“الخرطوم حرّة الآن، الأمر انتهى” هكذا أعلن رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، استعادة الخرطوم من قبضة مليشيا الدعم السريع، يوم الأربعاء 26 آذار/ مارس 2025، الذي وافق الـ26 من رمضان عام 1446 هـ.
عمّت الفرحة كل السودانيين في الخارج والداخل، إذ استيقظ الكل على وقع أنباء التقدّم المتسارع للجيش، وانهيار المليشيا منذ الساعات الأولى من صباح الأربعاء الأغر.
وكانت الفرحة مضاعفة وسط المواطنين الذين رفضوا ترك بيوتهم ومغادرة الخرطوم طيلة العامين الماضيين، وقرّروا مواصلة العيش تحت أزيز الرصاص، واحتمالات الموت الكبيرة في ظلّ احتلال الدعم السريع، حيث لا قانون، ولا دولة، ولا حتى أبسط الخدمات الأساسية.
ولأواخر رمضان ذكريات مؤلمة مع سكان الخرطوم، فقد استيقظوا صبيحة يوم 25 رمضان 2023، على وقع الرصاص وقذائف المدفعية، ثم ما لبثت مليشيا الدعم السريع أن أطبقت سيطرتها على معظم العاصمة، عدا مناطق قليلة في أم درمان، بفعل استعداداتها وخطتها المحكمة لاحتلال الخرطوم واستلام السلطة.
مرّ عيد الفطر آنذاك من دون مظاهر فرح في العاصمة، التي حوّلتها الحرب إلى مدينة أشباح، معظم سكانها كانوا محبوسين بين جدران المنازل، في ظلّ أصوات القذائف وأزيز الرصاص، اختلطت مع أصوات التكبيرات في بعض المناطق القليلة التي شهدت إقامة الصلاة.
وبعد مرور عامين بالضبط، استيقظ السودانيون صبيحة يوم الأربعاء، السادس والعشرين من رمضان، بين مصدّق ومكذّب لأنباء تقدّم متسارع للجيش السوداني في العاصمة الخرطوم، فيما شوهدت أرتال من عناصر مليشيا الدعم السريع، وهي مولية الأدبار خارج العاصمة عبر جسر جبل الأولياء. وبحلول عصر ذلك اليوم، حطّ البرهان بمروحيته العسكرية داخل مطار الخرطوم، لأول مرة منذ اندلاع الحرب في رمضان 2023.
4 أعياد دون طعم
مرّت أربعة أعياد على الخرطوم كأن لم يكن بها حياة على الإطلاق؛ عيدان للفطر، وعيدان للأضحى، في ظلّ احتلال الدعم السريع للعاصمة السودانية، ذاق خلالهما كل سكان الخرطوم أصنافًا من الإهانة والعذاب، حتى الذين نجحوا في مغادرة العاصمة إلى الولايات الآمنة أو إلى خارج الديار، بقيت قلوبهم في الخرطوم التي تعلّقوا بها وتعلّقت بهم.
تقول سلمى أحمد، إنها غادرت مدينة بحري بعد أيام عصيبة في أواخر رمضان 2023، شمالًا باتجاه ولاية نهر النيل، ثم الولاية الشمالية، موضحة أنها فقدت إحساس الأعياد، رغم حرص المجتمعات المضيفة على تخفيف أحزانهم، ومحاولة إشراكهم في الفعاليات والأفراح المحلية.
وتضيف لـ”نون بوست”: إنها وأسرتها عادوا إلى بحري بعد استعادة الجيش للمدينة، رغم الخراب والدمار الذي شهدته المدينة، موضحة أنها وجدت ربع سكان الحي تقريبًا ما زالوا صامدين، يتشاركون ويتقاسمون القليل من الطعام والمياه والدواء.
وزادت أن جيرانها حكوا لها عن أهوال عاشوها طيلة قرابة عامين تحت سيطرة الدعم السريع، من قتل ونهب وتهديد وإذلال. وقالت إنها حرصت -رغم ذلك- على إحضار مستلزمات العيد من أسواق أم درمان المجاورة، التي لا تزال تحتفظ ببضائعها وخدماتها الأساسية.
وتابعت سلمى: صنعنا البسكويت والحلويات، وسيخرج أبنائي لأداء صلاة العيد مع الجيران والأهل في أمن وأمان، مشيرة إلى أن آخر لها في بحري يحمل ذكريات أليمة، بين انقطاع الكهرباء، وصوت القذائف، وأزيز الطائرات المقاتلة.
واختتمت بقولها: “الخرطوم بحري لا تزال تنبض في قلوبنا رغم كل شيء، ولا شيء يماثل العودة إلى بيوتنا، فلا توجد راحة إلا في بيتك”.
آمال وتحديات
يروي عاطف، وهو أحد سكان حي العمارات، كيف كانت الأوضاع صعبة في عيد الفطر الذي تلا الأيام الأولى من اندلاع الحرب، موضحًا أن التيار الكهربائي انقطع من الحي كاملًا في اليوم التالي من الحرب، بسبب قرب المنطقة من محيط القيادة العامة وقيادة الدفاع الجوي، وأن الاشتباكات طالتهم من اللحظة الأولى، ولم تمهلهم وقتًا لترتيب أوضاعهم أو المغادرة، كما حدث مع سكان الأحياء البعيدة من مركز العاصمة.
وأشار إلى أنها المرة الأولى في تاريخ الحي -بقسميه الشمالي والجنوبي- التي لم تُقم فيها صلاة العيد، ولم تكن هناك أي مظاهر فرح، بل كان الناس يحاولون تدبّر الضروريات من مأكل ومشرب من المحلات القليلة التي ظلّت مفتوحة في الأيام الأولى، قبل أن يطالها النهب من قبل عناصر الدعم السريع.
وقال محدّثنا: إنه في اليوم الرابع للعيد، اتفق مع بعض جيرانه ورفاقه على مغادرة الخرطوم، فخرجوا من الحي بحذر شديد وسط القذائف المدفعية، وأصوات الرصاص، إلى ولاية الجزيرة، ومنها غادر إلى خارج السودان.
واليوم، بعد تحرير الخرطوم، يعبّر عاطف لـ”نون بوست” عن حنينه إلى العاصمة بقوله: “اشتقنا إلى منزلنا، وإلى حياتنا الصاخبة في الخرطوم، وإلى عملنا، بعد أن مرّت علينا أربعة أعياد خارج العاصمة.. أنا وأسرتي تفرّقنا داخل وخارج السودان، بعد أن أدّت هذه الحرب إلى تشتيتنا جميعًا، ولم نذق طعم الأعياد منذ أن فارقنا الخرطوم.”
ويختتم قائلًا: “سيكون عيد الفطر هذا العام عبارة عن تجربة عاطفية معقّدة، فهو فرصةً للأمل والاحتفال بتحرير الخرطوم، ولكن أيضًا هناك تذكير بالتحديات التي سنواجهها بعد العودة، فالخرطوم تعاني من دمار واسع النطاق، وستكون هناك حاجة ماسّة إلى التضامن والتكاتف لأجل إعادة إعمار كبيرة. البنية التحتية الأساسية مثل المياه والكهرباء، في حي العمارات بالتحديد، مدمّرة بالكامل لأن الحرب تركزت عندنا من الأيام الأولى.”
ومع ذلك، يشير إلى أن أجواء الاحتفال والفرحة باتت سائدة بالفعل وسط جيرانه بعد تحرير الخرطوم، لافتًا إلى أن البعض بدأوا يخطّطون بالفعل للعودة إلى السودان بعد العيد، ومشدّدًا على أهمية إظهار الفرح بزيارة الأهل، وتبادل الهدايا، وصنع الكعك والبسكويت.
خبيز العيد pic.twitter.com/kbICswxRPf
— محمد آل الشيخ (@Mohamd_Algaily) March 28, 2025
أمّا الذين لم يغادروا العاصمة، بسبب عدم رغبتهم في ترك منازلهم، أو بفعل الظروف الاقتصادية، أو لرعاية أقاربهم المسنّين، فقد كان الوضع أشدّ وأنكى بالنسبة لهم؛ تعرّضوا للجوع والأمراض، لنقص الغذاء والدواء، فضلًا عن انعدام الأمن، وعدم وجود نظام أو قانون، وما يترتّب على ذلك من جرائم النهب المسلّح، والتهديد بالتصفية، التي طالت كثيرين بالفعل لأتفه الأسباب. هذا إلى جانب الاعتقالات، والإخفاء القسري، والعنف الجنسي.
لا شيء يعادل نعمة الأمن
من حيّ الصحافة، يقول ياسر إنه طلب من أفراد أسرته السفر إلى مسقط رأسه في إحدى الولايات الشرقية، وأصرّ على البقاء لتأمين المنزل ومنازل الجيران طيلة العامين الماضيين.
يضيف أنه عندما سمع عن أنباء تقدّم الجيش السوداني، واستعادته للقصر الجمهوري، لم يصدّق، لكثرة الإشاعات التي كانت تصلهم، مبينًا أن كثيرين ممن بقوا معه في الحي كانوا مذهولين تمامًا عند دخول قوات الجيش إلى الحي.
وكشف ياسر لـ”نون بوست” أن عناصر الدعم السريع أعدموا جاره، بسبب أنه رفض تسليمهم هاتفه الجوّال في لحظة واحدة، مشيرًا إلى أن اليأس سيطر عليه في الأشهر الأخيرة، وبقي منتظرًا قدره فقط، بسبب توحّش عناصر الدعم السريع في الفترة الأخيرة، نتيجة لشحّ مواردهم، وانعدام مصادر الدخل، بعد نهب كلّ المقتنيات، وتهريب بعضها إلى خارج الخرطوم.
ويضيف: الآن أصبحت الصحافة خالية تمامًا من المليشيا، لافتًا إلى أنه متفائل بقضاء عيد آمن، لأوّل مرة منذ سنتين. رغم أن الأسواق مدمّرة، والجيوب خالية من النقود، فلا شيء يعادل نعمة الأمن والأمان، وفق محدّثنا الذي عبّر عن تطلّعه للقاء أفراد أسرته، الذين لم يرهم منذ عيد الفطر عام 2023.
فرحة عابرة للحدود
أخيرًا، كانت الخرطوم مدينة مضيافة، لم تكن حصرًا لسكانها الأوفياء “الخرطوميين” كما يسمّون أنفسهم، ولم تكن عاصمة قومية لعموم سكان السودان فحسب، بل تميّزت بمكانة خاصّة لدى جميع الشعوب العربية والأفريقية المجاورة.
لذلك، لم يكن من المستغرب طوفان البهجة والفرح الذي اجتاح العالم العربي فور الإعلان عن تحريرها، فالحدث لم يكن سودانيًا خاصًا فقط، وقد توسّع انتشاره عبر التغطية الدولية الواسعة لخبر استعادتها من قبضة مليشيات حميدتي، وعبّر العديد من المدوّنين العرب عن فرحتهم، وضجّ موقع التواصل الاجتماعي “إكس” بآلاف المنشورات المهنّئة بعودة المدينة إلى أهلها الخرطوميين.
فقد دوّن السعودي قصي البدران: “الخرطوم تتحرر، والسودان ينتصر بإرادة شعبه العظيم.. لحظة تاريخية تُكتب بدماء الأحرار، وصمود الأبطال. كل الدعم للأشقاء في السودان في مسيرتهم نحو الاستقرار والنهوض.”
وكتب اليمني توفيق أحمد: “كما دُفنت أوهام الإمارات في السودان، وليبيا، وسوريا، ستُدفن في اليمن قريبًا! لا احتلالكم سينجح، ولا ميليشياتكم ستبقى، ولا مشاريعكم القذرة ستتحقّق. اليمن مقبرة الغزاة، وأحراره لكم بالمرصاد!”
أمّا السوري بديع صوفي، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ قام برفع العلم السوداني في دمشق، وأخذ يوزّع الحلوى على المارة وأصحاب السيارات، مطلعًا إياهم على المناسبة السعيدة، وهو الذي عاش سنوات طويلة في مدينته الثانية، الخرطوم، وربّما لم يكن ليغادرها لولا اندلاع الحرب واحتلال مليشيات حميدتي.
يعود عيد الفطر هذا العام، وقد تبدّل الوضع، و”ضحكت سماء الخرطوم”، بعد أن بكت، وعانت من احتلال بغيض لحولين كاملين، فحقّ لأهل السودان أن يبتهجوا، وأن يذرفوا دموع الفرح في عيد الفطر، فقد كانت قلوبهم معلّقةً بالأمل، حتى في أصعب اللحظات، لأن “الخرطوم ما بتموت”، وأهلها صامدون كشجرة التبلدي.