تستمد الشعارات لأي نضال قوتها من مصدرين، المصدر الأول: هو حجم التضحية المبذول في هذه المعركة؛ فتصبح الكلمات صادقة .. والمصدر الثاني: هو بساطة الكلمات، ومدى ملامستها للواقع وتعبيرها عنه وعن قيمة الحق المجردة؛ فتصبح ذات معنى.
خلال السنوات الثلاث الماضية، ومع كل معركة وصراع جديد للثورة، أُنتجت العديد من الشعارات لمعارك مختلفة، “أنا اللي هتفت سلمية” و”فدا بلادي تروح الروح ولا أشوفها بتتعسكر”، دُفعت التضحيات غالية من عمر هذا الجيل، فأصبحت الشعارات صادقة، لكن مع مرور الوقت والأحداث أصبح الشعاران ضعيفين، وذبلت قواهما أمام الاختبار الثاني، وهو الواقع، ففي النهاية اكتشفنا أنه في الثورات ليس هنالك وجود لهذا المفهوم الساذج عن السلمية، وأن الثورة التي يتم ترويضها ولا ينمو لها أشواك، تتخبط حتى تهلك، وعلمنا أن دولة العسكر لا تأتي بالأساس إلا على أرواحنا، ولا تستمد قواها إلا حين ننكسر نحن.
“محمد صلاح سلطان”، 26 عامًا، شاب مصري الأصل وأمريكي الجنسية، يعتز بكل جزء من كلتا هويتيه، تخرج من جامعة ولاية أوهايو في أمريكا ببكالوريوس علوم اقتصادية، انتقل إلى مصر لظروف عائلية صحية، وكان يعمل في إحدى شركات الخدمات البترولية، لم يمر شهران من وصوله لمصر حتى ذهبت قوات الشرطة لاعتقاله من منزله بتاريخ 27/8/2013، تم اعتقاله وكان قد أصيب في فض رابعة بإصابة خطيرة في كتفه، لم يتلق على إثرها العناية الصحية اللازمة، انتقل بين أقسام الشرطة، وتم تعذيبه وتجديد حبسه، والتحقيق معه في ظروف غير آدمية.
في 26/1/2014 وفي ظل حالة صحية متدهورة دخل محمد سلطان في إضراب كامل عن الطعام، اُختير”Dying To live” أو “يموت ليحيا” كشعار للمعركة التي بدأها محمد منفردًا في مواجهة نظام كامل، دون أن تشفع له جنسيته لأكبر دول العالم نفوذًا وقوة.
“اللاحياة” وهي تلك المنطقة بين الموت والحياة، حيث يغيب المعنى والصدق .
عندما قرأت شعار معركة محمد سلطان التي يخوضها أمام دولة ونظام كامل “يموت ليحيا” للمرة الأولى، لم أتوقف عنده كثيرًا، ولم أحاول فهم حقيقة ما يعنيه، وألهاني عن ذلك حجم التضحية الأسطوري الذي يقدمه في هذه المعركة، وحين أعدت قراءته ظننت أن معناه يقتصر على أن محمد سلطان يقدم جزءًا من صحته كوسيلة للضغط على النظام؛ لينتزع حريته وحياته منه، في النهاية لا أملك أن أتكلم عن جدوى الإضراب في مواجهة من لايدركون معنى كلمة إضراب، أو ما الذي يدفع أحد للقيام به، ولكن الآن أدرك أن نتائج المعركة التي يخوضها محمد سلطان ورافقه فيها عبد الله الشامي الذي انتزع حريته، ومازال يرافقه فيها إبراهيم اليماني، الذي يدخل إضرابه اليوم الـ67 ، لن تكون لهم وحدهم، وأنهم لا يموتون ليحيوا هم فقط، ولكن لنحيا نحن أيضًا، بل وإني أظن أن من يصنعون البطولات في التاريخ لا يدركون من متعة وزهو هذه البطولة والعظمة شيء، وإنما من يأتي من بعدهم ومن يراقبون عن بعد هم من يقتاتون عليها.
يموت محمد سلطان، ونحن نحيا مقتاتين على كل كلمة يكتبها في رسالة تخرج لنا، وعلى كل صورة له تظهره وقد انسحبت من جسده أسباب الحياة، وأضناه الإعياء وتضاءل، ولكن بعد نظرة ثانية للصورة، تدرك أن العالم من حوله هو ما تضاءل وأصبح أكثر إعياءًا وليس محمد، يموت محمد سلطان ويأتي نضاله كصفعة على وجه هذا الجيل المثقلة أرواحه بالهزائم وخيبات الأمل، يخبرنا أن العجز والضعف والوهن الحقيقي هو ذلك الغلاف من البكائيات عن الثورة الضائعة ورثائها، والأحاديث عن الهجرة والسفر، والسخرية من الجيل الأكبر الذي أحطنا أنفسنا به، يموت محمد سلطان ويثبت لنا أنه مازال بإمكاننا – بل علينا – مدافعة قسوة هذه الحياة، وأننا نملك الخيار، حتى وإن انقطعت عنا كل الأسباب المادية، يموت محمد سلطان مربكًا لكل موازين القوة داخل هذا الكيان المتهالك المسمى بالدولة، يموت محمد سلطان مانحًا هذه الحياة ما يجعلها تسمى بذلك، ومانحًا إيانا ما يجعلنا نسمى بأحياء .. الصدق والمعنى.
بالأمس كانت جلسة الاستماع الخاصة بمحمد سلطان، ظهر في قاعة المحكمة بداخل القفص مستلق على سرير متحرك غير قادر على الحركة أو الكلام، بنهاية هذا اليوم يتم محمد يومه الـ 150 في إضرابه عن الطعام، والـ 19 في اضرابه عن المياه، مصابًا بتجلط في الرئة وجفاف ويشتبه دخوله في غيبوبة كاملة، قررت المحكمة إعادة نقله إلى العناية المركزة في مستشفى القصر العيني تحت الحراسة المشددة وتأجيل جلسة الحكم لـ 8/7/2014، قد لا يستطيع محمد حضور جلسة النطق بالحكم الخاصة به، سواءًا كانت اللحظات القادمة هي الأخيرة في حياة محمد أم لا، لكن من المؤكد أنه استطاع أن ينتزع حريته .
“أنا مضرب عن الطعام:
علشان سنة من أحلى سنين عمري وشبابي انصرفت مني ظلم .. علشان ما ينصرفش مني أكثر من كده.
لأن كل جهة بإيديها سلطة بشرية شيفاني وبتعاملني كخصم بدون ماتسمع قصتي .. علشان أنا مش خايف من الموت اللي أصبح قريب .. عايز أعيش بس أعيش حر أو أموت حر .. وإذا كانت حياتي ثمن الحرية فغالي والطلب رخيص”.
جزء من رسالة كتبها محمد سلطان من مستشفى ليمان طرة بتاريخ 11/5/2014.
صفحة حملة التضامن مع محمد سلطان على الـ “فيس بوك”