منذ فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول، بعد 25 عامًا في عهدة حزب العدالة والتنمية، بدأت المقارنات بينه وبين الرئيس رجب طيب أردوغان تفرض نفسها على الساحة السياسية التركية. ولم يكن هذا التشبيه اعتباطيًا، فقد جاء إمام أوغلو إلى البلدية من خارج الحزب الحاكم تمامًا كما فعل أردوغان قبل أكثر من عقدين، وها هو الآن يمر بتجربة السجن، ليصبح الربط بينهما، في نظر كثيرين، أكثر من مجرد مصادفة سياسية.
لكن هذه المقارنة التي فرضتها الظروف، وإن بدت منطقية من بعيد، إلا أنها تحمل في تفاصيلها فروقًا جوهرية تكاد تجعلها مقارنة مضللة إذا تمعنا جيدًا في أسباب وظروف الاعتقال، والمسار السياسي لكل منهما، إضافة إلى الخدمات التي قدماها لسكان أكبر مدينة تركيا خلال 5 سنوات من ترأس كلّ منهما لبلدية إسطنبول الكبرى، وقدرته على إحداث فارق وأثر.
إسطنبول بوابة السياسة التركية
لفهم هذه الفروق بشكل أفضل، لا بد من العودة إلى نقطة الانطلاق لكل منهما: رئاسة بلدية إسطنبول، فقد انتُخب رجب طيب أردوغان في عام 1994 رئيسًا لبلدية إسطنبول، ممثلًا عن حزب الرفاه الإسلامي. وجاء انتخابه في فترة كانت تعاني فيها إسطنبول من مشكلات خدمية كبيرة، بما في ذلك تلوث الهواء ونقص المياه والازدحام المروري. ركز أردوغان خلال فترة رئاسته على تحسين البنية التحتية للمدينة، فعمل على تطوير شبكات المياه والصرف الصحي، وتحسين نظام المواصلات العامة، مما ساهم في تخفيف حدة المشكلات التي كانت تعاني منها المدينة بشكل لافت، الأمر الذي عزز من شعبيته ومهد الطريق أمام صعوده السياسي لاحقًا.
أما أكرم إمام أوغلو فقد برز اسمه من خلال عمله كرئيس لبلدية بيليك دوزو، حيث حقق نجاحات ملموسة في تطوير المنطقة وتحسين خدماتها. وقد رفعت هذه التجربة الناجحة من أسهمه السياسية، إذ جرى ترشيحه من حزب الشعب الجمهوري لانتخابات رئاسة بلدية إسطنبول في انتخابات 2019، والتي فاز فيها على منافسه القوي مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم في جولتين انتخابيتين بعد شكاوى بتزوير في الأصوات في الجولة الأولى.
وجاء فوزه في تلك الانتخابات نتيجة لرغبة شعبية قوية في التغيير بعد 25 عامًا من إدارة العدالة والتنمية للمدينة، إضافة لمشاكل اللاجئين المتفاقمة والأزمة الاقتصادية التي بدأت تعصف بالبلاد، كما لعب دعم الأحزاب الكردية لإمام أوغلو دورًا مهمًا في تعزيز فرصه الانتخابية.
لكن فيما بعد، يبدو أن اسطنبول لم تحظَ باهتمام إمام أوغلو كما كان الحال في بيليك دوزو، إذ تكرّر غياب أكرم إمام أوغلو عن المدينة خلال أزمات كبرى مرت بها، وأثناء عاصفة الثلوج القاسية في يناير/كانون الثاني 2022 التي شلّت الحركة تمامًا في مناطق كثيرة من إسطنبول، انتشرت له صورًا أثناء وجوده في مطعم فاخر ما أثار غضبًا شعبيًا واسعًا، وألحق ضررًا كبيرًا بصورته لدى الرأي العام.
وعلى مستوى النقل العام، ازدادت معاناة سكان المدينة مع ارتفاع نسبة أعطال حافلات البلدية وتكرار حوادث خط الميتروباص، إضافة إلى شكاوى مستمرة من سوء صيانة المركبات وتكييفها.
أما ملف النظافة وإدارة النفايات فشهد تدهورًا ملحوظًا، ما أعاد إلى الأذهان صورة اسطنبول في بداية التسعينات (ما قبل أردوغان)، خاصة خلال إضراب عمال النظافة في مالتيبه عام 2021.
السجن بين السياسة والقضاء
وعلاوة على الانتقادات التي واجهها في إدارة المدينة، كانت طموحات إمام أوغلو السياسية سببًا آخر في إثارة الجدل حوله، إذ برز اسم إمام أوغلو كواحد من أبرز الشخصيات السياسية المعارضة، منذ انتخابه رئيسًا لبلدية إسطنبول عام 2019، وأثار طموحه السياسي نقاشًا كبيرًا داخل حزب الشعب الجمهوري نفسه، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية عام 2023، شهد الحزب خلافات حادة حول اسم المرشح الذي يمكنه منافسة أردوغان، حيث طرح اسم إمام أوغلو إلى جانب رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، إلا أن زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو تمسك بترشيح نفسه، ما أدى لانقسامات وتوترات حادة داخل تحالف المعارضة.
خلال هذه المرحلة، اتُهم إمام أوغلو من قبل خصومه داخل الحزب وخارجه بأن إهماله في إدارة شؤون إسطنبول كان نتيجة لتركيزه الشديد على تحقيق طموحه في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، خاصةً وأنه لم يخفِ رغبته هذه في عدة مناسبات، وقد تكررت هذه الاتهامات في الإعلام التركي من قبل سياسيين معارضين، معتبرين أن إسطنبول تدفع ثمن طموحات رئيس بلديتها السياسية.
وفيما كان حزب الشعب الجمهوري يتهيأ لتقديم أكرم إمام أوغلو كمرشحهم المنافس لانتخابات 2028 الرئاسية، برزت قضية التدقيق في وثائق إمام أوغلو الجامعية، فيما بدا كمكيدة سياسية من خصومه، والتي انتهت بقرار جامعة اسطنبول إلغاء شهادته الجامعية، ما يعني انعدام فرصته في القدرة على الترشح للانتخابات الرئاسية بشهادته الثانوية.
ولكن لم يكن موضوع الشهادة الجامعية سوى البداية، ففي صباح الأربعاء 19 مارس/آذار 2025، تم اعتقال أكرم إمام أوغلو بتهم تتعلق بالفساد المالي والتورط مع منظمة إرهابية، بعدما كشفت تحقيقات عن شبهات فساد في بلدية إسطنبول وظهور أدلة مصورة تشير إلى تداول أموال مجهولة المصدر داخل أحد مقار حزب الشعب الجمهوري في المدينة، كما وُجهت إليه اتهامات بإساءة استغلال السلطة وتسهيل وصول أشخاص مرتبطين بتنظيمات محظورة لمناصب داخل البلدية.
شهدت إسطنبول على إثر هذا الاعتقال احتجاجات واسعة وأعمال عنف ضد رجال الشرطة وجرى توقيف مئات الأشخاص وعشرات الإعلاميين والمتورطين، إلا أنه في 26 مارس/آذار وبعد أيام قليلة من قرار الاعتقال أعلن رئيس الحزب الجمهوري أوزغور أوزال توقف المظاهرات الليلة واستئناف الاحتجاجات بأشكال أخرى، ويرجع البعض هذا القرار إلى المنحى الخطير الذي انزلقت إليه الأحداث بعد اعتداء مجموعة من المتظاهرين على جامع شاه زاده الموجود مقابل مبنى بلدية اسطنبول، وأيضًا إلى الخلافات داخل الحزب الجمهوري نفسه.
وتشير التقارير إلى أن المنافسات الشخصية والطموحات السياسية الداخلية ربما ساهمت في تسريب الوثائق التي أوصلت إمام أوغلو إلى السجن، ويبدو الحزب حريصًا على استثمار هذه الأزمة سياسيًا لصالحه، لا لصالح إمام أوغلو نفسه بالضرورة، وفي هذا السياق، قال رئيس الحزب الجمهوري أوزغور أوزال:
“إذا لم يكن من الممكن ترشيح إمام أوغلو رسميًا، فسيظهر شخص آخر كمرشح، لا يهم من يكون بديل إمام أوغلو، فهو سيفوز بالانتخابات باسم أكرم إمام أوغلو.”
بهذه الكلمات، يعكس أوزال حرص الحزب على استغلال رمزية اعتقال إمام أوغلو سياسيًا في الانتخابات المقبلة، أكثر من حرصه على شخص إمام أوغلو ذاته.
قراءة في الاختلافات الجوهرية بين التجربتين
وبالعودة إلى الماضي قليلًا، تبدو قضية الاعتقال التي يمر بها إمام أوغلو مختلفة جذريًا عن تجربة أردوغان السابقة، رغم ما قد يظهر من تشابه ظاهري، ففي قضية أردوغان عام 1999، فقد صدر بحقه حكم بالسجن لمدة أربعة أشهر بسبب تلاوته أبياتًا شعرية اعتُبرت “تحريضًا على الكراهية الدينية”.
ورغم أن هذا الحكم منعه قانونيًا من ممارسة العمل السياسي، إلا أن أردوغان نجح في استثمار هذه الأزمة سياسيًا، حيث أصبح رمزًا شعبيًا للمظلومية السياسية في تركيا، وبعد الإفراج عنه، أسس حزب العدالة والتنمية عام 2001، واستطاع الحزب الجديد الفوز في الانتخابات البرلمانية عام 2002، ما فتح الطريق أمامه لتعديل القوانين وعودته للحياة السياسية ومن ثم تولي منصب رئاسة الوزراء عام 2003.
لقد كان وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا جزءًا من محاولات مستمرة وطويلة من الإسلاميين والمحافظين لاختراق المشهد السياسي التركي، وقد نجح أردوغان في ذلك نتيجة أسباب كثيرة من أبرزها أدائه المتميز كرئيس لبلدية إسطنبول.
أما أكرم إمام أوغلو، فقد برز في المشهد نتيجةً لعوامل مختلفة تمامًا، أبرزها المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي كانت تعصف بالبلاد وتذمر الشعب من السياسة الاقتصادية للحزب الحاكم، ورغبة الناخبين في إحداث تغيير سياسي. في الواقع، فإن فوز إمام أوغلو لم يكن نتيجة قوته الشخصية بقدر ما كان نتيجة انزعاج الناخبين من حزب العدالة والتنمية ورغبتهم في معاقبته، بالإضافة إلى نجاح تحالف المعارضة الواسع، وخاصةً تحالف حزب الشعب الجمهوري مع الأحزاب الكردية، في حشد الأصوات ضد مرشح الحزب الحاكم.
تكشف نتائج الانتخابات البلدية عام 2023، التي تزامنت مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، عن مفارقة لافتة؛ فقد صوّت جزء كبير من الناخبين لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بينما صوّتوا لمرشحي المعارضة في الانتخابات البلدية، خاصة في المدن الكبرى كإسطنبول.
وتظهر الإحصاءات والأرقام بوضوح أن إمام أوغلو لم يحصل فعليًا على تأييد من قاعدة حزب العدالة والتنمية الانتخابية، وأن الأصوات التي خسرها الحزب لم تذهب لصالح مرشح الحزب الجمهوري، وهو ما يعكس حالة من العزوف أو الاحتجاج الصامت، أكثر مما يعكس تحولًا حقيقيًا في توجهاتهم السياسية.
يُعرف عن الشعب التركي تفاعله العاطفي مع قضايا “المظلومية السياسية”، ما يمنح أي شخصية تتعرض للظلم مساحة واسعة للتعاطف الشعبي. وفي حالة إمام أوغلو، فإن مصيره بات في يد السلطة القضائية، التي فضلت التريث حتى استكمال ملف اتهام مدعوم بالأدلة والشهود.
لكن إن فشل الادعاء في إثبات التهم، فقد يتحول إمام أوغلو إلى رمز سياسي مستفيد من الأزمة، ويجد نفسه أمام فرصة تاريخية لتوظيف المظلومية لصالحه.
لماذا المقارنة بين الرجلين مضللة؟
في المحصلة، تبدو المقارنة بين تجربة رجب طيب أردوغان وأكرم إمام أوغلو أقرب إلى التضليل منها إلى الحقيقة، رغم تشابه بعض الظروف السطحية مثل البداية السياسية من رئاسة بلدية إسطنبول وتجربة الاعتقال. فالتجربتان مختلفتان بشكل جوهري، ليس فقط في سياقهما التاريخي والسياسي، وإنما أيضًا في العمق الشعبي والظروف المحيطة بكل منهما.
فرجب طيب أردوغان جاء في فترة كانت فيها إسطنبول تعاني بشكل واضح من مشاكل خدمية جسيمة وأثبت جدارته في إصلاحها، كما أنه كان يمثل تيارًا سياسيًا واجتماعيًا واسعًا تم تهميشه وقمعه سياسيًا لعقود، مما جعل من صعوده تجربة شعبية حقيقية وتحوّلًا تاريخيًا في المشهد السياسي التركي.
على النقيض من ذلك، فإن وصول أكرم إمام أوغلو لرئاسة بلدية إسطنبول، رغم ما صاحبه من آمال التغيير، كان بالدرجة الأولى تعبيرًا عن احتجاج شعبي على الظروف الاقتصادية وتذمرًا من الحزب الحاكم أكثر من كونه تعبيرًا عن فئة اجتماعية أو سياسية مضطهدة أو مغيبة، ولم يعكس في الواقع ثقة الناخبين بأحزاب المعارضة، كما أن أداءه في إدارة البلدية لم يكن بالمستوى الذي يبرر مقارنته بأداء أردوغان.
وحتى في تجربته القضائية، ورغم محاولاته المستمرة الظهور بمظهر المناضل السياسي، فإن التحديات القانونية التي تواجهه تختلف جذريًا عن تلك التي واجهها أردوغان سابقًا، فتهمة إلقاء أبيات شعرية تختلف تمامًا عن تهم الفساد والتزوير والإرهاب، إنهما تجربتان مختلفتان تمامًا في الجوهر والخلفية والمسار.. وسنرى بخصوص النتائج.