصدامي وغير المنضبط على الداخل الأمريكي، بل وسّعه ليشمل الساحة الدولية. باستثناء إسرائيل، تعامل ترامب بقسوة مع جميع القادة الذين استقبلهم في البيت الأبيض حتى الآن.
يعتمد ترامب على مشاهد معدّة مسبقًا لإضعاف مقاومة ضيوفه ثم يطرح مطالبه دون أن يسمح بأي اعتراض. ولا يهمّه إن كان الطرف المقابل حليفًا أم خصمًا فهو يريد توسيع نفوذه العالمي من خلال مواقف متطرفة وسياسات الضغط والتهديد.
ومع أن الإدارة الأمريكية السابقة هي التي دفعت أوكرانيا نحو الحرب، بل وحثّتها على مغادرة طاولة المفاوضات، إلا أن ترامب اليوم يتهم الرئيس الأوكراني زيلينسكي بالسعي لإشعال حرب عالمية ثالثة بل إنه يجلس على طاولة المفاوضات نيابة عن أوكرانيا، وينقل أطروحات روسيا ضدها.
علاوة على ذلك، يطالب ترامب أوكرانيا بمنحه المعادن الأرضية النادرة الموجودة على أراضيها مقابل المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة. لقد دُعي زيلينسكي إلى واشنطن بغرض نقل ثروات أوكرانيا المعدنية إلى أمريكا، لكن حتى بالإعلان عن توقيع الاتفاق، لم يتم ذلك بسبب توبيخ ترامب له علنًا أمام الإعلام، وكأن ترامب يقول له: “يجب أن تتأدب أكثر، وستأتي بنفسك لاحقًا لتوقيع الاتفاق”.
إذا تمكن ترامب من فرض إرادته في ملف أوكرانيا، فسوف تصبح يده أكثر طلاقة في القضايا العالمية الأخرى. ونجاحه في ذلك قد يدفع زيلينسكي إلى العودة إلى البيت الأبيض خلال أسابيع، هذه المرة لتنفيذ ما يطلبه ترامب، وهو ما سيكون انتصارًا كبيرًا للرئيس الأمريكي مما سيشجّعه على تبني سياسات أكثر تشددًا.
لكن إذا تمكنت أوروبا من تجاوز خلافاتها وبلورة سياسة مستقلة تجاه مستقبل أوكرانيا، فقد يضطر ترامب إلى إعادة النظر في استراتيجيته وحساب جدوى هذا الأسلوب. إن تشكيل أوروبا لجبهة مقاومة قد يعجّل بإعادة ترتيب موازين القوى في عالم متعدد الأقطاب. فمع وجود رئيس أمريكي يعامل حتى حلفاءه بازدراء، قد تجد روسيا والصين فرصًا أسهل للوصول إلى الدول التي تبتعد عن الغرب، بل وقد تحققان تقدمًا سريعًا في تعميق علاقاتهما مع تلك الدول.
أما إذا فشلت أوروبا في التوصل إلى موقف موحد بشأن أوكرانيا، فقد يزداد انقسامها الداخلي. وقبل أسابيع قليلة، كانت أوروبا تناقش كيف يمكنها تأمين نفسها دون الاعتماد على المساعدات الأمريكية. أما الآن، فهي تبحث كيفية حماية نفسها من الولايات المتحدة ذاتها. تُرى، ماذا ستناقش في الأسابيع القادمة؟
المصدر: كريتر