ترجمة وتحرير نون بوست
مع تأثير العولمة، يشهد حجم التجارة العالمية نموًا متسارعًا، ففي عام 1990، بلغ حجم التجارة نحو 3 تريليونات دولار وارتفع إلى 14 تريليون دولار في 2007 ليصل اليوم إلى 33 تريليون دولار. وبالتوازي مع هذا النمو، يزداد حجم السلع المنقولة سنويًا حيث يُقدَّر حاليًا بنحو 12 مليار طن.
ومن المتوقع أن يرتفع إلى 25 مليار طن بحلول عام 2030، ويبلغ 95 مليار طن بحلول عام 2050. يبرز هذا التوسع في التجارة العالمية أهمية سلاسل التوريد التي تربط بين مراكز الإنتاج والاستهلاك، ليصبح بذلك عاملًا رئيسيًا في تحديد ملامح المنافسة بين الدول.
تلعب تركيا دورًا حيويًا في هذه الديناميكيات بفضل موقعها الاستراتيجي بين آسيا وأوروبا، فهي تقع في قلب تجارة سنوية تُقدَّر بنحو 760 مليار دولار، وتتموضع في وسط 67 دولة ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي نحو 51.2 تريليون دولار، وحجم تجارتها 25.1 تريليون دولار.
ومن هذا المنطلق، تستثمر تركيا بكثافة في قطاعي اللوجستيات والتجارة لتعزيز مكانتها كمركز لوجستي عالمي والاستفادة القصوى من النمو المستمر في حجم التجارة الدولية.
الاستثمار في السكك الحديدية ومساهماته الاقتصادية
يعدّ ضمان كفاءة واستدامة طرق التجارة عاملًا أساسيًا في تمكين الدول من الحصول على حصة أكبر من التجارة العالمية، مما يدفعها إلى تعزيز بنيتها التحتية في مجال النقل وتقليل تكاليف اللوجستيات بهدف تعزيز ميزاتها التنافسية.
استثمرت تركيا مؤخرًا نحو 280 مليار دولار في قطاع البنية التحتية للنقل، خُصِّص منها حوالي 60 مليار دولار لتطوير قطاع السكك الحديدية. وشهدت هذه الفترة إنشاء شبكة للقطارات عالية السرعة بطول 2,251 كيلومترًا، تضمنت خطوط أنقرة-إسطنبول، أنقرة-قونية، أنقرة-سيفاس، وقونية-كارامان. وبهذا أصبحت تركيا سادس أكبر مشغل للقطارات عالية السرعة في أوروبا والثامن على مستوى العالم.
وصل إجمالي طول السكك الحديدية في تركيا إلى 13,919 كيلومترًا، بينما ارتفعت نسبة الخطوط المزدوجة إلى 17%، وبلغ طول الخطوط المزودة بأنظمة الإشارات 8,046 كيلومترًا، في حين وصلت الخطوط المكهربة إلى 7,242 كيلومترًا.
كما شهدت هذه الفترة تغييرات جذرية في مجال النقل واللوجستيات، حيث تم إنشاء 12 مركزًا لوجستيًا في جميع أنحاء البلاد، وربط المراكز الصناعية الكبرى والمناطق الصناعية المنظمة بشبكة السكك الحديدية عبر خطوط اتصال خاصة. وبفضل هذه الاستثمارات والتدابير المتخذة، ارتفع حجم البضائع المنقولة سنويًا من 14 مليون طن إلى 33 مليون طن.
يساهم النقل بالسكك الحديدية في النمو الاقتصادي للدول بشكل مباشر وغير مباشر، حيث تتمثل التأثيرات المباشرة في العائدات الناتجة عن نقل البضائع والركاب، بالإضافة إلى الرواتب التي تُدفع للعاملين في هذا القطاع، مما يسهم في استمرار الدورة الاقتصادية.
أما التأثيرات غير المباشرة، فهي تمتد إلى نطاق أوسع حيث يساعد خفض تكاليف اللوجستيات على وصول المنتجات إلى المستهلكين بأسعار أكثر تنافسية. كما يمنح النقل بالسكك الحديدية ميزة تنافسية للشركات عبر تقديم تكلفة أقل للمسافات الطويلة، إضافةً إلى دوره في تحقيق الاستدامة البيئية من خلال تقليل استهلاك الطاقة وخفض انبعاثات الكربون.
كما يسهم في تسريع حركة التجارة بفضل قدرته على نقل الأحمال الثقيلة بكفاءة، وتعزيز التكامل مع الشبكات التجارية العالمية من خلال الروابط الدولية. وبالتالي، لا يدعم تطور قطاع السكك الحديدية الأنشطة التجارية فحسب، بل يساهم أيضًا في زيادة الإنتاج والاستهلاك، مما يوفر قاعدة قوية للنمو الاقتصادي.
وفقًا للتحليلات، فإن زيادة الاستثمار في السكك الحديدية بنسبة 1% ترفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.05% على المدى القصير، بينما تصل هذه الزيادة إلى 0.29% على المدى الطويل. وهذا يعني أن السكك الحديدية ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي استثمار استراتيجي يساهم في تحفيز النمو الاقتصادي. وعبر تأثيراتها غير المباشرة، تخلق استثمارات السكك الحديدية آثارًا أكثر استدامة وأوسع نطاقًا على المدى الطويل.
رغم هذه الميزات، تشير البيانات إلى أن النقل بالسكك الحديدية شكّل فقط 0.7% من إجمالي الصادرات التركية البالغة 271.4 مليار دولار في عام 2023. في المقابل، استحوذ النقل البحري على 56%، والنقل البري على 32.5%، والنقل الجوي على 9.9%. أما في الواردات، فقد تم نقل 0.55% فقط من إجمالي 361.7 مليار دولار عبر السكك الحديدية. تعكس هذه الأرقام الحاجة الملحة إلى تعزيز البنية التحتية للسكك الحديدية في تركيا وزيادة حصتها في قطاع النقل.
تعزيز البنية التحتية للسكك الحديدية في ممرات النقل التي تمر عبر تركيا، وتوسيع نطاق المراكز اللوجستية، وتكامل خدمات النقل لتطوير نظام الشحن المتعدد الوسائط، هو من بين الأولويات الاستراتيجية للبلاد.
تهدف هذه الاستثمارات إلى دعم شبكات التوزيع اللوجستية التي تعزز سلاسل التوريد، وربط الأسواق الكبرى بطريقة أسرع وأكثر كفاءة. ويتم تنفيذ هذه المشاريع بما يتماشى مع التوجهات العالمية في مجالات التحضر، والاستدامة، والحفاظ على البيئة.
ممرات السكك الحديدية الرئيسية العابرة لتركيا
شهدت طرق النقل البحري بين آسيا وأوروبا في الآونة الأخيرة العديد من الاضطرابات بسبب الانقطاعات في سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كوفيد-19 وارتفاع التكاليف والتوترات السياسية الإقليمية. وقد دفعت هذه العوامل الدول الأوروبية إلى البحث عن طرق نقل بديلة.
وفي هذا السياق، برز النقل بالسكك الحديدية كحل مهم يجمع بين المزايا الاقتصادية للنقل البحري وسرعة النقل الجوي. مع ذلك، فإن 96 % من إجمالي التجارة السنوية بين آسيا وأوروبا، والتي تبلغ قيمتها 760 مليار دولار، تتم عبر النقل البحري، في حين لا تتجاوز حصة السكك الحديدية 4% فقط.
هناك ثلاثة ممرات رئيسية تربط أوروبا بالصين: الممر الشمالي، الممر الأوسط، والممر الجنوبي. يمر الممر الشمالي عبر روسيا وصولًا إلى أوروبا، بينما يعتمد الممر الجنوبي بشكل أساسي على النقل البحري. أما الممر الأوسط، الذي يمر عبر تركيا، فقد أصبح بسرعة طريقًا استراتيجيًا يكتسب أهمية متزايدة في مجال النقل والتجارة.
الممر الأوسط: أقصر طريق بين آسيا وأوروبا
يبلغ طول الممر الأوسط 7,000 كيلومتر، وتستغرق عمليات النقل عبره ما بين 10 إلى 15 يومًا، وهي مدة أقصر بكثير مقارنةً بالممر الشمالي، الذي يستغرق بين 15 و20 يومًا، والممر الجنوبي، الذي قد يمتد إلى 45-60 يومًا. لهذا السبب، يتمتع الممر الأوسط بميزة كبيرة في شبكات اللوجستيات العالمية من حيث تقليل مدة النقل، مما يجعله خيارًا جذابًا للتجارة بين آسيا وأوروبا.
خريطة رقم 1: ممرات النقل بين آسيا وأوروبا
تتراوح تكلفة نقل الحاوية عبر الممر الأوسط بين 3,500 و4,500 دولار، بينما تبلغ التكلفة في الممر الشمالي ما بين 2,800 و3,200 دولار، أما في الممر الجنوبي فهي أقل بكثير حيث تتراوح بين 1,500 و2,000 دولار. بحلول عام 2022، تم نقل 1.1 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدمًا (TEU) عبر الممر الشمالي، بينما لم يتجاوز حجم الشحن عبر الممر الأوسط 33.6 ألف وحدة مكافئة.
وفي عام 2023، ارتفع حجم النقل عبر الممر الشمالي إلى 1.9 مليون وحدة، بينما سجل الممر الأوسط 20.2 ألف وحدة فقط. تعكس هذه الأرقام الفجوة الكبيرة بين الممر الأوسط والممر الشمالي من حيث حجم الشحن، إلا أن التطورات الإقليمية توفر بيئة مواتية لزيادة حصة الممر الأوسط في حركة النقل.
لتحقيق هذا الهدف، يجب تعزيز الاستثمارات في البنية التحتية على طول الممر الأوسط، وتبسيط الإجراءات الجمركية، ومعالجة أوجه القصور في قطاع الخدمات اللوجستية. من المتوقع أن تتضاعف القدرة الاستيعابية للممر الأوسط ثلاث مرات بحلول عام 2030، لتصل إلى 11 مليون طن، حيث سيتشكل نحو 4 ملايين طن منها لتلبية الطلب على نقل الحاويات بين الصين وأوروبا. وهذا يعني أن 30 % من إجمالي 5,000 قطار بضائع تعبر الممر الشمالي سنويًا ستنتقل إلى الممر الأوسط.
تعمل تركيا على تسريع تطوير الممر الأوسط وتحقيق هذه الأهداف من خلال تشجيع دول الممر على زيادة الاستثمارات في البنية التحتية واتخاذ تدابير تنظيمية تقلل من أوقات العبور. كما أن اتفاقيات التعاون بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون التركي، وخاصة الاتفاقيات الموقعة بين أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وتركيا، إلى جانب “إعلان طشقند”، ستساهم بشكل كبير في تسريع هذه العملية. وسيعتمد نجاح الممر الأوسط في المستقبل على التعاون الإقليمي والتطورات في البنية التحتية، مما سيجعله جزءًا مهمًا من التجارة العالمية.
خط باكو-تبليسي-قارس: مفتاح الممر الأوسط ودور تركيا المحوري
يُعد خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارس (BTK) امتدادًا استراتيجيًا للممر الأوسط، حيث يربط أذربيجان بتركيا عبر جورجيا، مما يتيح نقل البضائع القادمة من الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا بسرعة وأمان وبتكلفة أقل. تم تشغيل الخط في عام 2017، ويمتد على مسافة 757 كيلومترًا، منها 429 كيلومترًا داخل أذربيجان، و220 كيلومترًا عبر جورجيا، و79 كيلومترًا داخل تركيا. ومن المتوقع أن يصل حجم الشحن عبر هذا الخط إلى 6.5 مليون طن سنويًا على المدى المتوسط، مما يعزز دور تركيا كمحور عبور رئيسي ويخفض التكاليف اللوجستية.
تشمل المشاريع الداعمة لخط باكو-تبليسي-قارس داخل تركيا كلاً من مشروع مرمراي، وخط سكة حديد حلقلي-كابيكولي، وتحديث خط سكة حديد ديفريغي-قارس. بالإضافة إلى ذلك، فإن مشروع “غبزة-جسر يافوز سلطان سليم-مطار إسطنبول”، الذي سيوفر معبرًا جديدًا عبر مضيق البوسفور، يعد من المشاريع المهمة التي ستعزز دور تركيا في الممر الأوسط.
ممر زنغزور: الخط الاستراتيجي الذي يربط العالم التركي
ممر زنغزور هو مشروع يمتد من باكو إلى قارص، ويوفر تجارة ومواصلات غير منقطعة بين آسيا وأوروبا، كما يُكامل العالم التركي لوجستيًا واقتصاديًا. سيعزز هذا الممر طرق التجارة وأمن الطاقة وسيشكل مسارًا بديلًا لأوروبا في إطار مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. بالإضافة إلى ذلك، سيربط مشروع السكك الحديدية التركي (قارص-إغدير-آراليك-ديلوجو) تركيا بآذربيجان وإيران وآسيا الوسطى عبر نخجوان، مما يعزز التكامل الإقليمي. ستعزز هذه المشاريع القدرات اللوجستية لتركيا مما يمكنها من اكتساب موقع أقوى في التجارة العالمية.
مشروع طريق التنمية: نقل متواصل من البصرة إلى أوروبا
بينما 90% من التجارة العالمية منقولة بحرا، فإن 96% من التجارة بين آسيا وأوروبا تعتمد على الطرق البحرية. وتلعب قناة السويس دورًا حاسمًا في هذه التجارة: ففي عام 2022، نقلت القناة 1.27 مليار طن من البضائع مما يمثل 12-15% من التجارة العالمية، ووفر لمصر عائدات سنوية تبلغ 10 مليارات دولار. ومع ذلك، فإن المشكلات المتكررة في القناة تزيد من البحث عن مسارات بديلة.
في هذا الإطار، يبرز مشروع “طريق التنمية”، الذي يهدف إلى تحويل تركيا إلى مركز لوجستي بين آسيا وأوروبا. يمتد هذا الممر لمسافة 6,314 كيلومترًا، ويصل بين ميناء الفاو في العراق وأوروبا عبر تركيا مما يقلص أوقات النقل بشكل كبير. ومن المتوقع أن يحقق المشروع عائدات سنوية تبلغ 3.7 مليار يورو ويوفر 100 ألف فرصة عمل مع قدرة استيعابية تصل إلى 4.7 مليون حاوية مكافئة (TEU).
خريطة رقم 2: ممر طريق التنمية
سيتم بناء 727 كيلومترًا من خطوط السكك الحديدية الجديدة في تركيا ضمن نطاق المشروع. ستشمل هذه الخطوط مسار أوفاكوي-ماردين-شانلي أورفة-غازي عنتاب، وسيتم دمجها مع خط السكك الحديدية السريع مرسين-أضنة-غازي عنتاب. كما سيتم إنشاء خط سكك حديدية جديد يمتد من غبزة إلى جسر يافوز سلطان سليم ثم إلى تشاتالجا، وذلك لتخفيف الحمل على مشروع مرمراي. وسيتم دمج “طريق التنمية” مع خط سكك حديدية حلقلي-كابيكولي المخطط اكتماله بحلول عام 2025.
سيُسهم هذا المشروع في تحديث البنية التحتية اللوجستية لتركيا مما يخفض تكاليف التجارة ويُقلص أوقات النقل ويعود بفوائد اقتصادية كبيرة على المنطقة. يُعد “طريق التنمية” مبادرة استراتيجية تعزز اندماج تركيا في شبكة التجارة العالمية.
تحتل تركيا موقعًا استراتيجيًا كجسر بين آسيا وأوروبا وهي نقطة محورية في سلاسل التوريد العالمية. تعزز تركيا مزاياها الجيوسياسية من خلال استثمارات في البنية التحتية للنقل، وتواصل تحديث خطوط السكك الحديدية والموانئ والمراكز اللوجستية بوتيرة سريعة.
لكن تحقيق هذا الهدف لا يقتصر على الاستثمارات التحتية فحسب، بل يشمل أيضًا التكامل الإقليمي والتعاون الدولي الذي يلعب دورًا حاسمًا. في بيئة التجارة العالمية التنافسية، يعد تبسيط الإجراءات الجمركية والتحول الرقمي للعمليات اللوجستية ومواءمة المعايير الفنية من الركائز الأساسية لرؤية تركيا.
لا تسعى تركيا عبر طرق التجارة الجديدة الممتدة من الصين إلى أوروبا لأن تكون دولة عبور فحسب، بل مركزًا يخلق قيمة مضافة. هذه الرؤية الاستراتيجية، مدعومة بحلول مستدامة ستدمج تركيا في الشبكة اللوجستية العالمية مع تعزيز الروابط الاقتصادية الإقليمية والعالمية.
المصدر: كريتر